أواخر القرن الثامن عشر. أميركا تخطو أولى خطواتها أمةً فتية. تبحث عن مكانة لها بين الأمم القوية.
مشتتة كانت بين أحلام الوحدة وكوابيس الانقسام، بعد حرب مضنية ضد التاج البريطاني، من أجل الاستقلال.
حينئذٍ، تملكت الأميركيين مشاعر متضاربة: التفاؤل ببناء دولة عظيمة، والخوف من تنافر يهدد بالتأسيس للشتات.
لكن الحلم بفضاء وطني، يتسع لكل أطياف المجتمع الأميركي، كان ضرورة مصيرية.
وسط هذا السياق التاريخي الضّاج، ـ وتحديدا في العام 1787 ـ نُشرت رواية بيتر ماركو، " الجاسوس الجزائري في بنسلفانيا". عمل أبداعي متفرد يرصد التحولات التي تشكلت من خلالها ملامح الأمة الناشئة.
نُسجت الرواية في صيغة رسائل "epistolary novel"، سطّر فيها جاسوس جزائري، يدعى محمد، انطباعاته ومعلوماته الاستخبارية عن مجتمع في طور الخروج من شرنقة البداية.
من خلال شخصية محمد ورسائله إلى مُشغليه، يقدم كاتب الرواية توصيفا دقيقا لرهانات أمة تحاول التوفيق بين مثلها وتحديات واقع مؤلم.
أياد خارجية ومأزق وجود
في تلك الفترة، جابهت أميركا معضلات داخلية وخارجية.
في البحر الأبيض المتوسط، كان القراصنة الجزائريون يستهدفون سفنها، ويفرضون مكوسا باهظة على السفن التجارية الأميركية.
ويأسرون ركابها البيض.
داخليا، رفضت ولاية رود آيلاند الامتثال لمشروع الاتحاد، خشية فقدان سيادتها على الشأن المحلي لصالح السلطة المركزية.
وظّف بيتر ماركو هذا السياق للتحذير من احتمال تضعضع الأمة. داخليا وخارجيا على حد سواء.
في إحدى رسائل الجاسوس محمد، يضيئ الكاتب على تأثير الانقسامات الداخلية، وأخطار التشرذم، التي قد تعبد الطريق أمام التهديدات الجزائرية.
"ولاية رود آيلاند، الأقل أهمية في الاتحاد، أفسدت أفضل الخطط التجارية برفضها إرسال ممثلين للمؤتمر (القاري) ما يهدد الإجماع ويشجع على الانقسام" (ص103).
عين الجاسوس الراصدة
بعيون محمد، يقدم ماركو صورة عالية الدقة عن المجتمع الأميركي آنذاك.
كتب الجاسوس بانبهار عن مدينة فيلادلفيا، وكانت قلبا نابضا بالحيوية السياسية والتجارية:
"يبدو لي أن سكان فيلادلفيا مؤهلون للتفوق في التجارة والحرب، نهرهم مزدحم بالسفن ومخازنهم ومحلاهم مليئة بالسلع" (ص63).
لكن الجاسوس لا يتجاهل استنتاجا خطر له بفعل احتكاكه بالمجتمع الأميركي، ومفاده أن هذا البلد الجديد يعيش في خوف من الإخفاق في الموازنة بين الرغبة في الوحدة ووعورة الطريق إلى بر الأمان.
"خلال اشتداد الحرب، شُكل الاتحاد من خلال جهود عظيمة من الحكمة والوطنية، لكن الوطنية كانت أكثر مضاءً من الحكمة، وغالبا ما رأت الحكمة عيوبا لم تتمكن من علاجها" (ص103).
الأدب جرس إنذار مبكر
لم يكتف بيتر ماركو برصد التحولات الداخلية لأميركا، بل استخدم رواية "الجاسوس الجزائري في بنسلفانيا"، التي أُعيد نشرها في طبعة منقحة سنة 2008، لإثارة المخاوف من التهديدات الجزائرية.
في إحدى رسائله، يكشف محمد عن سعي الجزائر لاستغلال جزع الداخل الأميركي، لـ"تأسيس مالطا عثمانية على سواحل أميركا" (ص104-105).
وستدفع هذه الأمة الجديدة الجزية "في شكل عدد من العذارى،" نقرأ في الصفحة ذاتها.
هذا الاقتباس يُظهر كيف أن الكتابة انزاحت عن مقاصدها وانقلبت إلى إداة تخويف من "الآخر"، لتحذير المجتمع من العواقب المتخيلة للانقسام.
مواضع أخرى من الرواية، تؤكد هذا المنحى.
كتب محمد، بحنكة رجل الاستخبارات: "ملاحة الولايات قد دمرت بالكامل تقريبا بسبب الانقسام والفرقة" (ص106).
من الانكار إلى النكوص
تُظهر الرسائل الاستخباراتية تطورا نفسيا وفكريا لشخصية الجاسوس محمد.
في البداية يبدو متوجسا من القيم الأميركية، لكنه مع تقدم الأحداث، يقاربها بتفهم، قبل أن يتماهى معها كليا.
في أحد النصوص يعبر محمد بشكل مفاجئ عن دهشته وإعجابه بتسامح الأميركيين، فيكتب: "الدين يُعزز بتسامح خيّر والأخلاق مدعومة بألمع المثل" (ص62).
وفي ذروة التماهي الفكري والثقافي مع المجتمع الأميركي، يتخلى عن الإسلام ويعتنق المسيحية.
"لقد تم انقاذي،" يقول محمد، "أنا حر وأجد متعة في حرية الآخرين، كوني مسيحيا وبنسلفانياً في آن واحد، فأنا مناصر مزدوج لحقوق الإنسان" (ص129).
هذا التحول يعضد فكرة أن القيم الأميركية، مثل الحرية والمساواة، من شأنها التأثير بقوة حتى على الأعداء المفترضين.
الكتابة قاموس معاني العالم
رواية "الجاسوس الجزائري في بنسلفانيا" ليست مجرد عمل أدبي عابر، بل هي وثيقة تاريخية كاشفة لهواجس عاشتها أميركا في بدايات تكوينها.
عبر شخصية الجاسوس، وإحالات اسمه في المخيال الغربي، يكشف ماركو عن قدرة الأدب في أن يكون أداة لفهم الذات بتوظيف "الآخر" المختلف، وتحدد الدروب غير السالكة، ثقافية كانت أم سياسية، التي يجب على كل أمة طامحة، أن تخوض غمارها.
اليوم تذكرنا هذه الرواية، بأن القيم الكبرى ليست شعارات سهلة التجسيد، إنما قد تكون ساحة مواجهة مع الذات من خلال "الآخر". لكن محمد في هذه الرواية م هو إلا انعكاس لذات تبحث عن هويتها في صورة متخيلة لـ"الآخر". لهذا قد يكون تحوله ـ من الإسلام إلى المسيحية ـ عودة الذات إلى أصلها.
وفي هذا، ربما أراد بيتر ماركو الافتراض أن "الآخر" وليد خوف الذات، لا أكثر.