لم يمضِ وقت طويل على انتخاب الرئيس اللبناني جوزاف عون، في مرحلة مفصلية في تاريخ لبنان، حيث علق اللبنانيون آمالاً كبيرة على أن يكون انتخابه بداية لمرحلة جديدة تُنهي هيمنة حزب الله على مؤسسات الدولة، بيد أنّ عون سرعان ما وجد نفسه وسط عاصفة انتقادات سياسية.
وبدت خيارات عون بعيدة عن التوقعات التي كان يعقدها خصوم حزب الله المصنف جماعة إرهابية في الولايات المتحدة، لاسيما أن انتخابه جاء بعد الضربة القاسية التي تلقاها الحزب من إسرائيل إثر فتحه "جبهة الإسناد" في 8 أكتوبر 2023،
وبينما كان من المنتظر أن يتخذ عون قرارات حاسمة للحد من نفوذ الحزب، جاءت بعض خطواته، وفقاً لمنتقديه، لتعطي الحزب هامشاً جديداً لإعادة التموضع وتعزيز هيمنته، ما اعتُبر تكراراً لأخطاء العهود السابقة.
التعيينات الحكومية والأمنية للفئة الأولى كانت من بين أبرز القرارات المثيرة للجدل، حيث قوبلت بانتقادات حادة من أوساط سياسية وشعبية.

ورأى هؤلاء أن قراراته لم تخرج عن إطار النهج السياسي التقليدي، الذي يرسّخ المعادلات القائمة بدلاً من العمل على تغييرها، معتبرين أنها لا تعكس إرادة حقيقية للإصلاح.
وفي ظل هذا الواقع، تصاعدت التساؤلات حول قدرة عون على الوفاء بوعوده التي أطلقها في خطاب القسم التي تتوافق مع تطلعات اللبنانيين الذين ضاقوا ذرعاً من هيمنة حزب الله على مؤسسات الدولة، واستشراء الفساد والمحاصصة.
الحكومة.. تنازلات أم توازنات؟
وانتخاب رئيس الجمهورية جرى بطريقة يمكن اعتبارها "فزلكة" قانونية ودستورية، بل تلاعباً على الدستور، كما قال الأستاذ المحاضر في القانون الدولي بجامعة ستراسبورغ المدعي العام السابق في المحكمة الخاصة بلبنان، الدكتور دريد بشراوي، إذ أن "قائد الجيش لا يحق له الترشح للرئاسة دون تقديم استقالته قبل ذلك بسنتين على الأقل".
إلا أن بشراوي اعتبر أن الهدف من هذا الإجراء "كان بدء مسيرة جديدة للبنان عنوانها السيادة والحرية والاستقلال، وحصر السلاح بيد الجيش اللبناني".
وجاءت أولى الانتقادات لعون فور إعلان التشكيلة الحكومية، وفي هذا السياق، قال بشراوي "رغم الحديث عن استبعاد الحزب من الحكومة، في ظل الضغوط الدولية للحدّ من نفوذه، تبيّن أن العكس تماماً هو الصحيح".
وأشار إلى أن "الثنائي الشيعي يحظى بتمثيل مباشر من خلال أربعة وزراء، إضافة إلى وزير خامس محسوب على الحزب بشكل غير معلن".
وأضاف بشراوي أن وزارة المالية أُسندت أيضاً إلى الثنائي الشيعي، "رغم المعارضة الكبيرة لهذا القرار، ما يعكس استمرار نفوذ الحزب وحلفائه داخل الحكومة، خلافاً للتوقعات التي كانت تشير إلى تقليص دوره".
إسناد وزارة المالية للثنائي الشيعي عدّ تنازلاً من قبل العهد الجديد، كونه منح الحزب مزيداً من القدرة على التأثير في الملفات المالية والاقتصادية الحساسة، في وقت يواجه فيه لبنان أزمة مالية خانقة، تستدعي إصلاحات جذرية وضخ مساعدات خارجية لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
محاصصة التعيينات الأمنية
لم تتوقف الاعتراضات عند الحكومة، بل امتدت إلى ملف التعيينات الأمنية، حيث أثارت بعض التعيينات حفيظة قوى سياسية، إذ رأت فيها محاولة للحفاظ على نفوذ قوى الأمر الواقع داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، بدلاً من تعزيز استقلاليتها.
ووفقاً لبشراوي، فإن هذه التعيينات تتناقض تماماً مع الدستور وخطاب القسم، موضحاً أن "الدستور اللبناني، رغم عدم نصه صراحة على آلية التعيينات الأمنية، يحدد بوضوح فصل الصلاحيات بين السلطات ويمنح مجلس الوزراء حصرياً صلاحية التعيينات الأمنية..".
وبالتالي اتفاق عون ورئيس مجلس النواب، نبيه بري، وهو حليف حزب الله، "على هذه التعيينات خارج إطار مجلس الوزراء، ثم فرضها لاحقاً عليه، يعتبر مخالفة دستورية واضحة"، وفق بشرواي.
كما خالف رئيس الجمهورية وعده في خطاب القسم، حين قال، كما أشار بشراوي، "عهدي مع المجلس النيابي ومجلس الوزراء أن نعيد هيكلة الإدارة العامة وأن نقوم بالمداورة في وظائف الفئة الأولى في الإدارات والمؤسسات العامة، وهو ما لم يحصل، حيث إن الآلية التي اعتمدت هي: إرضاء الثنائي ومتابعة الخضوع لإملاءاته، وهكذا فكل رئيس يعيّن أزلامه. فالميليشيا والمحاصصة لاتزالان تتحكمان بالدولة".
من جانبه، رأى المحلل السياسي، خالد ممتاز، أن التعيينات الأخيرة في المطار والمراكز الأمنية لا تعكس رضوخاً من رئيس الجمهورية جوزاف عون للثنائي الشيعي، بل تأتي في إطار "المحاصصة القائمة في البلد".
وأوضح أن "الاعتراض ليس على مبدأ المحاصصة بحد ذاته، فهو نهج شائع في الأنظمة السياسية، لكن المشكلة تكمن في آلية اختيار الأشخاص، إذ كان ينبغي أن تؤخذ الكفاءة والرتبة والنزاهة بعين الاعتبار".
وأشار ممتاز إلى أن توزيع التعيينات جرى وفق آلية المحاصصة التقليدية، "حيث نال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط حصة المطار، والرئيس سعد الحريري حصة مديرية قوى الأمن الداخلي، ورئيس مجلس النواب نبيه بري مديرية الأمن العام، بينما احتفظ رئيس الجمهورية بحصة قائد الجيش"، مشدداً على أنه "بهذه الطريقة، لا أرى أي إمكانية لتطبيق بنود خطاب القسم الرئاسي".
وكان النائب التغييري ميشال دويهي، كتب في صفحته على "إكس"، "تفضيل الكفاءة على الزبائنية والوطنية على الفئوية، هذا ما ورد في خطاب القسم. ملء الشواغر وذلك وفق آلية شفافة تضعها الحكومة هذا ما ورد في البيان الوزراي. وبالتالي يحقّ لنا ان نسأل: أين الكفاءة وأين هي هذه الآلية في التعيينات الأمنية المطروحة؟".
وخلال مناقشة التعيينات الأمنية في مجلس الوزراء الخميس الماضي، اعترض وزراء القوات على بعض الأسماء التي وردت حولها تساؤلات في الرأي العام، إضافة إلى أسلوب التعيين الذي لم يفتح المجال للنقاش من قبل الوزراء.
وكتب القيادي في القوات اللبنانية، شربل عيد، على "إكس"، "وزراؤنا في جلسة الحكومية: اعتراض على بعض الأسماء في التعيينات وعلى الآلية المتّبعة في التعيين".
وزراؤنا في جلسة اليوم:
— Charbel Eid (@MeCharbelEid) March 13, 2025
• اعتراض على بعض الأسماء في التعيينات وعلى الآلية المتّبعة في التعيين
• الطلب من الحكومة دعوة المجلس الأعلى للدفاع الى الاجتماع وتحديد مهلة زمنية قصيرة لتسلّم سلاح ميليشيا حزب الله
• اعداد الحكومة مشروع مرسوم لخفض رسوم موازنة ال 2025 بعد اعتراضنا عليها… pic.twitter.com/sSEtiQxPxW
أما عضو المجلس المركزي في "القوات اللبنانية" رئيس الدائرة الثقافية، الكاتب السياسي، جورج حايك، فكتب على صفحته عبر "إكس"، "آليات التعيينات الأمنية fake في ظل تدخلات الثنائي الحزبي الشيعي!".
آليات التعيينات الأمنية fake في ظل تدخلات الثنائي الحزبي الشيعي!
— Georges E. Hayek (@georgeshayek712) March 11, 2025
Nabad10452@samiakhaddaj@RaymondFHakim
تابعوا الحلقة كاملة على الرابط التالي:https://t.co/oZWXqJeOmx pic.twitter.com/4LUSbaNMzQ
في الجانب الآخر، أكد وزير الإعلام بول مرقص، خلال تلاوته قرارات مجلس الوزراء أن "التعيينات في الجيش والأمن كانت وفق الخبرات والكفاءة"، مشدداً على أنه "نعمل في مجلس الوزراء بدقّة مع الحرص الشّديد على المعايير والكفاءات".
تعويم حزب الله؟
وفيما إن كانت القرارات التي اتخذها عون تساهم في إعادة تعويم حزب الله بعد الضربات التي تلقاها، سواء في الحرب أو على الساحة الداخلية اللبنانية؟ يجيب بشراوي "قد لا يكون قصد رئيس الجمهورية إعادة تعويم حزب الله، لكن من الواضح أن القرارات المتخذة حتى الآن تؤدي عملياً إلى ذلك".
من جانبه، اعتبر ممتاز أن "هذه التعيينات لا تعيد تعويم الحزب لكنها تسهم في إعادة تعويم الطبقة الحاكمة بأكملها".
وشرح: "تعويم حزب الله بات أمراً شبه مستحيل في ظل الظروف الراهنة، وما يحدث على الحدود الشرقية والجنوبية للبنان دليل واضح على ذلك. لا شيء من اتفاق وقف إطلاق النار يُنفَّذ، والحرب بين الحزب وإسرائيل لم تنتهِ بعد، ومن يعتقد أن حرب 2023 قد انتهت فهو مخطئ".
وفيما يتعلق بحصرية السلاح بيد الدولة كما جاء في خطاب القسم، أكد بشراوي أن "تنفيذ هذا المشروع لم يبدأ فعلياً حتى اليوم"، وأشار إلى أنه ليس متفائلاً حيال تصريحات نائب رئيس الحكومة، طارق متري، الذي "أعلن عدم وجود رزنامة لتسليم السلاح، إضافة إلى التمييز بين سلاح حزب الله وباقي الأسلحة غير الشرعية".
وأكد بشراوي أن هذا التوجه يتناقض تماماً مع قرارات الأمم المتحدة، مثل القرارين 1701 و1559، اللذين ينصّان على تسليم جميع الأسلحة غير الشرعية.
وقال: "بدلاً من تطبيق القرارات 1701 و1680 و1559، التي تنص على نزع سلاح الميليشيات وترسيم الحدود الشرقية التي تُركت دون ضبط عمداً، تعلن السلطة القتال إلى جانب الميليشيا، مستمرةً في السياسات السابقة...".
وأضاف: "يمكن فهم هذا الموقف على أنه محاولة للالتفاف على القرارات الدولية، ما يتناقض مع خطاب القسم والبيان الوزاري، ويؤدي إلى الانخراط في لعبة حزب الله، الهادفة إلى جر الدولة إلى صراع مع الحكم السوري الجديد وتبرير الإبقاء على سلاح الحزب غير الشرعي. يبدو أن الدولة لا تزال تخشى الدويلة".
وحذّر بشراوي من أن استمرار عون في هذا النهج سيؤدي إلى فقدان لبنان للدعم الدولي والإقليمي، مؤكداً أن "عدم احترام خطاب القسم والتعهدات التي أعلنها سيعرّض البلاد لعقوبات اقتصادية ومالية قاسية، ليس فقط من الولايات المتحدة، بل ربما من مجلس الأمن الدولي أيضاً".
وأشار إلى أن المجلس" قد يتخذ قراراً جديداً لتنفيذ مضمون القرار 1701، إضافة إلى القرارين 1559 و1680، ما يعني فرض المزيد من الضغوط على لبنان".
رغم ذلك، يرى بشراوي أن عون لا يزال أمامه وقت لتصحيح المسار، لكنه بحاجة إلى اتخاذ خطوات حاسمة بعيداً عن التوازنات السياسية التي عرقلت الإصلاحات.
وختم بشراوي محذراً "إذا استمر الرئيس عون في هذا النهج، فإن لبنان سيواجه مستقبلاً مليئاً بالصعوبات، وقد تكون العواقب كارثية من الناحية المالية والاقتصادية، فضلاً عن تكريس هيمنة حزب الله على الوضع في البلاد مجدداً".
أما ممتاز، فيرى أن "لبنان فقد الدعم الدولي والإقليمي بالفعل، بغض النظر عن التصريحات الدبلوماسية. الوضع يتجه نحو الأسوأ، ولا توجد أموال لإعادة الإعمار أو حتى لإعادة تكوين الدولة اللبنانية واستعادة الودائع. الأزمة أكبر مما يدركه البعض، والفرصة التاريخية ضاعت".
يذكر أن موقع "الحرة" تواصل مع مستشار لرئيس الجمهورية للتعليق على الانتقادات الموجهة إلى عون، لكنه لم يتلقّ أي رد.