لا تزال مكافحة الفساد في المغرب تثير الجدل بشأن أسباب تفشيه وآثاره على البنية السياسية والاقتصادية، بعد أن خلص مشاركون في ندوة حزبية عن "مبادرات لمحاربة الفساد"، إلى أن المجتمع بات "يُطبّع" مع الفساد وأن بعض الأحزاب تستغل محاربته كشعار انتخابي.
واعتبر رئيس "الجمعية المغربية لحماية المال العام"، محمد الغلوسي، أن الفساد في المغرب ظاهرة بنيوية تستخدم لضبط المجتمع وترسيخ السلطوية، مؤكدا أن غياب الديمقراطية وضعف المحاسبة يساهمان في تعميمه، مما يضمن استمرار مصالح النخب النافذة على حساب التنمية والإصلاح.
وأشار الغلوسي إلى وجود تضييق على القوى الديمقراطية والصحافة، بينما تعزز قوى الفساد نفوذها عبر تشريعات تعرقل المساءلة، لافتا إلى "استغلال بعض النخب لإضفاء شرعية على الفساد، مما يحوّل مؤسسات الرقابة إلى هيئات صورية".
وذكرت النائبة البرلمانية عن حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، فاطمة الزهراء التامني، أن "تفشي الفساد في المغرب أدى إلى تكريس سياسة الإفلات من العقاب، وتعطيل عمل المؤسسات، وتقويض ثقة المواطنين في الدولة، بل وبات يهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي"، مشددة على غياب الإرادة السياسية الحقيقية لمكافحته.
"نتيجة تراكمية"
وفي تعليقه على القضية، يشير الخبير الاقتصادي، عضو منظمة "ترانسبرانسي المغرب"، عز الدين أقصبي، إلى أن تطبيع المجتمع مع الفساد هو نتيجة تراكمية لمتابعة الوضع منذ عقود، ردفا "فرغم الجهود المدنية والتشريعية، فإن المغرب تراجع في مؤشرات الفساد الدولية، ما يعكس غياب إرادة سياسية حقيقية لمكافحته".
ويتابع أقصبي حديثه لموقع "الحرة"، أن الفساد في المغرب بنيوي ويمس قطاعات حيوية كالقضاء والصحة والأمن. مؤكدا أن ضعف القوانين وعدم تطبيقها يعزز الإفلات من العقاب ويجعل الفساد آلية لضبط السلطة، خاصة مع اقتصاد ريعي يعمّق هيمنة النخب النافذة".
ويربط أقصبي بين غياب الديمقراطية وتفشي الفساد، موضحا أن "المؤسسات الرقابية ضعيفة والمحاكم غير فعالة والصفقات العمومية تفتقر للشفافية والإصلاحات المعلنة شكلية، حيث تفتقد آليات التنفيذ، مما يكرس الوضع القائم بدلا من تغييره".
ويؤكد المتحدث ذاته، أن الحلول التقنية موجودة، لكن المشكلة سياسية بالأساس. مسجلا أن تطبيق قوانين الشفافية، مثل التصريح بالممتلكات يبقى محدودا، فيما يهيمن تضارب المصالح على دوائر القرار.
"غياب إرادة سياسية"
ويقول رئيس مركز شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية، رشيد لزرق، إن "الأحزاب تستغل ملف الفساد كشعار انتخابي أكثر من كونه مشروعا حقيقيا للإصلاح"، موضحا أن "الفساد متجذر في المنظومة الحزبية نفسها التي تستفيد منه للحفاظ على نفوذها، مما يمنحه حصانة سياسية تحول دون مكافحته بجدية".
ويضيف لزرق في تصريح لموقع "الحرة"، أنه بعد دستور 2011، صدرت نصوص قانونية مهمة لمكافحة الفساد، لكنها لم تُفعّل بسبب غياب الإرادة السياسية.
وقال "الإصلاحات المطلوبة تشمل تجريم الإثراء غير المشروع ومحاربة تضارب المصالح وتعزيز آليات الشفافية، لكنها تواجه مقاومة من داخل المنظومة الحزبية ذاتها".
ويعتبر لزرق أن المؤسسات الرقابية تعاني من ضعف فعاليتها ليس بسبب القوانين، ولكن بسبب الأشخاص الذين يديرونها. مشيرا إلى تعيين العديد منهم عبر الأحزاب السياسية، مما يقوض استقلاليتهم ويجعلهم جزءا من شبكة المصالح التي تعرقل أي جهود حقيقية لمكافحة الفساد.
ويؤكد لزرق أن المشكلة الأساسية ليست في النصوص القانونية بل في غياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد داخل الأحزاب والمؤسسات. ويرى أنه "طالما بقيت الأحزاب تستفيد من الوضع القائم، فإن أي إصلاحات ستظل شكلية، وستظل المحاسبة غائبة، ما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب".
"ثقب أسود"
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاضي عياض بمراكش، عبد الرحيم العلام، أن "المجتمع المغربي لا يطبع مع الفساد، بل يرفضه بطبيعته، كما يتضح من رفع الأحزاب السياسية لشعار محاربته خلال الانتخابات، مستدركا "لكن بعض الفئات تضطر إلى التعامل معه بسبب الحاجة، وهو لا يعني قبوله بل يعكس ضعف البدائل المتاحة".
ويعتقد العلام في تصريح لموقع "الحرة"، أن الأحزاب التي ترفع شعار مكافحة الفساد خلال الحملات الانتخابية غالبا ما تتبنى إجراءات ضعيفة بعد وصولها إلى السلطة. ويعزو ذلك إلى "مقاومة اللوبيات المستفيدة، أو غياب الإرادة السياسية الحقيقية، مما يجعل الفساد مستمرا".
ويؤكد العلام أن الفساد "ثقب أسود" يستنزف ميزانيات ضخمة ويحرم البلاد من فرص استثمارية مهمة.
ويضيف أن مكافحة الفساد تتطلب إجراءات متعددة، من بينها تشديد العقوبات ضد المفسدين، ودعم الجمعيات الحقوقية، وتشجيع المواطنين على التبليغ عن الفساد. مشددا على أهمية التربية المجتمعية، بدءا من المدرسة والأسرة، لتعزيز ثقافة النزاهة ورفض تقديم التنازلات أمام الفساد.
"إجراءات ملموسة"
وفي المقابل، تدافع الحكومة المغربية على التزامها بمحاربة الفساد من خلال استراتيجيات واضحة وإجراءات، موضحة أن الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد (2016-2025) حققت إلى غاية الشهر الأول من السنة الجارية 76٪ من أهدافها، مشيرة تقدم محرز في تعزيز الشفافية والحكامة الجيدة.
وكان الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، أكد مؤخرا، أن الحكومة قامت بعدة إجراءات لتحسين الإدارة العمومية، كإصدار ميثاق المرافق العمومية وقانون تبسيط المساطر الإدارية ومرسوم الصفقات العمومية،
واعتبر بايتاس، أن ذلك "يمنح ضمانات أكبر للحد من استغلال المال العام بطرق غير مشروعة وتعزيز النزاهة في التدبير العمومي".
وأبرز المسؤول الحكومي أن التحول الرقمي يعد ركيزة أساسية في مكافحة الفساد، حيث تعمل الحكومة على رقمنة الخدمات العمومية لتسهيل ولوج المواطنين إليها بشفافية أكبر. داعيا إلى تضافر جهود مختلف الفاعلين، سواء الدولة أو المجتمع المدني والهيئات الرقابية، لتحقيق نتائج فعالة في مكافحة الفساد.