حزب الله لم يعد يمتلك القدرة العسكرية على التحرك في الجنوب كما كان في السابق (رويترز)
حزب الله لم يعد يمتلك القدرة العسكرية على التحرك في الجنوب كما كان في السابق (رويترز)

مع استئناف الحرب في غزة، وتصاعد الحديث عن احتمال شنّ هجوم إسرائيلي أو أميركي على منشآت نووية إيرانية، إلى جانب الضربات الأميركية لمواقع الحوثيين في اليمن، تتزايد التساؤلات حول ما إذا كان التصعيد سيمتد إلى الجبهة اللبنانية.

الضغوط المتزايدة على طهران وحلفائها تثير مخاوف من أن تلجأ إيران إلى تحريك حزب الله ضد إسرائيل كجزء من استراتيجيتها للردع. لكن في المقابل، يواجه الحزب تحديات كبرى بعد الضربات القاسية التي تلقّاها في حربه الأخيرة، حيث خسر قيادات بارزة وتعرضت بنيته العسكرية لاستهداف مكثف.

ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل ينص على تطبيق القرار 1701، الذي يشمل تنفيذ القرار 1559 القاضي بسحب سلاح الميليشيات غير الشرعية على كامل الأراضي اللبنانية، إلا أن حزب الله وكما أكد وزير الخارجية اللبناني، يوسف رجي، خلال لقائه مع الرابطة المارونية، الأربعاء، يتنصل من هذا الاتفاق.

فهل تدفع إيران حزب الله إلى تصعيد الجبهة الجنوبية لتخفيف الضغوط عنها، أم أن الظروف الراهنة تفرض عليه تبني نهج أكثر حذراً لتجنب تداعيات حرب لا يستطيع تحمل كلفتها؟

الفصل الأخير؟

لا شك أن الحرب المتجددة من قطاع غزة إلى اليمن تستكمل أهدافها التي علّقتها المفاوضات، كما أكد المحلل السياسي الياس الزغبي، "وهي أهداف لا بدّ من أن تصل إلى إيران في خاتمتها".

إنها حرب متجددة وليست جديدة، وفق ما قاله الزغبي "بمعنى أنها تدخل الآن في فصلها الأخير بعد اندلاعها قبل سنة ونصف السنة، وبعدها تذهب المنطقة إلى التسويات والحلول ومعاهدات السلام".

وأضاف الزغبي في حديث لموقع "الحرة": "الواضح أن الولايات المتحدة الأميركية ومعها إسرائيل، ولاحقا دول أخرى، تتابع تفتيت ما تبقّى من أذرع لإيران في المنطقة، وتركّز المرحلة الحالية على القوة الباقية لحركة حماس والجهاد الإسلامي في غزة وقوة الحوثيين في اليمن، وإذا طلبت طهران مما تبقى لذراعها الثالثة في لبنان أي حزب الله العودة إلى سيرة الإسناد وحرب المشاغلة فإن الحرب ستشمل إذ ذاك لبنان للقضاء على آخر معاقل الحزب وما استطاع ترميمه من كادراته وترساناته".

وحول إمكانية دفع إيران حزب الله لفتح الجبهة الجنوبية، أوضح العميد الركن المتقاعد جورج نادر أن هناك جناحين داخل الحزب "جناح عسكري شديد الولاء لطهران، وآخر سياسي أكثر واقعية في قراءة المستجدات".

واعتبر أنه إذا قررت إيران تحريك الجبهة الجنوبية لتخفيف الضغوط المفروضة عليها، سيؤدي ذلك إلى نهاية حزب الله والدولة اللبنانية معا.

وأوضح نادر في حديث لموقع "الحرة" أن "حزب الله لم يعد يمتلك القدرة العسكرية على التحرك في الجنوب كما كان في السابق، ما يجعله غير قادر على اتخاذ أي خطوة تصعيدية، خاصة في ظل الضغوط الداخلية المتزايدة من حلفائه والسلطة اللبنانية".

وأشار نادر إلى أن الحزب يعيش هاجس العملاء والاختراقات الإسرائيلية، "خاصة بعد استهداف عدد من قيادييه بعمليات استخباراتية وتكنولوجية، مما أثر على معنويات مقاتليه".

والأربعاء، أكد رئيس مجلس الوزراء نواف سلام أن توطيد الاستقرار في لبنان يبدأ من الجنوب، وأشار خلال استقباله، وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك إلى أن "تحقيق الاستقرار يتطلب دعم لبنان في المجالات المختلفة، لا سيما في ملف إعادة الإعمار، وفي القطاعات الاقتصادية، خصوصا أن الحكومة استأنفت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ووضعت خطة شاملة للإصلاح، والتزمت الإصلاح في بيانها الوزاري، كحاجة وضرورة وطنيتين".

عواقب خطيرة

هذه المرحلة من الحرب تستهدف أذرع إيران كما قال الزغبي "وبنتيجتها يمكن رصد موقف إيران، فإمّا تستخلص الدرس وترضخ للمفاوضات بشروط واشنطن أي بوقف برنامجها النووي والتضييق على نفوذها وتدخّلها في الدول العربية، أو تصبح هدفا مباشرا للحرب وللغارات التدميرية على منشآتها النووية وقواعد صواريخها البالستية، بما قد يؤدي إلى انهيار نظامها المخنوق أصلا بالعقوبات الشديدة".

لذلك فإن دفع حزب الله للانخراط مجددا في الحرب ستكون له عواقب خطيرة عليه، بحسب الزغبي "أولا كتنظيم مسلّح وعلى بيئته المنهكة ثانيا وعلى الوضع اللبناني برمّته ثالثا، ولا شك في أنه سيعد للمئة قبل الدخول في مغامرة جديدة، خصوصا أنه فقد قيادته العليا السياسية والعسكرية وخسر القسم الأكبر من مخزونه بالصواريخ والمسيّرات".

وأضاف أن "مشكلة الحزب الكبرى الآن أن بيئته غير مؤهّلة لاستئناف الحرب بعد الأثمان الباهظة التي دفعتها، وهو لم يحرّك ساكناً ضد العمليات العسكرية الإسرائيلية بعد وقف إطلاق النار رغم أنها قتلت العشرات من كوادره وعناصره. وقد حاول التغطية على عجزه في الجنوب بتحريك جبهة الشرق الشمالي في البقاع ضد الجانب السوري تحت ستار العشائر والمهرّبين، ما دفع الجيش اللبناني للتدخل ووقف الاشتباكات بالتنسيق مع دمشق".

وشدد أنه كان من المعيب تحريكه "الأهالي" في منطقة حوش السيد علي ضد الجيش "الذي جاء لحمايتهم وتأمين الاستقرار، واتهامه بالعمالة والخيانة وإطلاق هتافات الحزب في وجهه".

كذلك يرى نادر أن حزب الله يركز في قراءته للأوضاع الإقليمية على جنوب لبنان أكثر من شرقه، "حيث يلتزم بعدم التصعيد في الجنوب رغم استمرار تمركز الجيش الإسرائيلي في خمس نقاط حدودية، وفي ظل إدراك الدولة اللبنانية لعجزها عن المواجهة العسكرية، اختارت المسار الدبلوماسي أملاً في تحقيق نتائج إيجابية".

كما كشف نادر عن تزايد التململ داخل بيئة الحزب، "خاصة مع غياب التعويضات بعد الحرب الأخيرة واستمرار معاناة الجنوبيين الذين لا يستطيعون العودة إلى منازلهم المدمرة، وسط عرقلة إسرائيلية لجهود إعادة الإعمار".

وأكد أن هذه الأوضاع تزيد من حالة الاستياء الشعبي، ما يشكل تحديا إضافيا للحزب ويدفعه لاستبعد أي رد فعل عسكري له ضد إسرائيل في المستقبل القريب.

وفي محاولة لتعويض إفلاسه العسكري في الجنوب، يرى نادر أن "حزب الله فتح معركة على الجبهة الشرقية، بهدف حرف الأنظار عن مأزقه الجنوبي".

في المقابل، لم يستبعد نادر احتمال تصعيد إسرائيلي "تحت ذريعة عدم التزام حزب الله بالقرار 1701، رغم أن إسرائيل نفسها لا تلتزم به"، مشددا أن أي تصعيد من الجانب الإسرائيلي لن يقابله رد مماثل من الطرف اللبناني.

إنه مأزق حزب الله، كما يصف الزغبي "بين تمسّكه بسلاحه خارج الدولة وطلبه منها حمايته وإعادة إعمار مناطقه في الوقت نفسه. مفارقة غريبة قد لا تحلها إلّا نيران الحرب المتجددة".

علي - حزب الله

"أنا مين؟" سأل نفسه، عائدا، على حدود الوطن.

لم يجد جوابا.

منذ غادر لبنان، لم يكن الاسم وحده ما تغيّر.

علي، الشاب الشيعي المنتمي لحزب الله منذ الطفولة، لم يقرر أن يولد عليًّا، ولم يكن يتخيل يومًا أن يصير إيلي، يقول.

من الكشافة إلى القتال

في بيت فقير، في جنوب لبنان، وُلد علي يتيمًا بين عشرة.

أمه، بلا سند، لم تجد ملاذًا سوى في الحزب الذي يفرض حضوره على كل تفصيل في المجتمع: من المدرسة إلى المستشفى، من الطفولة إلى السلاح.

هناك، لم تكن الحياة مجرد حياة؛ بل عقيدة. "نحن على الحق"، يرددونها صباحًا ومساءً. ومنذ الطفولة، صارت البندقية جزءًا من المنهج.

في عمر العاشرة، انضم علي إلى "كشافة الإمام المهدي"، حيث يبدأ الغرس العقائدي والعسكري معًا. "دورة محو الأمية" لم تكن كما توحي تسميتها؛ بل تدريبًا أوليًا على حمل السلاح. في الثانية عشرة، كان الطفل الصغير يعرف كيف يفكك البندقية، وفي الثالثة عشرة، كان يفتخر باستشهاد أصدقاء في التدريبات.

يصف علي دورات القتال بأنها "مزج من العسكر والعقيدة"، لكن العقيدة كانت الغالبة دائمًا. يتعلم المنتسبون أنهم يدافعون عن "أمة، عن شرف، عن طائفة"، وأن كل ما هو خارج هذا المسار مشبوه، خطر، أو "كفر".

 

عالم بالألوان

لكن العالم ليس أبيض وأسود. في سن الثامنة عشرة، بدأت تظهر تصدعات الشك. تعرّف علي على أصدقاء خارج "الخط"، وبدأ يرى شيئًا مختلفًا: حياة أخرى، حوارات، ضحك، نساء، ملابس ملونة، وموسيقى. كلها ممنوعة.

في إحدى الليالي، عاد إلى البيت متأخرًا، فصفعته أمه بركوة قهوة. تلك الصفعة لم تكن مجرد غضب أم، بل لحظة صدع.

"هل هذا هو الحق؟"، تساءل لأول مرة.

ومن هذا السؤال، بدأ كل شيء يتغير.

الهروب من القدر

رفض علي دعوة الحزب للانضمام إلى دورة تؤهله ليصبح "متفرغًا". كان يعلم أن القبول بها يعني بلوغ نقطة اللاعودة. فقرر أن يغادر. هرب من عائلته، من أصدقائه، ومن اسمه.

سافر إلى تركيا، ومنها حاول عبور البحر إلى أوروبا على "قوارب الموت". غرق ثلاث مرات. في كل مرة، كان الموت قريبا وكان كأنه يولد من جديد. أعادته النجاة إلى السؤال الأصلي: من هو؟ وماذا يريد أن يكون؟

من علي إلى إيلي

بعد فشل محاولة اللجوء، عاد إلى لبنان. في مطار بيروت، وقف حائرًا: لا أهل، لا أصدقاء، ولا خط عودة إلى الحزب. دق باب صديق قديم، فأتاه الجواب:

"في عائلة بدها حدا يساعدها... بس في مشكلة: اسمك علي".

ضحك، وقال: "خليه إيلي".

هكذا بدأ فصلاً جديدًا من حياته، يعيش مع عائلة مسيحية، يذهب معهم إلى الكنيسة، يشاركهم التراتيل، ويشعر لأول مرة بأنه إنسان، فقط إنسان.

"أنا مين؟" يعيد السؤال، هذه المرة بثقة أكبر. لا يريد أن يكون تابعًا، ولا أن يُملى عليه ما هو الحق وما هو الباطل. "بدي أكون إنسان يقرر، يشوف، يعرف".

تغير الاسم، بقي السؤال، لكن صارت لديه حرية البحث عن إجابة.