مبنى مصرف لبنان في بيروت - رويترز
مبنى مصرف لبنان في بيروت - رويترز

حاكم مصرف لبنان الجديد.. بين الوعود والتحديات الاقتصادية

قال حاكم مصرف لبنان المركزي المعيّن حديثا، كريم سعيد، إن على المصرف التركيز على مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهما من أبرز مخاوف الولايات المتحدة، التي تريد منع جماعة حزب الله اللبنانية من استخدام النظام المالي والتدفقات النقدية عبر البلاد لإعادة بناء نفسها. فهل الحاكم الجديد للمصرف جاد فعلاً في هذا المسعى؟ وهل لديه الأدوات التنفيذية للقيام بذلك؟

أسئلة طرحناها على المحلل السياسي، أمين بشير، الذي أكد في حديث لموقع "الحرّة" أن "من يعرف حاكم المصرف المركزي كريم سعَيد ويعرف خلفيته جيدا، أولاً كمحامي منتسب إلى نقابة نيويورك ويعمل ضمن القوانين الأميركية وساهم في وضع السياسات المالية في العديد من الدول العربية والعمل المصرفي فيها، يدرك أن الرجل يعمل في إطار منظومة القوانين العامة الدولية ولاسيما ضمن الانتظام المالي العام لقوانين المصارف وسيكون الرجل الأمثل لمعرفة الثغرات التي تدخل عبرها عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب".

ويشير بشير إلى أنّ "حاكم المصرف المركزي الجديد هو الرجل الأمثل لمكافحة هذه الجرائم وهو الرجل المناسب في المكان والتوقيت المناسبِيَن، فلبنان يعيش تحديات كبيرة لاسيما بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وقطع طرق إمداد حزب الله في الداخل وبالتالي بعد هزيمة حزب الله عسكرياً في حربه الأخيرة مع إسرائيل والقرار الدولي بتجفيف مصادر تمويل الحزب عبر العقوبات التي طالت أعضاءه والأشخاص الذين يعملون معه وبالتالي هذا القرار الدولي أغلق مصادر التمويل التي كانت تأتي لحزب الله من سوريا، التي كانت المنفذ الوحيد غير الشرعي له والتي تخوله أن يموّل نفسه وأن يحتكر تجارة الكبتاغون وتجارة المخدرات وتزوير العملة وتجارة الأعضاء".

ويضيف المحامي والمحلل السياسي أنّه "بعد إغلاق المنافذ المحلية لحزب الله في ظل الإجراءات الأمنية المشددة اليوم في مطار بيروت بعد تهديدات إسرائيلية سابقة بقصف المطار في حال تبيّن نقل أموال من إيران لصالح حزب الله، والإجراءات المشددة المتخذة أيضا في المرفأ أو عبر التحويلات الخارجية واستقدام أموال الكاش".

وتابع "وبالتالي الخناق يضيق على حزب الله، ربما سيبحث عن مصادر أخرى لتمويل نفسه وربما يأتي من الداخل إذ أصبح لحزب الله باع طويل في التعامل مع الدولة اللبنانية على مرّ السنوات الماضية والتي سيطر فيها على الدولة ومؤسساتها واستطاع زرع الكثير من أتباعه فيها كما تمكن من السيطرة أيضا على المنظومة المالية الداخلية ودخل إلى البنوك ونستذكر البنك اللبناني الكندي وعملية إقفاله عام 2011 بعد أن فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات عليه بتهمة استخدام حساباته من جانب أشخاص ناشطين في تجارة المخدرات والسلاح لمصلحة حزب الله إضافة إلى غسل الأموال مما أدى إلى إغلاق المصرف ودمجه مع مصرف لبناني آخر وفق خطة للاستحواذ نفّذها المصرف المركزي اللبناني حينها".

ويضيف بشير أن "حزب الله سيبحث عن ملاذٍ آمنٍ له كي يستعيد تمويله إن كان عبر موضوع القرض الحسن أو مؤسسات الدولة نفسها، من هنا يقع على عاتق الحاكم الجديد للمصرف المركزي دور مهم وكبير جدا، وفي كلمته كان واضحاً الحاكم الجديد عندما تحدث عن الاحتكام إلى قوانين النقد والتسليف والقوانين المالية".

ويرى "أنه في حال تم تطبيق فقط هذه القوانين فهذا يعني أن مؤسسة القرض الحسن التابعة لحزب الله ستصبح خارج المنظومة المالية الشرعية في لبنان، وهذا يعني أنّ الصرّافين التابعين لحزب الله سيصبحون أيضاً خارج المنظومة الشرعية، ما يعني أن كل الشركات المالية التي فتحت مؤخرًا وحلّت في أحيان كثيرة، مكان صندوق خزينة الدولة أو المالية في المؤسسات العامة مثل شركات تحويل الأموال من دون ذكر الأسماء أو من خلال الطوابع المالية التي فُقدت في أوقات معينة من السوق، هذا يدل على عمل مؤامراتي داخل الدولة أن تأتي هذه الشركات المالية وتحلّ مكان الدولة وتصدر إيصالات مكان الطوابع وهذه عمليات تمويل غير مباشرة لأشخاص أو لمنظمات تقف وراء هذه الشركات".

وأوضح أن "دور حاكم المركزي مهم ّجدا، خارجيًا وداخليًا، على المستوى الخارجي: إعادة لبنان إلى الانتظام المالي العام وعلاقته بالمجتمع الدولي وإعادة هيكلة المصارف وهو أمر مهم جدًا ولكن الأهمّ وقف الأعمال غير المشروعة لحزب الله والذي ضرب فيها سمعة لبنان الخارجية، إن كان من خلال تحويل الأموال أو عبر ضرب البنوك في لبنان والمستفيد الأول كان حزب الله. إضافة إلى تحويل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد الكاش الذي أتاح لحزب الله إدخال ما يريد من الأموال بعد أن كان صعبًا عليه في السابق بسبب العقوبات الأميركية المفروضة على عناصر وأفراد وكيانات تابعة له، وبالتالي أصبح لبنان ساحة لتبييض الأموال وإدخال الأموال نقداً بكميات كبيرة".

وأشار إلى أنه "في السابق كان يتعذر شراء أي شيء من دون التصريح عن مصدر الأموال، بالتالي هذه المهمة تقع اليوم على عاتق الحاكم الجديد للمصرف المركزي أن يوقف اقتصاد الكاش الذي يستفيد منه حزب الله الذي استطاع من خلاله تبييض الأموال أن يشكّل سوقًا كبيرًا للعملة المزوّرة بعد اكتشاف مراكز كثيرة لها على الحدود اللبنانية- السورية عندما كان الأمن العام السوري يحرر مناطقه"، وهنا يستذكر بشير "العملة الورقية من فئة 50 دولار المزوّرة التي تم ضخها بوفرة في السوق واكتشف فيما بعد أنّ عملية طباعتها تمت عبر أماكن غير شرعية على الحدود اللبنانية السورية".

ولفت بشير إلى أنّه "كان هناك علامات استفهام كبيرة حول مؤسسي تلك الشركات المشبوهة وارتباطهم بحزب الله، ولإعادة انتظام الاقتصاد اللبناني يجب وقف المؤسسات المالية غير الشرعية عبر مبدأ تطبيق القوانين اللبنانية، وهو ما يحرص عليه جدًا حاكم المركزي كريم سعيد، وبالتالي سيتم تجفيف كافة منابع الأموال غير الشرعية التي تذهب لصالح حزب الله، وهذا الأمر مطلوب في إطار القرار الأممي رقم 1701 وهناك إصرار بضمانة دولية على تطبيقه".

وتابع "لبنان اليوم هو تحت المجهر الدولي ليس فقط لتطبيق القرار 1701 عسكرياً إنما لمراقبة تطبيق كل بنوده ومن بينها تجفيف منابع حزب الله المالية، ووقف أي تمويل له إن كان لأعضاء أو شخصيات أو مؤسسات أو حتى أن يقوم حزب الله بإنشاء مؤسسات أو شركات تكون واجهة لتبييض أموال يتخذها ستارة للاختباء وراءها في أعماله المشبوهة وبالتالي هذه مهمّة ملقاة على عاتق حاكم المركزي الجديد لمراقبة أي عمل غير شرعي تقوم به هذه المؤسسات بالداخل في لبنان لإيقافها".

وأكد أن كريم سعيد "أتى بدعم دولي وهو اليوم أيضا تحت المجهر ومطلوب منه تنفيذ القوانين اللبنانية التي تحمي لبنان واقتصاده وتعيد البلد إلى كنف المجتمع الدولي كي يدخل من جديد في المنظومة المالية للمجتمع الدولي وللأسف حزب الله كان أخرجه منها في السنوات الأخيرة".

إخراج لبنان من اللائحة الرمادية

من جانبه يرى محمد فحيلي، الباحث في كلية سليمان العليان للأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، وهو استراتيجي مخاطر، واقتصادي سياسي ونقدي، في حديثه إلى موقع "الحرّة"، أنّ "مع تعيين حاكم لمصرف لبنان والكم من التحديات التي تنتظره فإنّ مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب من أولوياته".

وفي هذا السياق يشير فحيلي إلى أنّ "إخراج لبنان من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي مسألة مهمّة ومن غيرالممكن إنجازها من قبل طرف واحد. وإذا فشلت أي سلطة أو قطاع في تنفيذ الإصلاحات اللازمة، فإن الجهد بكامله ينهار. يعتمد نجاح المهمّة على تحقيق الخطوات التالية: إنشاء فريق عمل وطني لضمان حسن تنفيذ خارطة الطريق التي تقدمت بها مجموعة العمل المالي، وتنفيذ إجراءات مساءلة صارمة لمراقبة الامتثال ومعاقبة عدمه، تأمين الإرادة السياسية والالتزام بضمان تصويب الأداء وتنفيذ الإصلاحات دون تدخل".

وأضاف "إذا فشلت إحدى مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص، يظل لبنان على اللائحة الرمادية؛ إما أن ينجح الجميع أو لا أحد!".

ويلفت فحيلي في حديثه لموقعنا إلى أنّ "إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) شكّل ضغطاً كبيراً على نظامه المالي الهش أصلاً وعلى الدولة أن تفي بمتطلبات الامتثال الصارمة للخروج من هذا المأزق. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الهدف ليس مسؤولية طرف واحد. ويتطلب جهدا منسقاً وجماعياً عبر سلطات متعددة، لأن فشل كيان واحد سيعرض العملية برمتها للخطر. النجاح الجزئي ليس خياراً - إذا فشل أي كيان مسؤول في الوفاء بالتزاماته، سيبقى لبنان على القائمة الرمادية. يجب تحديد الإجراءات الرئيسية التي يجب على لبنان اتخاذها وتحديد مسؤولية كل من طرف ذات صلة، مع التأكيد على ضرورة اتباع نهج الإصلاح القائم على كل شيء أو لا شيء - All or Nothing".

فجوات الامتثال الحالية

يسلط تقييم مجموعة العمل المالي للبنان الضوء على أوجه القصور في العديد من المجالات الرئيسية، بما في ذلك قوانين تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والعناية الواجبة للعملاء، ومصادرة الأصول، وشفافية الملكية المستفيدة، والتعاون الدولي. تتطلب معالجة هذه القضايا جهداً متزامناً من قبل جميع السلطات المسؤولة. الامتثال الجزئي غير كاف، لأن مجموعة العمل المالي تتطلب إصلاحات شاملة يتم تنفيذها وإنفاذها بشكل فعال. إذا فشلت أي مؤسسة بمفردها، فإن النظام بأكمله ينهار، مما يضمن استمرار العزلة المالية والإضرار بالسمعة.

وعدد الاقتصادي محمد فحيلي الإجراءات الأساسية ومنها:

1. تعزيز قوانين تبييض الأموال وتمويل الإرهاب

تسمح الثغرات في الإطار القانوني اللبناني بحدوث تجاوزات في تبيض الأموال وتمويل الإرهاب.

تعديل التشريعات لتتماشى تماماً مع الأداء المسؤول، وضمان عقوبات متناسبة ورادعة، وتجريم جميع الجرائم الأصلية.

وزارة العدل، والقضاء، وهيئة التحقيق الخاصة، والبرلمان هم السلطات المسؤولة عن ضمان نجاح هذه الجهود.

ولكن إذا نجح واحد فقط من هذه الكيانات بينما فشلت كيانات الأخرى، سيظل لبنان غير ممتثل، وستستمر الأنشطة الغير مشروعة.

2. تعزيز مصادرة الأصول

هناك ضعف في الآليات المعتمدة لتحديد الأصول غير المشروعة وتجميدها ومصادرتها.

إنشاء مديرية مخصصة لإدارة الأصول، وتعزيز الأطر القانونية، وتدريب أجهزة تطبيق القانون على أفضل الممارسات في استرداد الأصول.

وزارة العدل، وزارة الداخلية، هيئة التحقيق الخاصة، والقضاء مسؤولين عن ضمان حسن التنفيذ.

الإنفاذ السليم هو الممر الإلزامي للحدّ من استغلال الثغرات المالية ويساهم في خروج لبنان عن اللائحة الرمادية.

3. تنظيم المنظمات الغير حكومية (NGOs) والتي لا تبغي الربحية (Non-Profit Organization) لمنع إساءة الاستخدام

غياب الرقابة على مصادر تمويل هذه المنظمات يجعلها عرضة للاستغلال.

يجب أن يكون التسجيل الإلزامي، وإجراء تقييمات المخاطر، وتعزيز الرقابة والتدقيق.

وزارة الداخلية، ووزارة الشؤون الاجتماعية، ومركز الاستخبارات المالية، والجهات التنظيمية المالية ذات الصلة هم من يتحمل مسؤولية حسن التنفيذ والامتثال.

المسؤولية للجميع وعلى الجميع أو يستمر إساءة استخدام هذه المنظمات للتمويل غير المشروع مما يعيق إخراج لبنان عن اللائحة الرمادية.

4. تعزيز العناية الواجبة للعملاء (CDD) ومراقبة الأشخاص المعرضين سياسيا (PEP)

هناك ضعف في تطبيق CDD، خاصة بالنسبة للأفراد المعرضين لمخاطر عالية.

واجب نشر التوعية وتفعيل العناية الواجبة المعززة (EDD)، وإنشاء قاعدة بيانات مركزية، وفرض إشراف تنظيمي أكثر فعالية.

مصرف لبنان، المؤسسات المالية بمختلف أنواعها وأشكالها، جمعية مصارف لبنان، ومكونات القطاع الخاص عليهم مسؤولية ضمان حسن التنفيذ والامتثال.

يجب أن يكون التنفيذ متين وموحد وعدم ترك فجوات، مما يسمح للجهات الفاعلة غير المشروعة باستغلال النظام.

5. تحسين الشفافية في الملكية المستفيدة - Beneficial Owner

إن عدم وجود سجل مركزي يمكن الوصول إليه لمعلومات الملكية المستفيدة يسمح في ارتكاب الجرائم المالية.

يجب إنشاء سجل وطني للملكية المستفيدة، وإنفاذ متطلبات الإبلاغ، وتنفيذ آليات التحقق.

الجهات المسؤولة عن ضمان حسن التنفيذ والامتثال هم وزارة العدل، وزارة الاقتصاد والتجارة، مصرف لبنان، ومراكز الاستثمار - Investment Authorities.

التنفيذ المطلوب هو عبر جميع الكيانات ذات الصلة؛ غير ذلك يبقي معلومات الملكية المستفيدة غامضة، مما يعزز مخاوف مجموعة العمل المالي.

6. تعزيز تنظيم التقنيات الجديدة (AI) والأصول الافتراضية (Virtual Assets)

يؤدي عدم وجود إطار تنظيمي واضح للأصول الافتراضية إلى مخاطر الجرائم المالية.

وضع إطار تنظيمي شامل ومتماسك، وإجراء تقييمات للمخاطر، وزيادة الوعي بين المؤسسات المالية أصبح واجب.

الجهات المسؤولة عن ضمان حسن التنفيذ والامتثال هي وزارة المالية، مصرف لبنان، ومراكز الاستثمار.

إذا فرضت سلطة واحدة فقط اللوائح بينما تأخرت سلطة أخرى، فسيستمر المجرمون الماليون في وجود واستغلال الثغرات.

7. تعزيز التعاون الدولي وإجراءات تسليم المجرمين

التأخير وعدم الكفاءة في الاستجابة لطلبات المساعدة القانونية المتبادلة وتسليم المجرمين مصدر قلق.

تعديل القوانين لتسريع الإجراءات والتفاوض على المعاهدات الثنائية وتعزيز قدرات السلطات المعنية.

الجهات المسؤولة عن ضمان حسن التنفيذ والامتثال هي وزارة العدل، ووزارة الخارجية، والقضاء، وهيئة التحقيق الخاصة.

سيؤدي الفشل في أطر المساعدة القانونية المتبادلة إلى إبقاء لبنان معزولا عن النظام المالي الدولي.

دور القطاع الخاص

ويرى فحيلي أنّ "القطاع الخاص شريكاً أساساً في جهود لبنان للخروج من اللائحة الرمادية. وبدون تعاونها الكامل، لن يكون أي إصلاح تقوده الحكومة فعالاً". تشمل المسؤوليات الرئيسية ما يلي:

ضمان الامتثال لتدابير العناية الواجبة للعملاء (CDD) وتنفيذ العناية الواجبة المعززة (EDD) للعملاء ذوي المخاطر العالية.

الإفصاح عن الملكية المستفيدة بشفافية لمنع إساءة استخدام هياكل الشركات.

التعاون النشط مع المنظمين لضمان تنفيذ السياسات المتوافقة مع مجموعة العمل المالي.

تطبيق تدابير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب على المهن عالية الخطورة مثل الوكلاء العقاريين والمحامين وغيرهم.

الامتثال للوائح الجديدة الخاصة بالأصول الافتراضية والتكيف مع مخاطر الجرائم المالية المتطورة.

الاستثمار في التدريب وعمليات تدقيق الامتثال الداخلية للحفاظ على نهج وثقافة الشفافية.

إذا فشل القطاع الخاص في الوفاء بهذه المسؤوليات، فإن جهود لبنان للخروج من اللائحة الرمادية ستنهار، بغض النظر عن مدى جودة أداء أجهزة الدولة.

ويختم الاقتصادي فحيلي حديثه بالقول "إنّ مسار لبنان للخروج من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي واضح ولكنه متطلب وأنّ النجاح الجزئي يكون بمثابة الفشل، فمن خلال العمل الجماعي والإصلاحات التشريعية والإنفاذ الصارم من قبل جميع السلطات المسؤولة وكيانات القطاع الخاص يمكن للبنان استعادة الثقة في نظامه المالي واستعادة الوصول إلى الأسواق.

وتبقى مهمة حاكم مصرف لبنان حسب كثيرين معقدة في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها لبنان، خاصةً فيما يتعلق بتحقيق توازن بين مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال وحماية استقرار النظام المالي الوطني.

بين المنازل السكنية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، يزرع حزب الله الموت.. صواريخ وذخائر في أقبية المباني والمستودعات.
بين المنازل السكنية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، يزرع حزب الله الموت.. صواريخ وذخائر في أقبية المباني والمستودعات.

بين المنازل السكنية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، يزرع حزب الله الموت.. صواريخ وذخائر في أقبية المباني والمستودعات.

قبل أيام، عرض الجيش الإسرائيلي مشاهد لقصف استهدف بنية تحتية قال إنها خُصصت لتخزين صواريخ دقيقة في الضاحية الجنوبية لبيروت، مؤكداً أنه دمرها بالكامل. لم تكن هذه المرة الأولى التي تنشر فيها إسرائيل مقاطع تُظهر استهداف مستودعات أسلحة لحزب الله تتطاير منها الذخائر والصواريخ وسط أحياء سكنية.

أعادت واقعة الضاحية الجنوبية تسليط الضوء على المخاطر الجسيمة التي تتهدد حياة المدنيين في مناطق نفوذ حزب الله.

الدروع البشرية تحمي السلاح؟

بلغ حزب الله من حال الارتباك والضعف درجة الاحتماء بالمدنيين، كما يقول المحلل السياسي الياس الزغبي وهذا ما يفسّر برأيه "تخزينه الأسلحة في عمق المناطق الآهلة وفقاً لما ظهر في الهنغار الذي استهدفته إسرائيل قبل بضعة أيام في الضاحية الجنوبية لبيروت".

وهذا ما يفسّر أيضاً وفق ما يقوله الزغبي لموقع الحرة "الإنذار الذي وجهته إسرائيل إلى المدنيين القاطنين في محيط هذا الموقع كي تتفادى نقمة عالمية في حال سقوط قتلى من الأهالي. ولوحظ هذه المرة أن فترة الانذار كانت أطول من سابقاتها بهدف إتاحة الوقت الكافي لإخلاء الأبنية المحيطة بالموقع المستهدف".

عملياً، لم يعد حزب الله يقيم وزنا للمدنيين، يقول الزغبي، بل لعلّه يفضل وفق ما يشدد "سقوط قتلى كي يستثير العواطف ويؤجج مشاعر بيئته، فهو يضع أولوية الحفاظ على سلاحه قبل أي أمر آخر، حتى لو سقطت أرواح بريئة. وبذلك يكون قد استبدل شعاره "السلاح يحمي السلاح" بشعار جديد "الدروع البشرية تحمي السلاح"!.

يذكر أن للبنانيين تجارب عديدة مع استخدام حزب الله للمناطق اللبنانية في سبيل أنشطته العسكرية، لا سيما في حرب عام 2006، حيث أجرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تحقيقاً موسعاً حول أداء حزب الله خلال تلك الحرب، بيّن أن الميليشيا التي تصنفها الولايات المتحدة منظمة إرهابية، عرّضت في مواقف عدة موثقة بالتواريخ والأمكنة حياة المدنيين للخطر، إما بسبب نشاطها العسكري أو بسبب إخفاء مخازن أسلحة بين المدنيين.

ووثقت المنظمة حينها عدداً من الحالات التي انتهك فيها حزب الله قوانين الحرب عبر تخزين الأسلحة والذخيرة في مناطق مأهولة وعدم بذل أي جهد بغرض إبعاد المدنيين الواقعين تحت سيطرته عن تلك المناطق.

ونقل التحقيق معلومات مفادها أن حزب الله خزن أسلحةً في مناطق مدنية بضواحي بيروت الجنوبية. وقابل مدنيين في الضاحية الجنوبية نقلوا لـ"هيومن رايتس ووتش" مشاهداتهم لتخزين ونقل الأسلحة من مبان سكنية في الضاحية الجنوبية والاحتماء في ملاجئ مدنية، وهو ما اعتبره التحقيق انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني بتعريض المدنيين للخطر.

في حينها، رأت المنظمة أن الحالات التي قام بها الحزب بتخزين الأسلحة ونشر المقاتلين في أحياء كثيفة السكان، فإنه كان يرتكب انتهاكاً جسيماً لقوانين الحرب، تتضمن "اتخاذ المدنيين دروعاً".

مخاوف محلية وتحذيرات دولية

منذ سنوات، يواصل الجيش الإسرائيلي نشر صور ومقاطع مصورة تُظهر منشآت ومخازن ومصانع صواريخ تابعة لحزب الله، أقيمت وسط مناطق مدنية مأهولة، بعضها يقع قرب مدارس ومساجد ومرافق حيوية. وتتهم إسرائيل الحزب باستخدام السكان المدنيين كدروع بشرية وكساتر لتخزين سلاحه وتنفيذ مخططاته العسكرية، في حين ينفي حزب الله هذه الاتهامات بشكل متكرر.

"والمشكلة أن المدنيين لا حول لهم ولا قدرة على مواجهة ما يقرره حزب الله"، كما يقول الزغبي، "وهم مجبرون على تنفيذ مشيئته ولو على حساب استقرارهم وسلامتهم، لكنهم يتهامسون فيما بينهم عن المصيبة التي أوقعهم فيها الحزب ويناشدون الدولة لإنقاذهم ويسلّمون أمرهم لله".

وشكّل هذا الملف على الدوام محور تجاذب وخلاف داخلي في لبنان، في ظل رفض شريحة واسعة من اللبنانيين لتحويل مناطقهم إلى ساحات عسكرية، وقد برزت هذه المعارضة بشكل واضح في حادثة بلدة شويا في قضاء حاصبيا عام 2021، حين اعترض الأهالي على إطلاق صواريخ من منطقتهم، وقاموا بتوقيف راجمة تابعة لحزب الله. وتكررت مشاهد التوتر في بلدة الكحالة، حيث اندلع اشتباك بين سكان المنطقة وعناصر من الحزب، إثر سقوط شاحنة كانت تنقل أسلحة في قلب البلدة.

وشهدت السنوات الماضية تصاعداً في التحذيرات المحلية من خطورة هذه الممارسات، والتي لم يقتصر على الساحة اللبنانية فحسب، بل اتخذ أبعاداً دولية. ففي عام 2020، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن وجود مصنع صواريخ في منطقة الجناح في بيروت، ما أثار موجة من الجدل والقلق. ورداً على الاتهامات، نظّم الجانب اللبناني جولة ميدانية لسفراء عدد من الدول الأجنبية إلى الموقع المذكور، في مسعى لنفي صحة الاتهامات الإسرائيلية وتأكيد خلو المنطقة من أي نشاط عسكري.

وعقب الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، عاد الحديث عن سلاح الحزب إلى الواجهة، في ضوء اتفاق وقف إطلاق النار الذي يستند إلى القرار الدولي 1701، والذي يشدد بدوره على تنفيذ القرار 1559 القاضي بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية ونزع سلاح الميليشيات.

خرق للقانون الإنساني

يفرض تخزين الأسلحة والصواريخ الالتزام بإجراءات دقيقة وبروتوكولات صارمة تأخذ في الحسبان مختلف الاحتمالات، بما في ذلك خطر الاستهداف، أو التعرض لخلل تقني، أو نشوب حريق، أو تلف المواد المخزنة. ويستدعي ذلك دراسة منهجية لمواقع التخزين، وضمان ابتعادها عن المناطق السكنية لتفادي أي أضرار محتملة. كما يشترط، في هذا السياق، تفكيك المقذوفات كالصواريخ وجعلها غير مفعّلة أثناء التخزين، بهدف الحد من تداعيات أي طارئ قد يؤدي إلى انفجارها أو تسرب مواد خطرة إلى محيطها.

ويلزم القانون الإنساني الأطراف المتقاتلة اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية ما تحت سيطرتها من سكان مدنيين من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية، ويشمل هذا تجنب إقامة أهداف عسكرية (كالأسلحة والذخيرة) في المناطق المكتظة بالسكان، وعند تعذر ذلك نقل السكان المدنيين بعيداً عن المناطق المجاورة للأهداف.

وتشدد اللجنة الدولية للصليب الأحمر على اتخاذ أقصى "الاحتياطات المستطاعة" خلال الحروب لتجنيب المدنيين آثار العمليات العسكرية، حيث تدعو لاتخاذ الخطوات المطلوبة للتعرف على الهدف العسكري المشروع "في الوقت المناسب وبالشكل الذي يعفي السكان المدنيين من الضرر قدر المستطاع".

ومن بين الاحتياطات، تجنب "إقامة أهداف عسكرية داخل المناطق المكتظة بالسكان أو بالقرب منها، وتدعو أطراف النزاع للسعي بجهد إلى "نقل ما تحت سيطرتهم من السكان المدنيين بعيداً عن المناطق المجاورة للأهداف العسكرية".

وتحذر من أنه لا يجوز لأطراف النزاع استخدام المدنيين لصالح "درء الهجمات عن الأهداف العسكرية" أو التذرع بوجودهم في "درء الهجوم عن الأهداف العسكرية، أو تغطية، أو تحبيذ، أو إعاقة العمليات العسكرية، وإذا استخدم أحد أطراف النزاع المدنيين كدروع يجب ألا يفعل الطرف الآخر مثله، وأن يستمر في اتباع قواعد القانون الإنساني الدولي، وتفادي الهجمات العشوائية واتخاذ الاحتياطات لحماية المدنيين".

معادلة مكشوفة

منذ توريط حزب الله للبنان بالحرب الأخيرة مع إسرائيل، تتعالى أصوات داخل لبنان وخارجه تطالب حزب الله بالالتزام الكامل بالقرارات الدولية، إلا أن الحزب لا يزال يرفض التخلي عن سلاحه في شمال الليطاني، ويضع شروطاً مسبقة للدخول في أي حوار وطني حول هذه المسألة.

من أبرز شروط الحزب، بحسب تصريحات مسؤوليه، أن أي نقاش حول تسليم سلاحه يجب أن يسبقه انسحاب إسرائيل من خمس نقاط في جنوب لبنان.

وحتى الآن لا تبدو الدولة اللبنانية وفق ما يقوله الزغبي "قادرة على حماية الناس من سطوة الحزب، وتتعامل بحذر شديد معه تخوفاً من التصادم وشبح الحرب الأهلية، لكن المجتمع الدولي لن يسمح باستمرار هذا الوضع الضاغط على الدولة، وقد بدأ يضعها أمام استحقاق نزع السلاح غير الشرعي ضمن مهلة محددة قبل أن تتمادى إسرائيل في عملياتها العسكرية".

وفي أي حال بات لبنان كما يشدد الزغبي "أمام معادلة مكشوفة: حصر السلاح فعلياً في يد الجيش أو التعرض المستمر للغارات الإسرائيلية. والمسألة ليست مفتوحة، بل تقاس بالأسابيع".