بعدما كانت مضامينه محل جدل متواصل منذ إقراره عام 2004، يتجه المغرب نحو إصلاح قانون الأسرة، في أعقاب توجيه العاهل المغربي، محمد السادس، الثلاثاء، الحكومة بإعادة النظر في "المدونة" التي تطالب الحركة الحقوقية، منذ سنوات، بإدخال تعديلات وتغييرات جذرية على عدد من بنودها.
ويرتقب أن تشرف كل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، على هذا "الإصلاح الهام" بتعبير بيان الديوان الملكي المغربي، الذي أشار إلى أن أمام المؤسسات المذكورة أجل أقصاه ستة أشهر، من أجل رفع تصوراتها وتعديلاتها، قبل أن تقوم الحكومة بإعداد مشروع قانون في هذا الشأن، وعرضه على مصادقة البرلمان.
مستشار وزير العدل المغربي، عبد الوهاب رفيقي، يؤكد أن المغاربة "يترقبون منذ سنوات هذه الخطوة التي لن تكون في صالح المرأة فقط، بل في خدمة المجتمع بجميع فئاته".
ويوضح رفيقي في تصريح لموقع "الحرة" أن التوجيه الملكي حدد الآلية التي سيتم العمل وفقها على إنجاز هذا الورش، وذلك من خلال تكليف مؤسسات بعينها للتشاور والعمل، بالإضافة إلى تحديد حيز زمني من أجل رفع توصياتها.
ودعا العاهل المغربي وزارة العدل والنيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية إلى إشراك جميع الهيئات الأخرى المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، وهو الهيئة الرسمية المسؤولة عن إصدار الفتاوى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين.
وفي هذا السياق، يكشف رفيقي أنه من المرتقب أن تتشكل لجنة مكونة من ممثلين عن وزارة العدل والمؤسستين القضائيتين المذكورتين من أجل وضع الخطوط العريضة لهذا المشروع، وذلك بتنسيق مع جميع الهيئات الأخرى.
"خطوة إيجابية"
وعبرت مجموعة من المنظمات الحقوقية عن ترحيبها بالخطوة التي "طال انتظارها"، حيث حمَلت على مدى السنوات الماضية مطلب "التغيير الجذري" لبنود المدونة بشكلها الحالي، بأهداف تعزيز دور المرأة داخل الأسرة ومنحها حقوقا جديدة، فضلا عن دعواتها لمواكبة تغيرات المجتمع والالتزامات الدولية التي صادقت عليها المملكة، إضافة إلى إخراج المرأة من "الوصاية والعنف الذكوري" نحو المساواة الفعلية مع الرجل.
في هذا الجانب، تقول رئيس جمعية التحدي للمساواة والمواطنة، بشرى عبدو، إن البلاغ الملكي يمثل "لحظة مهمة" من أجل إخراج قانون أسرة جديد إلى حيز الوجود، بشكل يستجيب للحاجيات الآنية للنساء، ويتجاوز كل الاختلالات والسلبيات التي كشفت عنها التجربة السابقة لتطبيق المدونة.

من جهتها، تقول الحقوقية المغربية البارزة، فوزية العسولي، إن الخطوة الأخيرة "تبقى إيجابية" من أجل فتح نقاشات واسعة لمناقشة الإشكالات التي شابت تطبيق المدونة السابقة وأيضا الاختلالات التي حملتها في طياتها منذ إخراجها.
وتوضح الفاعلة الحقوقية في تصريح لموقع "الحرة"، أن الحركة الحقوقية بالمغرب وقفت على عدد من الإشكالات كرست التمييز وألحقت الضرر بالنساء والأطفال، ولم يعد مسموحا أن تستمر في ظل التطورات الاجتماعية والثقافية التي عرفها المجتمع المغربي.
أبرز المطالب
وطوال سنوات تطبيق "المدونة" التي تم تبنيها في أولى سنوات حكم الملك محمد السادس، رفعت المنظمات الحقوقية المغربية مجموعة من المذكرات المطلبية إلى السلطات الحكومية المعنية، لدعوتها للتحرك من أجل تجاوز نصوص تصفها بـ"التمييزية والمكرسة للتراتبية في العلاقة بين الزوجين والحيف والعنف ضد النساء والفتيات".
وتدفع مجموعة من الأصوات الحقوقية بأن المدونة في صيغتها الحالية، تنتهك مجموعة من الحقوق الأساسية للنساء، وتسهم في تفقيرهن، وتطالب بمراجعة عدد من المقتضيات المتعلقة بالزواج والطلاق، وتزويج الفتيات الصغيرات والطلاق والولاية الشرعية على الأبناء، وصولا إلى الحضانة المشتركة، وإثبات النسب وتعدد الزوجات والإرث.
وفيما يتعلق بأبرز المطالب التي تنادي بها جمعية التحدي والمساواة في التعديلات المرتقبة، تشدد الناشطة الحقوقية، بشرى عبدو، على ضرورة "مراجعة لغة المدونة وحذف المصطلحات والعبارات التي من شأنها أن تكرس الصور النمطية لمهام وأدوار الرجال والنساء"، بالإضافة إلى "إلغاء جميع حالات الاستثناء التي تسمح بتزويج الطفلات، وبتعدد الزوجات".
ومن بين مطالبات الجمعية، بحسب المتحدثة ذاتها، إثبات النسب، مع النص على اعتماد الخبرة الجينية كأداة لإثباته، وحضانة الأبناء مع إعطاء الحق في الزواج للأم الحاضنة، والمساواة في الولاية القانونية على الأبناء، وإعادة النظر في النفقة في حالة حل ميثاق الزوجية، فضلا على تقسيم الممتلكات مع جعل وثيقة اقتسام الممتلكات من الوثائق الضرورية لاستكمال ملف الزواج وشرط منصوص عليه في عقد الزواج.
وتتقاطع المذكرة المطلبية لجمعية التحدي والمساواة في عدد من النقاط مع نظيرتها التي تحملها عدة هيئات حقوقية مغربية أخرى، مثل فيدرالية رابطة حقوق النساء، الائتلاف الحقوقي الذي يجمع عشرات الجمعيات الفاعلة في مجال الدفاع عن حقوق النساء بالمغرب.
وتدعو الفيدرالية من جانبها، إلى "ضرورة توحيد القوانين المطبقة وطنيا، بشأن قضايا الأسرة وإغلاق الباب أمام الأعراف التي تكرس الدونية وتشرعن الحيف في حق المرأة والقاصرات"، وفق ما كشفته، الفاعلة الحقوقية، نجية تزروت.
وتطالب الفيدرالية أيضا، بحسبما كشفته تزروت في حديثها لموقع "الحرة"، بإلغاء جميع المقتضيات التي تحرم المرأة من حقها في الولاية القانونية على أبنائها القاصرين، إضافة إلى النص على أن الولاية على الأبناء أثناء قيام العلاقة الزوجية تكون للزوجين معا، وفي حالة تواجد نزاع، اللجوء إلى القضاء الاستعجالي لتحقيق المصلحة الفضلى للطفل. وجعل الولاية حقا للحاضن سواء كان زوجا أو زوجة، بعد انفصال العلاقة الزوجية.
جدل الإرث
وتتمسك الفيدرالية الحقوقية بمطلب مراجعة نظام الميراث "بما يفتح الباب أمام الاجتهاد الخلاق وينسجم مع روح الدستور ومقتضياته وخاصة حظر التمييز على أساس الجنس أو الدين في احترام تام لمبدأ المساواة بين النساء والرجال، والمساواة بين الأطفال".
وتشكل مسألة اقتسام الإرث بين الرجال والنساء بشكل متساو نقطة جدلية حساسة في نقاش تعديل مدونة الأسرة بالمغرب، وسط مواقف متباينة بين رافضي القوانين "التي لا تحقق المساواة"، ومعارضي كل نقاش يتداول في مسألة واردة بنصوص مقدسة، كما هو الشأن بالنسبة لنظام الإرث.
وفي هذا الجانب، تشدد الحقوقية، فوزية العسولي، على ضرورة أن يكون تعديل نظام التوريث الذي تراه "مجحفا" في حق النساء، مدخلا أساسيا في الإصلاح المرتقب.
وأوضحت إذا كان للمقتضيات السابقة ما يبررها في السابق، إلا أن واقع الأسر المغربية، اليوم، الذي تقوم فيه النساء بنفس أدوار الرجل في إعالة أسرهن ومساعدتهن في بناء الثروة، يستدعي استفادتهن من كامل حقوقهن، شأنهن شأن الذكور.
وفيما يتعلق بطبيعة الإصلاحات التي ستباشرها وزارة العدل، يوضح عبد الوهاب رفيقي، أن من السابق لأوانه الحديث عن التفاصيل، مشيرا إلى أن الأمر سيكون بيد اللجنة الثلاثية التي ستتكلف بتقديم توصيات الإصلاح، غير أنه يؤكد أن المهم هو بعض البنود والإشكالات المتعلقة بالولاية والحضانة وتزويج القاصرات والقضايا المتعلقة بالطلاق، ستكون أولويات.
"الإصلاح لن يكون سهلا"
وأثارت النقاشات التي فتحتها وزارة العدل خلال الأشهر الأخير بشأن تعديلاتها المرتقبة على المدونة انقسامات كبيرة بين تيار محافظ يدعو للتشبث بـ"المرجعية الإسلامية" و"خصوصيات المجتمع"، في مقابل دعوات للاستناد في التعديلات المرتقبة على القوانين الدولية التي صادقت عليها الرباط.
في هذا السياق، يؤكد مستشار وزير العدل المغربي أن الإصلاح "لن يكون سهلا في ظل التجاذبات السياسية والإيديولوجية والتنوع في الأفكار والآراء والتوجهات"، غير أنه يشير إلى أنه مجرد فتح هذا الورش يبقى "خطوة جد إيجابية"، بعد أن قطع المغرب، على حد تعبيره: "أشواطا مهمة فيما يتعلق بصيانة حقوق المرأة".
ويضيف رفيقي أن التعديلات المرتقبة "ستكون أكثر انسجاما مع المواثيق الإنسانية لحقوق الإنسان، وما صادق عليه المغرب من اتفاقيات، ومنسجمة أيضا مع دستور 2011، بالتالي كان من الطبيعي إنتاج مدونة أسرة منسجة ومحينة مع القفزة الكبيرة والنوعية التي جاء بها الدستور.
ويضيف رفيقي أنه "لا يمكن أيضا إغفال النقاشات التي يعرفها المجتمع بشأن الموضوع، وسيتم طرح والنظر في كل شيء"، قبل أن تتخذ اللجنة بتشاور مع باقي الهيئات التي أشار إليها البلاغ الملكي، للوصول إلى نموذج من قانون الأسرة يقع عليه التوافق، لأننا نتحدث عن مشروع وطني وليس إيديولوجيا أو سياسيا.
وفيما يتعلق بالمقاومة التي يرتقب أن تُقابل بها بعض التيارات المحافظة بعض الإصلاحات، يقول رفيقي إن "من الطبيعي أن يكون هناك نوع من الرفض، لأننا مجتمع متنوع يضم متحررين ومحافظين"، مشيرا إلى أن "هناك فئات ستسعى للحافظ على مصالحها.. هذه طبيعة القوانين والمجتمعات وهذا أمر صحي".
ويضيف أن النقاش والحوار سيخلق أقصى ما يمكن من التوافق بين مختلف فئات المجتمع بشأن جميع النقط الخلافية، موضحا أن المصلحة العليا التي ستقدرها اللجنة ستكون هي الحكم في الأخير.
ويختم رفيقي حديثه بالتأكيد على أن هدف هذا التطور الإصلاحي الأسمى يتمثل في تحقيق الأنفع والأصلح للمجتمع، مع مراعاة السياقات وموقع المغرب ضمن المنظومة الدولية، وأيضا للهوية والمرجعية الأساسية والثوابت المتفق عليها بين كل فئات المجتمع.