بأغلبيّة 17 وزيرًا ومعارضة 7 وزراء محسوبين على رئيس الحكومة نواف سلام، أقرّ مجلس الوزراء اللبناني تعيين كريم سعيد حاكمًا جديدًا للمصرف المركزي في بلد يعاني من تعثّر مالي كبير في ظلّ أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة، بالإضافة إلى الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل والتي كبّدت المالية العامة خسائر بملايين الدولارات.
الخطوة كانت منتظرة في ظلّ الملاحقات المالية في حقّ الحاكم السابق رياض سلامة، محليًا ودوليًا، والموقوف منذ 3 سبتمبر 2024، ومع انطلاقة العهد الجديد، والحاجة إلى حاكم أصيل بعد أشهر على تولي وسيم منصوري هذه المسؤولية بالإنابة بعد توقيف الحاكم السابق.
ومن المتعارف عليه في لبنان أنّ حاكم المركزي يكون متناغمًا مع سياسة رئيس الجمهورية، كما هي الحال بالنسبة إلى قائد الجيش، الذي يقوم مجلس الوزراء بتعيينه بترشيح ولو غير رسمي من الرئيس، باعتبارها مواقع للطائفة المارونية وفق التركيبة اللبنانية.
الجديد في التعيين هذه المرة الخلاف الذي وقع قبل الجلسة بين رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، والذي عبّر عنه سلام في تصريحه بعد الجلسة، إذ قال صراحة "تحفّظتُ على تعيين كريم سعيد حاكمًا لمصرف لبنان، وعليه منذ الآن اعتماد السياسة المالية لحكومتنا والالتزام بقضيّة الودائع"، وأضاف: "وافقنا على مشروع قانونٍ لتعديل قانون السريّة المصرفيّة، ونحن مصرّون على الإصلاح".
ومن جهته قال وزير المال ياسين جابر إنّه كان يأمل "ألّا يُطرح موضوع حاكم مصرف لبنان على التصويت"، ويفضّل التوافق عبر لائحة ضمّت اسمَين: كريم سعيد وأدي الجميّل، بعد انسحاب جميل باز، مشيرًا إلى امتلاكه اسمًا ثالثًا "من خارج الأسماء المتداولة والاصطفاف السّياسيّ".
وكان كريم سعيد، الحاكم الجديد، قد وصل إلى القصر الجمهوري أثناء انعقاد جلسة مجلس الوزراء بناء على طلب رئيس الجمهورية، وبهدف تعريف الوزراء به، لتنتهي الجلسة بتعيينه رسميًا حكامًا أصيلا للمركزي، وبمعارضة رئيس الحكومة نواف سلام ونائبه طارق متري ووزير الثقافة غسان سلامة ووزيرة التربية ريما كرامي ووزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيد ووزير الداخلية أحمد الحجار ووزير الاقتصاد عامر البساط.
الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة، اعتبر لموقع "الحرة"، أنّ "تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان خطوة في غاية الأهميّة، بل أكثر من ضروريّة، نظرًا إلى حجم المسؤوليات التي يتحمّلها هذا الموقع الحيوي في الدولة اللبنانية"، إذ برأيه "لا يمكن أن تبقى مثل هذه المواقع شاغرة، بخاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية والنقدية الراهنة، مما يجعل من تعيين حاكم أصيل للمصرف المركزي خطوة أساسية وجوهرية بغض النظر عن هُوية الشخص الذي تم تعيينه، فإن هذا القرار يُعدّ تطورًا إيجابيًا يُحسب للعهد والحكومة".
وبشأن الاعتراضات التي أثيرت عن تعيين الحاكم الجديد، فاعتبر عجاقة "أنّ الصلاحيّات الأساسيّة المرتبطة بالإصلاحات الكبرى تقع ضمن نطاق عمل الحكومة والمجلس النيابي، بينما تتركّز مهام الحاكم في الإشراف على القطاع المصرفي وإدارة السياسة النقدية"، لذا فبرأيه، إنّ "أيّ مخاوف متعلّقة بصلاحيات الحاكم يجب أن تؤخذ في إطارها القانوني الصحيح، إذ إن القرارات المصرفيّة تخضع لرقابة السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة".
وعن التحديات الكبرى التي يواجهها الحاكم الجديد، فيرى عجاقة أنّ أبرزها "معالجة ملف القرض الحسن (مؤسّسة مالية تابعة لحزب الله من خارج النظام المصرفي في لبنان) والسياسة النقدية وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. وفي ما يخصّ القرض الحسن، يُعَدّ هذا الملف برأي عجاقة "معقّدًا نظرًا لارتباطه بأبعاد سياسية، مما يضع الحاكم أمام خيارين: إما التقدم بشكوى ضد القرض الحسن، أو محاولة إدراجه كمؤسّسة مالية مرخصة تخضع للقوانين المصرفية اللبنانية، غير أن هذا المسار يستوجب الخوض في تفاصيل مالية وإدارية معقدة، فضلًا عن دور لجنة الرقابة على المصارف في هذا الإطار".
أما على صعيد السياسة النقديّة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، فإن التحدي الأبرز كما يقول عجاقة "يتمثل في كيفية إدارة سعر الصرف، إذ وفقًا لقانون النقد والتسليف، فإن تحديد سعر الصرف هو من صلاحيات المجلس النيابي، لكن نظرًا لعدم صدور قانون جديد منذ ستينيات القرن الماضي، مُنحت هذه الصلاحية مؤقتًا لوزير المالية"، وفي ظل غياب إصلاحات جذريّة، من المرجح برأي عجاقة "أن تعتمد السلطات النظام المعروف بـ"الإدارة المُوجّهة لسعر الصرف" وهو نظام يتطلب تدخلات من المصرف المركزي لحماية الليرة في بعض الأوقات".
ومن التحدّيات الكبرى التي تواجه الحاكم الجديد، وفق عجاقة، "تأمين السيولة اللازمة لحماية الليرة ودعم القطاع المصرفي". ويُذكر أن الدولة اللبنانية أعلنت تعثرها عن سداد ديونها عام 2020، مما عمّق أزمة السيولة، لذا، فإن المصرف المركزي بحاجة إلى البحث عن مصادر تمويل متعددة، سواء عبر الأسواق المالية، أو الدعم الدولي، أو غيرها من الآليات الممكنة لضخ السيولة في الاقتصاد.
ويبقى نجاح الحاكم الجديد، بحسب عجاقة، "رهنًا بقدرته على مواجهة هذه التحديات بفعالية، ووضع استراتيجيات توازن بين حماية القطاع المصرفي وضمان استقرار الليرة اللبنانية. وبينما تستمر الأزمة الاقتصادية في الضغط على لبنان، يظل تعيين حاكم جديد خطوة إيجابية، شرط أن تترافق مع إصلاحات حقيقية وجدية على المستوى التشريعي والتنفيذي".
من جهتها، اعتبرت الصحافية سابين عويس "أنّ تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان خطوة إيجابية جاءت في وقتها، رغم الأجواء الخلافية بين رئيسَي الحكومة والجمهورية حول الاسم، وهذه الخطوة تحمل إشارة قوية للخارج، وخصوصًا للدول والمؤسّسات المانحة، بأن لبنان جاد في تنفيذ التزاماته الإصلاحية، تمامًا كما هو مطالب بتنفيذ التزاماته السياسية، مثل تطبيق القرارات الدولية 1701 و1680، في ظل استمرار التوتر على الحدود الجنوبية والشمالية الشرقية".
وتابعت عويس أنّ "الملف الأبرز أمام الحاكم الجديد كريم سعيد هو إعادة هيكلة القطاع المصرفي، لما لذلك من أهمية في إعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني، وتأمين الشروط المطلوبة للدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي، والذي يُعتبر مفتاحًا للحصول على دعم مالي دولي، سواء لملف إعادة الإعمار أو للتعامل مع المديونية واستعادة النمو الاقتصادي".
وعن القضايا الشائكة التي تحتاج إلى معالجة فورية بنظر عويس فهي "اقتصاد "الكاش"، الذي تفاقم في السنوات الأخيرة، وأصبح يشكل مصدر قلق لواشنطن، التي تسعى إلى ضبط هذه الظاهرة لما لها من تأثير على الرقابة المالية ومكافحة تبييض الأموال".
وفيما يترافق تعيين كريم سعيد مع جدل واسع حول توجّهاته، أشارت عويس "إلى أن موقع الحاكميّة يفرض عليه الالتزام بسياسة الحكومة الاقتصادية، بغض النظر عن أي آراء أو توجهات سابقة قد تكون لديه، كما أن السيرة الذاتية له تعكس مؤهّلات وخبرة في المجال المصرفي، إلى جانب نزاهته وعدم انخراطه في المنظومة السياسية الفاسدة، مما يجعله شخصيّة مقبولة لتولّي هذا المنصب في هذه المرحلة الدقيقة" وفق تعبيرها.
وعن التحفظات التي عبّر عنها رئيس الحكومة نواف سلام وبعض الأطراف السياسية، فوفق عويس "قد تكون مبرّرة إلى حدّ ما، لكنها ليست في محلها بالكامل، فمن جهة، هناك قلق من توجّهاته الاقتصادية، لكن لا يمكن الجزم بأنه سيتبنّى سياسات مغايرة للتوقّعات، بخاصة أنه سيكون ملتزمًا بسياسات الحكومة". وتابعت عويس "أن ما يُشاع عن وجود خطة اقتصادية سرية لديه ليس دقيقًا، فحتى لو كانت لديه مقترحات سابقة، فإن موقعه الجديد يفرض عليه مقاربة مختلفة تأخذ في الاعتبار الوقائع المالية والمصرفية الحالية".
واعتبرت عويس أنّ هناك محورين أساسيين يجب أن يشكلا أولوية للحاكم الجديد هما "إعادة هيكلة القطاع المصرفي واستعادة ثقة المستثمرين وجذب رؤوس الأموال من جديد"، والأهمّ برأيها هو "ضبط الأنشطة المالية غير المشروعة بما فيها معالجة ملف اقتصاد "الكاش" الذي يثير قلقًا دوليًا وتشديد الرقابة على التحويلات المالية لمنع تبييض الأموال، بالإضافة إلى لعمل على تجفيف منابع تمويل حزب الله، بناءً على الضغوط الأميركية لمنع أي عمليات تبييض أموال مرتبطة بتمويل الإرهاب".
ويبقى السؤال الأهم بالنسبة للمودعين هو مصير أموالهم، وعن هذا الأمر قالت عويس إنّه "بعد ست سنوات من الاقتطاع الفعلي على الودائع، لا يمكن لأي مسؤول أن يعد اللبنانيين باستعادة كل أموالهم، لكن هناك أمل في إعادة جزء كبير منها، بخاصة لصغار المودعين، عبر خطط مدروسة قد تشمل آليات مثل الـ Bail-in أو إجراءات أخرى تهدف إلى تقليل الخسائر". وبرأيها "لن يستطيع لبنان تأجيل الحلول لعشر أو خمس عشرة سنة، بل ستكون هناك إجراءات عاجلة خلال السنوات القليلة المقبلة لاستعادة الثقة بالنظام المصرفي، مما يساعد في تحفيز النمو الاقتصادي وعودة رؤوس الأموال".
إذًا نجح لبنان في تخطّي إشكال كاد أن يفجّر مجلس الوزراء وسط خلاف وسط بالحادّ بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة حول تعيين الحاكم الجديد للمركزي، والذي سيبقى في منصبه طيلة ستّ سنوات مقبلة. فهل سينجح الحاكم الجديد في تخطّي العقبات التي تنتظره بخطوات عملية في ملفّات حساسة أبرزها استعادة أموال المودعين وتثبيت سعر الصرف ومكافحة الأنشطة المالية غير المشروعة وتبييض الأموال من أجل إعادة القطاع المصرفي إلى مكانته السابقة؟