بعد غارة على الضاحية الجنوبية - رويترز
بعد غارة على الضاحية الجنوبية - رويترز

للمرة الثانية في أقل من أسبوع، استهدفت إسرائيل الضاحية الجنوبية لبيروت، وهذه المرة لم يكن الهدف ضرب مخزن أسلحة لحزب الله، بل اغتيال أحد قادته.

العملية الإسرائيلية التي نُفذت فجر اليوم الثلاثاء ضد حسن علي محمود بدير "أحد عناصر الوحدة 3900 في حزب الله الإرهابي وفيلق القدس"، كما أعلن الجيش الإسرائيلي، جاءت بعد خطاب الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، الذي رفع فيه مستوى التحدي، وقبل أيام من زيارة نائبة المبعوث الأميركي، مورغان أورتاغوس، إلى لبنان.

هذا التطور الأمني يثير العديد من التساؤلات بشأن الرسائل التي تسعى إسرائيل إلى إيصالها، وما إذا كان هذا التصعيد سيؤدي إلى مواجهة جديدة بينها وبين حزب الله، الذي لم يلتزم حتى الآن ببنود اتفاق وقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من مرور أشهر على دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر، لم يلتزم حزب الله حتى الآن بتسليم سلاحه للجيش اللبناني. بل على العكس، يحاول التملص من الاتفاق بذريعة أن القرار 1701 ينص على تسليم السلاح غير الشرعي فقط في جنوب نهر الليطاني، متجاهلاً أن القرار يتضمن أيضاً القرار 1559 الذي ينص على سحب سلاح الميليشيات من جميع الأراضي اللبنانية.

وفي السياق أكد رئيس جهاز الإعلام والتواصل في حزب "القوّات اللبنانيّة" شارل جبور أن "من يريد فعلاً لا قولاً، بالمزايدات، وقف الغارات الإسرائيلية وانسحابها، عليه تخيير حزب الله بين التخلي الطوعي عن مشروعه المسلّح، وبين فرض السيادة بالقوة، وأي كلام آخر هو تضليل للسبب الحقيقي للأعمال الإسرائيلية"، مشدداً في تغريدة عبر صفحته على "إكس" أن "المشكلة اسمها حزب الله".

استهدافات مشروعة..؟

تكمن الخطورة في عملية الاغتيال التي نفذتها إسرائيل في الضاحية الجنوبية "في توقيتها"، كما يرى الباحث في الشأن السياسي نضال السبع "إذ يتزامن مع قرب زيارة نائبة المبعوث الأميركي مورغان أورتاغوس إلى بيروت، مما يعكس محاولة إسرائيلية لفرض جدول أعمال الزيارة، بحيث يركز بشكل رئيسي على ملف سلاح حزب الله، إضافة إلى فرض الحوار المباشر مع لبنان".

كما أن الخطورة تتجلى وفق ما يقوله السبع لموقع "الحرة" "في استهداف إسرائيل لمبنى سكني من دون إنذار، في خطوة تختلف عن سابقاتها، إذ كانت إسرائيل تستهدف مخازن الصواريخ في حال تلقت لجنة المراقبة بلاغاً عن عدم تحرك الجيش اللبناني، مستندة إلى أحد بنود اتفاق وقف إطلاق النار"، ويلفت إلى أنه "بينما كانت الضربات الإسرائيلية تقتصر على الجنوب والمناطق النائية، فإن القصف الآن يطال معقل حزب الله في الضاحية الجنوبية، ما يشير إلى تصعيد خطير في المواجهة".

لكن، طالما أن حزب الله يواصل تحركاته العسكرية والأمنية داخل الأراضي اللبنانية، فإن إسرائيل تعتبر استهدافه كما يقول جبور لموقع "الحرة"، "مشروعاً، استناداً إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع عليه الحزب"، ويشرح "هذا الاتفاق يمنح إسرائيل الحق في استهداف الحزب أينما وجد، طالما أن الدولة اللبنانية لم تتخذ خطوات حاسمة لتفكيك بنتيه العسكرية أو لم يقم هو بحلّها تنفيذاً للاتفاق".

كذلك اعتبر عضو المجلس المركزي في "القوات اللبنانية"، رئيس الدائرة الثقافية، الكاتب السياسي، جورج حايك، أنه "طالما أن الحكومة تدفن رأسها في التراب في مسألة وضع مهلة زمنية لتسليم سلاح حزب الله، لن تقلّع ولن تتقدّم، ولن تُساهم اي دولة صديقة في تمويل إعادة الإعمار، بل ستعود الحرب عاجلاً ام آجلاً".

وأكد حايك في تغريدة عبر "إكس" أن "الدولة تحتاج الى قرار رسمي جريء اليوم قبل الغد!"، متسائلاً "ماذا تنتظرون؟".

أما العميد الركن المتقاعد، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة، هشام جابر، فيرى في حديث لموقع "الحرة" أن "التصعيد الإسرائيلي مستمر في ظل غياب الردع العسكري والدبلوماسي"، معتبراً أن الرسائل الإسرائيلية واضحة، "إذ تسعى إلى جر لبنان إلى الحرب، خاصة في هذه الفترة التي تستفيد خلالها من غياب الضغط الأميركي عليها".

وكان رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون اعتبر أن الغارة الاسرائيلية "تشكل إنذاراً خطيراً حول النيات المبيتة ضد لبنان، خصوصاً في توقيته الذي جاء عقب التوقيع في جدة على اتفاق لضبط الحدود اللبنانية السورية، وبعد زيارتنا باريس والتطابق الكامل الذي شهدته، في وجهات النظر مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون".

الرئيس اللبناني يجري مباحثات في فرنسا وسط تزايد التوتر مع إسرائيل
بدأ الرئيس اللبناني جوزاف عون، الجمعة، محادثات في باريس مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون لمناقشة إصلاحات اقتصادية وجهود تحقيق الاستقرار في البلاد، في ظل تزايد الضغوط على الهدنة الهشة بين إسرائيل وجماعة حزب الله اللبنانية.

هل يستطيع الحزب الرد؟

ما يحدث حالياً بحسب جبور "هو جزء لا يتجزأ من إبقاء لبنان ساحة لصراع إقليمي، إذ تعمل إيران على استخدام حزب الله كأداة في صراعها مع إسرائيل"، معتبراً أن الوضع لا يمكن أن ينتهي "إلا عبر بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها واحتكارها للسلاح وقرار الحرب، إذ حينها تصبح هي المسؤولة عن الوضع الأمني والعسكري في البلاد".

ويقول جبور "حزب الله رغم ضعفه الكبير وهزيمته في الحرب يتصرف وكأن شيئاً لم يكن. إذ لم يعد لديه ما يقدمه سوى التهديدات الكلامية التي سمعناها سابقاً عندما كان في ذروة قوته، ولكننا شهدنا كيف دُمرت تلك القوة في الميدان".

وفيما يتعلق برد الحزب على عملية الاغتيال، يوضح جبور أن "إسرائيل سترد حتماً على أي استهداف من قبله، لكن في مسألة الردود والتهديدات، أظهرت الحرب الأخيرة أن إسرائيل هي الفريق الأقوى بكثير".

كذلك يرى السبع أن "الحزب اليوم في وضع لا يسمح له بالرد بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدها خلال حرب الشهرين، وقطع خطوط إمداده المالية والعسكرية، فهو في مرحلة إعادة التموضع وإعادة بناء قوته الداخلية، وإسرائيل تستغل ذلك".

كما يرى أن "إسرائيل لن تتوقف عن تنفيذ عملياتها العسكرية"، مؤكداً أن "لديها شعوراً بالنشوة لكونها تعلم أن حزب الله يمر في مرحلة ضعف. ويمكن تشبيه الوضع بحلبة ملاكمة، حيث تلقى حزب الله ضربة قوية، وعندما سقط، قام خصمه بتوجيه العديد من الضربات إلى رأسه، وما زال يواصل ضرباته لمنعه من الرد أو إعادة ترتيب صفوفه".

وعلى العكس من ذلك يرى جابر أن الحزب "سيرد بالتأكيد، لكن ليس في الوقت الحالي"، ويوضح أن "حزب الله سلّم الملف للدولة اللبنانية، التي تعمل جاهدة للضغط دبلوماسياً لوقف التصعيد، لكن إذا توسعت الضربات الإسرائيلية، فسيضطر حزب الله للرد"، ولكنه لا يتوقع أن يكون الرد عبر إطلاق صواريخ على إسرائيل في الوقت القريب، "بل قد يأتي بعد أشهر من خلال تنظيم مقاومة شعبية في جنوب الليطاني".

ويضيف جابر أن "الرد الإسرائيلي قد لا يقتصر حينها على استهداف جنوب لبنان أو مراكز انطلاق حرب العصابات، بل قد يتوسع ليشمل مناطق أخرى، مما سيؤدي إلى تصعيد خطير"، معرباً عن خشيته من أن يؤدي ذلك إلى "ضرب الضاحية الجنوبية بشكل مدمر أو استهداف بنى تحتية في لبنان، ما قد يدفع حزب الله للرد بالصواريخ التي لا يزال يمتلكها".

وكان عضو كتلة "الوفاء للمقاومة"، التابعة لحزب الله، النائب علي عمار، قال خلال تفقده مكان الاستهداف الاسرائيلي في الضاحية أن "حزب الله يمارس أقصى درجات الصبر والتريث في التعامل مع إسرائيل، إلا أن لهذا الصبر حدوداً"، على حد تعبيره.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، يشير جابر إلى أن "لبنان ينتظر الجهود الدبلوماسية، لا سيما الفرنسية التي وعد بها الرئيس ماكرون. وهذه الجهود تبدو نشطة، كما أنه من المتوقع أن تعود نائبة المبعوث الأميركي إلى لبنان قريباً بعد التأكد من إمكانية العمل دبلوماسياً على وقف إطلاق النار. كما ستطلب من الحكومة اللبنانية أن تؤكد التزامها بمناقشة سلاح حزب الله في إطار استراتيجية دفاعية شاملة، رغم أن ذلك سيأخذ وقتاً".

علي - حزب الله

"أنا مين؟" سأل نفسه، عائدا، على حدود الوطن.

لم يجد جوابا.

منذ غادر لبنان، لم يكن الاسم وحده ما تغيّر.

علي، الشاب الشيعي المنتمي لحزب الله منذ الطفولة، لم يقرر أن يولد عليًّا، ولم يكن يتخيل يومًا أن يصير إيلي، يقول.

من الكشافة إلى القتال

في بيت فقير، في جنوب لبنان، وُلد علي يتيمًا بين عشرة.

أمه، بلا سند، لم تجد ملاذًا سوى في الحزب الذي يفرض حضوره على كل تفصيل في المجتمع: من المدرسة إلى المستشفى، من الطفولة إلى السلاح.

هناك، لم تكن الحياة مجرد حياة؛ بل عقيدة. "نحن على الحق"، يرددونها صباحًا ومساءً. ومنذ الطفولة، صارت البندقية جزءًا من المنهج.

في عمر العاشرة، انضم علي إلى "كشافة الإمام المهدي"، حيث يبدأ الغرس العقائدي والعسكري معًا. "دورة محو الأمية" لم تكن كما توحي تسميتها؛ بل تدريبًا أوليًا على حمل السلاح. في الثانية عشرة، كان الطفل الصغير يعرف كيف يفكك البندقية، وفي الثالثة عشرة، كان يفتخر باستشهاد أصدقاء في التدريبات.

يصف علي دورات القتال بأنها "مزج من العسكر والعقيدة"، لكن العقيدة كانت الغالبة دائمًا. يتعلم المنتسبون أنهم يدافعون عن "أمة، عن شرف، عن طائفة"، وأن كل ما هو خارج هذا المسار مشبوه، خطر، أو "كفر".

 

عالم بالألوان

لكن العالم ليس أبيض وأسود. في سن الثامنة عشرة، بدأت تظهر تصدعات الشك. تعرّف علي على أصدقاء خارج "الخط"، وبدأ يرى شيئًا مختلفًا: حياة أخرى، حوارات، ضحك، نساء، ملابس ملونة، وموسيقى. كلها ممنوعة.

في إحدى الليالي، عاد إلى البيت متأخرًا، فصفعته أمه بركوة قهوة. تلك الصفعة لم تكن مجرد غضب أم، بل لحظة صدع.

"هل هذا هو الحق؟"، تساءل لأول مرة.

ومن هذا السؤال، بدأ كل شيء يتغير.

الهروب من القدر

رفض علي دعوة الحزب للانضمام إلى دورة تؤهله ليصبح "متفرغًا". كان يعلم أن القبول بها يعني بلوغ نقطة اللاعودة. فقرر أن يغادر. هرب من عائلته، من أصدقائه، ومن اسمه.

سافر إلى تركيا، ومنها حاول عبور البحر إلى أوروبا على "قوارب الموت". غرق ثلاث مرات. في كل مرة، كان الموت قريبا وكان كأنه يولد من جديد. أعادته النجاة إلى السؤال الأصلي: من هو؟ وماذا يريد أن يكون؟

من علي إلى إيلي

بعد فشل محاولة اللجوء، عاد إلى لبنان. في مطار بيروت، وقف حائرًا: لا أهل، لا أصدقاء، ولا خط عودة إلى الحزب. دق باب صديق قديم، فأتاه الجواب:

"في عائلة بدها حدا يساعدها... بس في مشكلة: اسمك علي".

ضحك، وقال: "خليه إيلي".

هكذا بدأ فصلاً جديدًا من حياته، يعيش مع عائلة مسيحية، يذهب معهم إلى الكنيسة، يشاركهم التراتيل، ويشعر لأول مرة بأنه إنسان، فقط إنسان.

"أنا مين؟" يعيد السؤال، هذه المرة بثقة أكبر. لا يريد أن يكون تابعًا، ولا أن يُملى عليه ما هو الحق وما هو الباطل. "بدي أكون إنسان يقرر، يشوف، يعرف".

تغير الاسم، بقي السؤال، لكن صارت لديه حرية البحث عن إجابة.