يشهد المغرب جدلًا بشأن جدية السلطات في مكافحة الفساد، خاصة بعد قرار منظمة "ترانسبرانسي المغرب" تجميد عضويتها في اللجنة الوطنية لمحاربة الفساد، احتجاجًا على ما وصفته بغياب الإرادة السياسية الحقيقية لتفعيل آليات النزاهة والرقابة.
وأثار هذا القرار تساؤلات حول مستقبل الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد ومدى التزام الحكومة بتطبيق تعهداتها في هذا المجال، في ظل انتقادات من فعاليات مدنية وحقوقية.
وجاء قرار "ترانسبرانسي المغرب"، وفق بيان لها، عقب سلسلة من المؤشرات التي أثارت القلق، من بينها امتناع رئيس الحكومة عن دعوة اللجنة الوطنية لمحاربة الفساد للاجتماع منذ ثلاث سنوات، رغم أن القانون المؤسس لها ينص على عقد اجتماعين على الأقل سنويًا.
وذكر بيان المنظمة أن قرارها تزامن أيضًا مع استمرار الحكومة في تجاهل مطالب الفاعلين بإعادة طرح مشروع القانون الجنائي الذي يتضمن تجريم الإثراء غير المشروع، وهو ما اعتبرته تراجعًا عن التزامات مكافحة الفساد.
ويتقاطع هذا الجدل مع تقرير الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها لسنة 2023، الذي كشف عن استمرار اختلالات كبيرة في منظومة مكافحة الفساد، بما في ذلك ضعف تفعيل آليات المحاسبة، وغياب سياسات واضحة لتعزيز الشفافية، والتضييق على المؤسسات الرقابية.
وبينما تؤكد الحكومة التزامها بالإصلاح، يرى مراقبون أن التردد في اتخاذ قرارات حاسمة يعزز حالة الشك ويفاقم أزمة الثقة بين المواطنين والمؤسسات.
"تراجع خطير"
ورأى رئيس "الشبكة المغربية لحماية المال العام"، محمد المسكاوي، أن الحكومة تفتقر إلى إرادة سياسية حقيقية لمحاربة الفساد، وهو ما يفسر غياب أي تقييم جاد للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي تنتهي قريبًا دون تحقيق نتائج ملموسة.
وأشار إلى أنها "لم تُبدِ أي اهتمام بهذا الملف في خطاباتها الرسمية، رغم التراجع الواضح لمؤشرات الشفافية في المغرب، حيث بات يحتل مرتبة متدنية على مؤشر الفساد العالمي".
ويتابع المسكاوي حديثه لموقع "الحرة"، بأن الحكومة الحالية أقدمت على إجراءات اعتبرها "تراجعًا خطيرًا" عن التزاماتها في محاربة الفساد.
وندد "بمحاولات التضييق على المجتمع المدني عبر مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، الذي يسعى لمنع الجمعيات من تقديم شكاوى مباشرة أمام النيابة العامة في قضايا الفساد المالي، وهو ما يتعارض مع مقتضيات الدستور المغربي والتزامات البلاد الدولية".
وأكد المسكاوي أن استمرار الفساد بهذا الشكل ستكون له تداعيات كارثية على التنمية والاستثمار في المغرب.
وأوضح أن غياب الشفافية والمساءلة يعطل المشاريع الكبرى ويخلق بيئة طاردة للاستثمار، حيث تصبح الصفقات العمومية مرتعًا للنهب والفساد.
وقال: "أمام هذا الوضع، فإن الشبكة بدورها ستتجه نحو تجميد عضويتها في اللجنة الوطنية لمحاربة الفساد".
"آثار سلبية"
وأكد رئيس مركز شمال إفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية، رشيد لزرق، أن عدم اجتماع اللجنة الوطنية لمحاربة الفساد منذ ثلاث سنوات يؤكد غياب الجدية لدى الحكومة في مكافحة هذه الظاهرة، مما يجعل اللجنة مجرد آلية شكلية دون تأثير فعلي.
وقال لزرق، لموقع "الحرة"، إن "التصريحات الرسمية حول محاربة الفساد تظل مجرد شعارات إعلامية، في حين أن الواقع يكشف عن تفشي الظاهرة في غياب أي استراتيجية ميدانية واضحة".
وحذر من أن استمرار تفشي الفساد ستكون له آثار سلبية مباشرة على الاقتصاد الوطني، حيث يؤدي إلى هدر الموارد العمومية وإضعاف فعالية الإنفاق الحكومي، مما يعرقل تحقيق التنمية المستدامة.
وأشار إلى أن تزايد الفضائح المرتبطة بسوء تدبير المال العام يعزز الشكوك حول جدية الحكومة في التصدي للفساد، ويؤدي إلى فقدان ثقة المواطنين في المؤسسات الرسمية.
وبشأن الحلول العاجلة التي يجب اتخاذها، شدد لزرق على ضرورة أن يعقد رئيس الحكومة اجتماعات دورية للجنة الوطنية لمحاربة الفساد، وأن يتم تنزيل قانون صارم لمحاربة تضارب المصالح، إلى جانب تبني تشريعات واضحة لتجريم الإثراء غير المشروع.
وأكد أن الإصلاحات يجب أن تتجاوز مرحلة الوعود إلى سياسات ملموسة تضمن النزاهة والشفافية في تدبير الشأن العام.
"إجراءات ملموسة"
وفي المقابل، ذكر الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية، مصطفى بايتاس، أن موضوع الفساد سبق للحكومة أن تحدثت فيه في مستويات متعددة ومن منابر مختلفة.
وأكد أن "الإجراءات التي قامت بها الحكومة في هذا الاتجاه مهمة وملموسة، أبرزها الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد 2016/2025، التي تحقق منها إلى حد الآن 76٪ من الأهداف".
وأضاف بايتاس، في ندوة صحفية عقب اجتماع مجلس الحكومة، أنه "تم تعزيز ورش الإدارة من خلال إصدار مجموعة من القوانين المهيكلة، ومن بينها ميثاق المرافق العمومية، وقانون تبسيط المساطر الإدارية، ومرسوم الصفقات العمومية الذي أعطى ضمانات أكثر من أجل تطويق أي محاولة للالتفاف أو استعمال المال العام في غير غايته".
وأشار المسؤول الحكومي إلى مواصلة التحول الرقمي، مؤكدًا أن الرقمنة هي السبيل نحو محاربة الفساد في الخدمات العمومية، باعتبارها دعامة أساسية للوقاية من الفساد وكذا تطوير البنيات المفتوحة.
وقال: "لكي نواجه ظاهرة الفساد، يجب أن تتضافر جميع الجهود، سواء الدولة أو المجتمع المدني والهيئات، وهذا هو السبيل، أما هذا التراشق أو محاولة رمي المسؤولية أو الشيطنة فلن تخدم بلادنا في هذا المجال".