رسم لمدينة بنلسفانيا قديما. الصورة من ويكيبيديا.
رسم لمدينة بنلسفانيا قديما. الصورة من ويكيبيديا. | Source: Social media

أواخر القرن الثامن عشر. أميركا تخطو أولى خطواتها أمةً فتية. تبحث عن مكانة لها بين الأمم القوية.

مشتتة كانت بين أحلام الوحدة وكوابيس الانقسام، بعد حرب مضنية ضد التاج البريطاني، من أجل الاستقلال. 

حينئذٍ، تملكت الأميركيين مشاعر متضاربة: التفاؤل ببناء دولة عظيمة، والخوف من تنافر يهدد بالتأسيس للشتات.

لكن الحلم بفضاء وطني، يتسع لكل أطياف المجتمع الأميركي، كان ضرورة مصيرية.

وسط هذا السياق التاريخي الضّاج، ـ وتحديدا في العام 1787 ـ نُشرت رواية بيتر ماركو، " الجاسوس الجزائري في بنسلفانيا". عمل أبداعي متفرد يرصد التحولات التي تشكلت من خلالها ملامح الأمة الناشئة.

غلافة رواية "الجاسوس الجزائري في بنسلفانيا لبيتر ماركو

نُسجت الرواية في صيغة رسائل "epistolary novel"، سطّر فيها جاسوس جزائري، يدعى محمد، انطباعاته ومعلوماته الاستخبارية  عن مجتمع في طور الخروج من شرنقة البداية. 

من خلال شخصية محمد ورسائله إلى مُشغليه، يقدم كاتب الرواية توصيفا دقيقا لرهانات أمة تحاول التوفيق بين مثلها وتحديات واقع مؤلم.

أياد خارجية ومأزق وجود

في تلك الفترة، جابهت أميركا معضلات داخلية وخارجية.

في البحر الأبيض المتوسط، كان القراصنة الجزائريون يستهدفون سفنها، ويفرضون مكوسا باهظة على السفن التجارية الأميركية. 

ويأسرون ركابها البيض.

داخليا، رفضت ولاية رود آيلاند الامتثال لمشروع الاتحاد، خشية فقدان سيادتها على الشأن المحلي لصالح السلطة المركزية.

وظّف بيتر ماركو هذا السياق للتحذير من احتمال تضعضع الأمة. داخليا وخارجيا  على حد سواء. 

في إحدى رسائل الجاسوس محمد، يضيئ الكاتب على تأثير الانقسامات الداخلية، وأخطار التشرذم، التي قد تعبد الطريق أمام التهديدات الجزائرية.

"ولاية رود آيلاند، الأقل أهمية في الاتحاد، أفسدت أفضل الخطط التجارية برفضها إرسال ممثلين للمؤتمر (القاري) ما يهدد الإجماع ويشجع على الانقسام" (ص103).

عين الجاسوس الراصدة

بعيون محمد، يقدم ماركو صورة عالية الدقة عن المجتمع الأميركي آنذاك. 

كتب الجاسوس بانبهار عن مدينة فيلادلفيا، وكانت قلبا نابضا بالحيوية السياسية والتجارية: 

"يبدو لي أن سكان فيلادلفيا مؤهلون للتفوق في التجارة والحرب، نهرهم مزدحم بالسفن ومخازنهم ومحلاهم مليئة بالسلع" (ص63).

لكن الجاسوس لا يتجاهل استنتاجا خطر له بفعل احتكاكه بالمجتمع الأميركي، ومفاده أن هذا البلد الجديد يعيش في خوف من الإخفاق في الموازنة بين الرغبة في الوحدة ووعورة الطريق إلى بر الأمان. 

"خلال اشتداد الحرب، شُكل الاتحاد من خلال جهود عظيمة من الحكمة والوطنية، لكن الوطنية كانت أكثر مضاءً من الحكمة، وغالبا ما رأت الحكمة عيوبا لم تتمكن من علاجها" (ص103).

الأدب جرس إنذار مبكر

لم يكتف بيتر ماركو برصد التحولات الداخلية لأميركا، بل استخدم رواية "الجاسوس الجزائري في بنسلفانيا"، التي أُعيد نشرها في طبعة منقحة سنة 2008، لإثارة المخاوف من التهديدات الجزائرية.

في إحدى رسائله، يكشف محمد عن سعي الجزائر لاستغلال جزع الداخل الأميركي، لـ"تأسيس مالطا عثمانية على سواحل أميركا" (ص104-105).

وستدفع هذه الأمة الجديدة الجزية "في شكل عدد من العذارى،" نقرأ في الصفحة ذاتها.  

هذا الاقتباس يُظهر كيف أن الكتابة انزاحت عن مقاصدها وانقلبت إلى إداة تخويف من "الآخر"، لتحذير المجتمع من العواقب المتخيلة للانقسام.

مواضع أخرى من الرواية، تؤكد هذا المنحى. 

كتب محمد، بحنكة رجل الاستخبارات: "ملاحة الولايات قد دمرت بالكامل تقريبا بسبب الانقسام والفرقة" (ص106). 

من الانكار إلى النكوص

تُظهر الرسائل الاستخباراتية تطورا نفسيا وفكريا لشخصية الجاسوس محمد.

في البداية يبدو متوجسا من القيم الأميركية، لكنه مع تقدم الأحداث، يقاربها بتفهم، قبل أن يتماهى معها كليا. 

في أحد النصوص يعبر محمد بشكل  مفاجئ عن دهشته وإعجابه بتسامح الأميركيين، فيكتب: "الدين يُعزز بتسامح خيّر والأخلاق مدعومة بألمع المثل" (ص62).

وفي ذروة التماهي الفكري والثقافي مع المجتمع الأميركي، يتخلى عن الإسلام ويعتنق المسيحية.

"لقد تم انقاذي،" يقول محمد، "أنا حر وأجد متعة في حرية الآخرين، كوني مسيحيا وبنسلفانياً في آن واحد، فأنا مناصر مزدوج لحقوق الإنسان" (ص129).

هذا التحول يعضد فكرة أن القيم الأميركية، مثل الحرية والمساواة، من شأنها التأثير بقوة حتى على الأعداء المفترضين.

الكتابة قاموس معاني العالم

رواية "الجاسوس الجزائري في بنسلفانيا" ليست مجرد عمل أدبي عابر، بل هي وثيقة تاريخية كاشفة لهواجس عاشتها أميركا في بدايات تكوينها.

عبر شخصية الجاسوس، وإحالات اسمه في المخيال الغربي، يكشف ماركو عن قدرة الأدب في أن يكون أداة لفهم الذات بتوظيف "الآخر" المختلف، وتحدد الدروب غير السالكة، ثقافية كانت أم سياسية، التي يجب على كل أمة طامحة، أن تخوض غمارها.

اليوم تذكرنا هذه الرواية، بأن القيم الكبرى ليست شعارات سهلة التجسيد، إنما قد تكون ساحة مواجهة مع الذات من خلال "الآخر". لكن محمد في هذه الرواية م هو إلا انعكاس لذات تبحث عن هويتها في صورة متخيلة لـ"الآخر". لهذا قد يكون تحوله ـ من الإسلام إلى المسيحية ـ عودة الذات إلى أصلها. 

وفي هذا، ربما أراد بيتر ماركو الافتراض أن "الآخر" وليد خوف الذات، لا أكثر.

الجماعات المسلحة تنشط في دول الساحل الأفريقي الخمس
الجماعات المسلحة تنشط في دول الساحل الأفريقي الخمس (أرشيف)

تفاقمت حدة الخلافات بين الجزائر ودول تحالف الساحل (مالي، النيجر وبوركينافاسو)، بقرار هذه الدول سحب سفرائها على خلفية اسقاط الجزائر لطائرة درون حربية مالية، اخترقت مجالها الجوي، بينما نفت بماكو ذلك، ولاحقا أغلقت الجزائر مجالها أمام الطيران المالي. 

ونتيجة احتدام الخلاف والاتهامات المتبادلة بين طرفي النزاع، تُطرح قضايا مستقبل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل التي تنشط بها جماعات إرهابية محسوبة على القاعدة وداعش، وكيانات ذات صلة بتهريب السلاح والبشر والمخدرات.

وتواصلت الأزمة بقرار مالي الانسحاب من لجنة رؤساء الأركان المشتركة، وهو تحالف اختص في مكافحة الإرهاب، ويضم دول الساحل بالإضافة للجزائر، كما قررت رفع شكوى أمام الهيئات الدولية الجزائر بتهمة ارتكاب ما وصفته بعمل "عدواني".

ولجنة أركان العمليات المشتركة هي هيئة عسكرية تضم كلا من الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر، تأسست سنة 2010 بمدينة تمنراست جنوب البلاد، لتكون بديلا للتدخلات العسكرية الأجنبية في المنطقة.

وفي 2017 أسست فرنسا تحالفاً عسكرياً موازياً خاصاً بمكافحة الإرهاب، ضم بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، قبل أن تسحب قواتها العسكرية من المنطقة.

"زيادة" في نشاط الجماعات الإرهابية

وتعليقا على هذه التطورات، رأى المحلل من دولة مالي، محمد ويس المهري، أن الخلاف بدأ منذ إنهاء باماكو، قبل سنة، العمل باتفاق السلام الموقع عام 2015 في الجزائر بين الحركات المسلحة المعارضة والحكومة المالية.

هذا الخلاف وفق ويس المهري "أثر على مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات والتنسيق العسكري ضمن لجنة الأركان المشتركة"، وأدى ذلك إلى "تسجيل هجمات كبرى من قبل جماعات جهادية على مطار باماكو، وبعض الأهداف العسكرية في العاصمة منذ أشهر".

وأشار المحلل الأمني والسياسي ويس المهري، في حديثه لموقع "الحرة"، إلى تسجيل "هجمات على الجيش المالي واتساع نطاق نشاط الجماعات الجهادية في النيجر وفي بوركينافاسو، و"زيادة نشاط" التنظيمات الإرهابية الموالية لداعش والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بدولة النيجر وبوركينافاسو "بوتيرة كبيرة جدا".

كما نبه المتحدث إلى عمليات نزوح للمهاجرين من دول أفريقية تعرفها المنطقة نحو الجزائر، بسبب تجدد الاشتباكات منذ إعلان "انهيار" اتفاق السلام بين مالي والجماعات المسلحة المعارضة، كما أشار إلى "عودة عمليات الاختطاف التي تطال أجانب".

وكان سائح إسباني تعرض للاختطاف بتاريخ 14 يناير الماضي على الحدود الجزائرية المالية، ضمن نطاق الناحية العسكرية السادسة، من قبل عصابة مسلحة تتكون من خمسة أفراد، قبل أن تحرره وحدة عسكرية تابعة للجيش الجزائري وتعيد تسليمه لبلاده.

وكشف محمد ويس المهري عن محاولات متكررة، قامت بها جماعات إرهابية في الفترة الأخيرة، "لاستهداف أو اختطاف أجانب، بسبب توقف التنسيق الأمني الذي كان قائما بين مالي والجزائر"، مضيفا أن التداعيات امتدت إلى "زعزعة" الاستقرار في شمال مالي.

ووصف المتحدث الوضع الحالي بـ "الخطير جدا"، بعد توقف "الدعم العسكري والأمني الذي كانت تقدمه الجزائر لدول المنطقة، بما في ذلك شحنات عسكرية لمواجهة التهديدات الإرهابية"، مرجعا الوضع الحالي إلى انهيار اتفاق السلام، باعتباره"النقطة الخلافية الرئيسية بين البلدين".

الجزائر "تكرس تواجدها"

وتعرضت منطقة الساحل الصحراوي خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024 لأكثر من 3.200 هجوم إرهابي، أودى بحياة أكثر من 13.000 شخص"، وفق إحصائيات قدمها وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف في جلسة لمجلس الأمن الدولي حول المنطقة في يناير الماضي.

كما تحولت منطقة دول الساحل إلى "بؤرة للإرهاب العالمي، وأصبحت تتركز فيها أكثر من 48 بالمئة من الوفيات المرتبطة بالإرهاب في العالم"، وفق المصدر نفسه.

ورأى الإعلامي الجزائري، محمد إيوانوغان، أن التطورات الحاصلة بمنطقة الساحل تتجاوز البعد الأمني، وهي تعكس "تحولا سياسيا إيجابيا يكرس التواجد الفعلي للجزائر بالمنطقة"، دون التخلي عن باقي المهام، ويوضح المتحدث قائلا: إن الجزائر ولأول مرة "تتحول من موقف ودور المتفرج إلى دور الفاعل".

وأضاف إيوانوغان، لموقع "الحرة"، أن الجزائر وهي ماضية في لعب دورها، بما في ذلك محاربة الإرهاب، قررت منع تحليق الطيران المالي فوق أجوائها وهي من "ستحمي الأزواد"، بعد تخلي باماكو عن اتفاق السلام معهم، مما يؤدي لاحتواء أي انزلاق أمني.

وأشار المتحدث إلى أن القرارات الأخيرة للجزائر تعني أن "كل الأطراف يجب أن تعيد حساباتها، بما يحفظ مصالح الجزائر"، فيما تواصل مختلف وحدات الجيش الجزائري عمليات مكافحة الإرهاب، وحماية أمن الحدود.