التتار والقرم
منفى الأجداد وحلم الأبناء
عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 كانت الصحفية كلثوم خليلوفا صوت التتار للعالم.
غطّت الأحداث لحظة بلحظة، ووثقت تفاصيل "المنفى الجديد". وكان عمرها 19 عاما حينها.
بعد ثمانية أعوام عادت روسيا من جديد، هذه المرة لتغزو أوكرانيا بالكامل. لم يختلف المشهد كثيرا فالفاعل هو نفسه، فلاديمير بوتين.
وعقب الحرب الروسية الجديدة على بلادها، تحولت خليلوفا من "صوت التتار" فقط، إلى "صوت أوكرانيا".
خليلوفا من مواليد عام 1995 وتُحسب على الجيل الجديد من أبناء "تتار القرم".
جيلٌ نشأ على مأساة الأجداد، ولايزال يحمل روح قضيته: "إما أن نكون أحرارا أو عبيدا".
"للحرية" مكانة خاصة عند تتار القرم، ولطالما رددها قادتهم خلال العقود الماضية، مطالبين بانتزاعها من الروس، إلى أن بدأ غزو موسكو لأوكرانيا في عصرنا الحديث لتعلو من جديد.. لكن لماذا وكيف؟ وأين هم "التتار" من كل هذه القصة؟
منفى الجيل الجديد
بعد ضم روسيا للقرم في 2014 اضطرت كلثوم خليلوفا للانتقال من موطن أجدادها، حالها حال الآلاف من أبناء التتار، إلى العاصمة الأوكرانية كييف، حيث واصلت عملها الصحفي.
لم تتمكن من مقابلة أسرتها في القرم بعد ذلك، بسبب مذكرة التوقيف التي صدرت بحقها والحكم النهائي بالسجن، وذنبها الوحيد أنها "صحفية" تغطي الأحداث وما يجري على الأرض بدقة.
منذ الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في فبراير 2022، كانت خليلوفا واحدة من أبرز الصحفيين الذين بدأوا بتغطية العمليات العسكرية الروسية هناك.
نقلت التطورات الساخنة باللغة التركية تارة والأوكرانية تارة أخرى.
"تتار القرم، وقادتهم، ونحن الشباب نعرف المنفى والحلم جيدا، ونعرف كيف نفوا أجدادنا وما فعله الروس بهم".
"اليوم نفهم أننا لسنا فقط المستهدفين. بل الأوكرانيين بالعموم أيضا"، تقول خليلوفا لموقع "الحرة".
"لقد تعرض تتار القرم منذ أكثر من 100 عام للاحتلال الروسي، وجميع أنواع القمع والنفي، وحتى الإبادة الجماعية".
"نظام جوزيف ستالين في 18 مايو 1944، ورغم حقيقة أن أكثر من 30 ألفا من التتار قاتلوا في صفوف الجيش الأحمر، إلا أنه أعلنهم خونة، ونفى منهم ما يقارب 200 ألف"، تضيف الصحفية الشابة.
وتتابع: "تم طردهم من وطنهم إلى آسيا الوسطى وجبال الأورال في ظروف سيئة وبدائية. مات الآلاف من الناس وأصيب القسم الآخر".
منذ تلك الحقبة، مارست روسيا ضغوطا على التتار، لكن وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي تمكن البعض منهم من العودة إلى شبه جزيرة القرم، قادمين من آسيا الوسطى ومناطق المنفى المختلفة.
وتشير خليلوفا: "تمكنا بعد ذلك من الحصول على مختلف الحقوق داخل أوكرانيا".
أوكرانيا بدأت في اتخاذ خطوات "أكثر ديمقراطية بمرور الوقت"، لكن سرعان ما عادت الكرّة الروسية، واتجهت موسكو لغزو غير قانوني في 2014.
"في ذلك اليوم، لم نعترف بالاحتلال الروسي، وقاومنا، وعارضنا ما يسمى بالاستفتاء، بينما واصلت روسيا سياسات الاستيعاب والاعتقال والنفي ضدنا"، تقول خليلوفا.
تردف قائلة إن روسيا وفي حال فازت بحربها على أوكرانيا فإن ذلك سينعكس على تتار القرم الذين يتوزعون في مناطق متفرقة من المدن الأوكرانية، وستصبح الظروف عليهم "أكثر حدة".
ورغم أن الهدف الروسي في العصر الحديث أوكرانيا والحكومة التي تقودها، إلا أن "التتار يشعرون وكأنهم جزء من الحرب". "هم يقاتلون في صفوف الجيش الأوكراني، فيما يقدم قادتهم دعما لا نهاية له لأوكرانيا".
عودة إلى الوراء
ربما يكون عامي 2022 و2014 أحدث المحطات لمآسي "تتار القرم"، لكن وبالعودة إلى الوراء كان هناك صورة كاملة وثقتها كتب التاريخ، ومن بقي من الأجداد على قيد الحياة في "بلاد المنفى"، والذين عاصروا ما حصل في عهد الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي.
"التتار" هم من الأقوام التركية
وموطنهم الأصلي شبه جزيرة القرم، وينحدرون من جبال القوقاز أو جبال القفقاس، وهي سلسلة جبلية تقع على الحدود بين قارة آسيا وأوروبا، وتمتدر بين البحر الأسود وبحر قزوين.
الباحث والمطلع على التاريخ العثماني، محمد قدو الأفندي، يقول أن التتار استقروا بشبه الجزيرة خلال العصر العباسي، ومنذ القرن الثامن الهجري ظهرت بقوة دولتهم ومدّت نفوذها إلى المناطق المجاورة لها، بل وفرضت ذات يوم الجزية على موسكو.
لاحقا ضُمت القرم تحت الخلافة العثمانية، إلى أن تمكّن الروس بعد قرابة القرن من غزو شبه الجزيرة وضمها إليها في سنة 1783 ميلادي.
الترحيل والنفي
القرم تمتعت بالحكم الذاتي إبان الحقبة السوفياتية كجمهورية من جمهوريات الاتحاد،
لكن شعبها التتاري عانى من ويلات التهجير القسري في عهد الزعيم السوفييتي السابق جوزيف ستالين عام 1944،
بعد أن اتهمهم بالتعاون مع الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، بحسب ما يقول الباحث لموقع "الحرة".
يصف نامق كمال بيار، أمين عام "المؤتمر العالمي لتتار القرم" نائب رئيس جمعية أتراك القرم في تركيا، ما حصل في 1944 بـ"الكارثة الحقيقة للتتار..
هو المنفى العظيم الذي حدث في الثامن عشر من شهر مايو حينها..
واليوم يتم الاعتراف به على أنه إبادة جماعية، من قبل التتار
وأوكرانيا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وكندا".
يضيف بيار لموقع "الحرة": "في ظل هذا المنفى والإبادة الجماعية،
فقدت القرم 46.2 بالمئة من سكانها التتار.
تم نفيهم من وطنهم في ليلة واحدة!".
ووفقا للبيانات السوفيتية، فإن النفي شمل 230 ألف شخص.
لكن حسب سجلات "حركة تتار القرم الوطنية" فإن الرقم أكبر من ذلك..
"حيث تم ترحيل 423 ألفا،
فيما فقد 193 حياتهم في العام الذي تلى المنفى".
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991
بدأ تتار شبه جزيرة القرم بالعودة إلى وطنهم
ووفقا للبيانات الرسمية التي حصل عليها موقع "الحرة" من "المؤتمر العالمي لتتار القرم"، فقد عاد ما يقارب 350 ألف شخص، في حين ووفقا لبيانات "جمعية أتراك القرم في تركيا" فالعدد يقارب 450 ألف.
وعندما عادوا وجدوا أنفسهم في دولة مستقلة جديدة هي أوكرانيا، حيث واجهوا نسبة بطالة عالية جدا، وظروف سكن رديئة للغاية.
نتيجة لذلك، نشبت توترات واحتجاجات متواصلة تتعلق بحقوق الملكية، إذ أن تمليك الأراضي في القرم للتتار كان أمرا خلافيا في أوكرانيا.
لم يدم ذلك طويلا، لينتقل الحال إلى مشهدٍ آخر، حيث بدأ سياسيون روس في القرم بتوثيق علاقاتهم مع موسكو، من خلال إجراءات وصفتها الحكومة الأوكرانية، حينها بأنها "منافية للدستور".
الدستور.. والتتار
وينص الدستور الأوكراني الذي سن عام 1996 على أن القرم لها وضع الجمهورية ذاتية الحكم، ونص أيضا على أن القوانين التي تسن في القرم يجب أن تتماشى مع القوانين الأوكرانية.
يشير الباحث محمد قدو الأفندي إلى أنه وإبان الأزمة الأوكرانية عام 2012، رأى تتار القرم أن العيش في ظل أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي "يفتح لهم آفاقا أوسع في مجال الحقوق والحريات".
و"لم تغب عنهم ذكريات الماضي في ظل الحكم الروسي"، حتى عاد إليهم مجددا في شكل ضم لتلك الأراضي إلى حكم موسكو، في 16 مارس 2014، عبر استفتاء من جانب واحد، لم يعترف به دوليا.
بدوره، يوضح نامق بيار أن "احتلال 2014 أسفر عن نفي 30 ألف من التتار، باتجاه المدن الأوكرانية المحاذية لشبه الجزيرة".
تكميم الأفواه
بمجرد أن تم غزوها قبل 8 سنوات، تم حظر أنشطة مجلس "تتار القرم"، بينما منع زعيمهم الحالي، مصطفى عبد الجميل قرم أوغلو، وغيره من القادة من الدخول والإقامة في وطنهم الأصلي.
"سُجن العديد منهم من قبل روسيا بوتين وما زالوا يُطردون"، وفق ظافر كاراتاي، ممثل تركيا عن "مجلس تتار القرم"، الذي تحدث أيضا عن قرارات وتقارير اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في شبه الجزيرة، بالإضافة إلى العديد من التقارير الصادرة عن منظمات دولية أخرى.
ويضيف كاراتاي لموقع "الحرة": "بينما كان أتراك القرم، الذين لم يوافقوا على احتلال روسيا لوطنهم في عام 2014 وقاوموا ديمقراطيا، يتعرضون لضغوط كبيرة لمدة 8 سنوات، هاجمت روسيا في فبراير 2022 البر الرئيسي لأوكرانيا".
وفي الشهر الأول من الهجوم، تأثر أكثر من 20 ألف من أبناء هذه المجموعة العرقية، وخاصة أولئك الذين يقيمون في المنطقة المحتلة بين خيرسون وميليتوبول وماريوبول وشبه الجزيرة.
ويتابع كاراتاي، أحد أبرز الشخصيات التي تواصل المضي بالقضية، "كانت هناك وفيات. التتار في هذه المنطقة هم أتراك القرم الذين حاولوا العودة إلى شبه الجزيرة بعد عام 1967، وتم نفيهم مرة أخرى. هم لم يذهبوا إلى أماكن نفيهم السابقة، بل حافظوا على وجودهم من أطلال وطنهم".
"يدرك التتار أنه في حال فازت أوكرانيا بالحرب، فإن الحرية ستأتي إلى شبه جزيرة القرم"،
"وفي الوقت نفسه يدركون جيدا التفجيرات الوحشية والمجازر التي ارتكبتها روسيا في الشيشان ثم في جورجيا، وأخيرا في سوريا".
أين هم الآن؟
منذ بدء الحرب الروسية الساخنة في فبراير 2022 اضطر الملايين من المواطنين الأوكران للجوء إلى الدول الأوروبية القريبة، في مشهد انسحب أيضا على "التتار". ضمن دائرة "الغزو الثاني خلال 8 سنوات".
نامق كمال بيار، أمين عام "المؤتمر العالمي لتتار القرم" يوضح أن الحرب الروسية دفعت ما يقرب 1100 من التتار في أوكرانيا للجوء إلى تركيا، و500 آخرين إلى ألمانيا وبولندا.
"طالبو اللجوء، ومعظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، هم أزواج وأطفال وأقارب تتار القرم والأوكرانيين والمواطنين الأتراك"، يقول نامق بيار.
ويعود بيار بحديثه للوراء، ويشير إلى أن التتار الذين تم نفيهم بين 1783 و1944 كانوا قد انتشروا في 16 دولة في العالم، بينما يوجد أكبر عدد لهم في تركيا، ويقدر بخمسة ملايين شخص.
من جهتها، تقول الصحفية التي لا تزال في أوكرانيا إلى الآن، كلثوم خليلوفا،
"إن الضغط على المواطنين التتار ازداد في الأشهر الأولى من الحرب الروسية على أوكرانيا، وحتى على من قرر البقاء في شبه الجزيرة ورفض الخروج سابقا".
تضيف: "الأشخاص في شبه الجزيرة الذين ينشرون على مواقع التواصل الاجتماعي يتعرضون للاعتقال والخطف".
وكان آخر محام تتاري معروف من شبه جزيرة القرم، إدم سيميدلايف، قد اعتقل في شبه جزيرة القرم المحتلة بسبب منشور شاركه عبر وسائل التواصل. وتتابع خليلوفا: "الأوضاع عبارة عن تقييد حرية وتعبير ونفي واعتقالات واتهامات مستمرة".
"روسيا تريد من كل تتار القرم مغادرة شبه الجزيرة وتوطين الروس في الأماكن الشاغرة عنهم وتغيير التركيبة السكانية".
"إما أن نكون أحرارا أو عبيدا. إذا احتلت روسيا مكانا واحدا فلن تتوقف عنده. سترغب في الانتقال إلى مكان آخر".
وتتابع الصحفية: "خطط روسيا في التغيير الديمغرافي ليست جديدة. هي مستمرة منذ 100 عام. 95 بالمئة من سكان شبه الجزيرة كانوا من التتار، لكن مع مرور الوقت استبدلتهم موسكو بالروس. استيعاب ومن ثم نفي وتغيير ديمغرافي. ما حصل هو تقليد روسي".
المنفى من القلعة
يقول إريك لوهر، المتخصص في التاريخ الروسي، لموقع "ناشيونال جيوغرافيك"، إن تتار القرم "ظهروا على الخريطة لأول مرة" حوالي عام 1241، عندما غزا باتو خان، حفيد جنكيز خان، المنطقة، مما جعلها جزءا استراتيجيا من إمبراطورية المغول وشريكا تجاريا وثيقا مع مركز القوة الناشئ في موسكو.
ويمتد تاريخ التتار مع الإمبراطورية الروسية بشكل وطيد، إذ كان هناك تعاون تجاري وتبادل ثقافي وزواج بين سكان المنطقتين، ولكن في بعض الأحيان كان هناك انعدام للثقة بسبب العلاقات القوية التي ربطت بين الإقليم والدولة العثمانية آنذاك، وفقا لناشيونال جيوغرافيك.
العثمانيون تمكنوا من السيطرة على "خانية القرم" عام 1475، وسمحوا للتتار بالبقاء في الحكم كأمراء تابعين للدولة العثمانية.
لكن الخانية، التي كانت تضم إقليم القرم وجزءا كبيرا من أوكرانيا اليوم، أصبحت بعدها مسرحا للمواجهات بين السلطنة العثمانية والإمبراطورية الروسية.
وعام 1783، استولت الإمبراطورية الروسية على إقليم القرم بعد الانتصار في الحرب التي خاضتها على السلطنة العثمانية.
وأشارت دراسة أجراها "مركز مصادر تتار القرم"، ونشرتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، عام 2019، إلى أن أول موجة من المهاجرين من "تتار القرم" أتت "مباشرة" بعد استيلاء الإمبراطورية الروسية على الإقليم.
وتشير الدراسة إلى أن الأرقام لا تذكر بدقة أعداد المهجرين، إلا أن عددا من الباحثين ذكروا أن حوالي 20 إلى 30 في المئة من سكان الإقليم تم تهجيرهم بعد الاحتلال الروسي.
وذكرت الدراسة أن المسلمين تعرضوا للاضطهاد بسبب ديانتهم وأن المسؤولين الروس حاولوا إدخال اللغة الروسية ومحو الهوية الأساسية في كل شكل من أشكال الحياة.
بعدها أيضا، شهد القرم عددا من موجات الهجرة الجماعية، عقب حرب القرم، التي شنتها الإمبراطورية الروسية على السلطنة العثمانية وانتهت عام 1856.
ووفقا لما نقلته الدراسة ذاتها عن إحصائيات رسمية، فإن "أكبر هجرة وأكثرها مأساوية فيما يخص التبعات" كانت في منتصف القرن التاسع عشر، ففي 1870 هاجر حوالي 193 ألف شخص من القرم، وترك تتار القرم 687 قرية خاوية بأكملها.
وفي الثامن من نوفمبر عام 1861، تبنى الإقليم قوانين امتلاك المهاجرين الأجانب للأراضي التي شرّعتها الإمبراطورية الروسية، ومنحت كل الامتيازات وفرصة الحصول على الجنسية للأجانب الراغبين في الاستقرار بالقرم.
أما بالنسبة للمهاجرين من تتار القرم، فإنهم شهدوا العديد من التحديات للوصول إلى الدول التي هاجروا إليها، الكثير منهم عانوا من الجوع ولم تقم الإمبراطورية الروسية بمد يد العون للمهاجرين المهددين بالموت.
وتؤكد الدراسة، نقلا عن تقرير نشرته حكومة الإقليم عام 1925، أنه خلال قرن ونصف "فقدت المنطقة حوالي مليونا من تتار القرم".
من أغلبية إلى أقلية
يعتبر إقليم القرم آخر مواطئ الجيش الأبيض التابع للإمبراطورية الروسية والذي حارب الجيش الأحمر عند بدايات تأسيس ما عرف لاحقا بالاتحاد السوفييتي، والذي نشأ بعد الحرب الأهلية التي اندلعت عقب مقتل آخر قيصر لروسيا عام 1917.
وتقول المؤرخة آن آبلبوم، في حديث مع راديو "إذاعة أوروبا الحرة/راديو ليبرتي"، إن المقاومة التي شهدها الاتحاد السوفيتي من الأوكرانيين آنذاك كانت سببا في شعور بالخوف مما يمكن للأوكرانيين فعله.
ومن 1921 إلى 1922، عانى تتار القرم من مجاعة مأساوية تسببت بـ "إبادة جماعية" بفقدان 80 ألف شخص، وتقول الدراسة التابعة للمفوضية السامية لحقوق الإنسان، إن هذا "تسبب بتغيير القرم، حيث تحولت التتار من عرقية غالبة على الجنسيات الأخرى لتصبح أقلية".
زعيم الاتحاد السوفييتي، جوزيف ستالين، أطلق من 1928 إلى 1940 حملة "التنظيم الجماعي"، التي تهدف، بجزء منها، إلى توحيد ملكية الأراضي الفردية والعمالة في مزارع خاضعة لسيطرة الدولة.
وفي بداية الثلاثينيات، شهد الأوكرانيون ما يعرف باسم "هولودومور" أي ("وباء الجوع"، وأحياناً تترجم إلى "القتل بالتجويع" بالأوكرانية).
وتقول آبلبوم إن ستالين استهدف متعمدا الشعب الأوكراني بهذه المجاعة، مضيفة أنه استغل أزمة في عام 1932 كان يشهدها الاتحاد السوفيتي، وبحلول خريف ذلك العام اتخذ عددا من الإجراءات لاستغلال الأزمة ضد الأوكرانيين.
وتشير آبلبوم إلى أن ستالين وضع قائمة سوداء بمزارع وبلدات وقرى معينة، وطوق الحدود بحيث لا يتمكن الناس من مغادرة أوكرانيا، كما قام في الوقت ذاته بوضع تدابير خاصة استهدفت الثقافة والمؤسسات واللغة الأوكرانية.
ونوهت المؤرخة إلى أن الاتحاد السوفيتي كان على علم بما يحصل آنذاك.
لكن "الضربة الكبرى" أتت في مايو عام 1944، عندما قرر ستالين ترحيل أكثر من 208 ألف شخص من إقليم القرم مستخدمين 70 قطارا للشحن كل منها احتوى على 50 عربة.
التقلّص بالأرقام
يقول المؤرخ العثماني، خليل إنالجيك، إن شبه جزيرة القرم هي "متحف للقبائل التركية المتعاقبة".
وهذه القبائل، بحسب ما يوضح ظافر كاراتاي (ممثل تركيا عن مجلس تتار القرم) لموقع "الحرة" هي التي أعطت شبه جزيرة القرم هويتها المميزة حتى اليوم.
كما أنها "تركت بصماتها بكل معنى الكلمة، لدرجة أن اسم شبه جزيرة القرم ربما يأتي من كلمة تركية قديمة تعني القلعة أو الحصن".
لكن هذه "القلعة" تغيّرت ملامحها ونفي سكانها ولم تظل كما كانت في التاريخ.
يستعرض نامق كمال بيار، أمين عام المؤتمر العالمي لتتار القرم، "النفي بالأرقام"، متحدثا عن أول موجة هجرة كبيرة بين عامي 1792 و1793، ومن ثم 7 موجات من الهجرات الجماعية (1802-1803، 1812-1813، 1830، 1860-1861، 1874، 1890، 1902).
ويوضح لـ"الحرة" أن "تتار القرم، الذين اضطروا للهجرة إلى تركيا في كل موجات الهجرة هذه، يقدّرون بعشرات الآلاف، بل ومئات الآلاف".
ووفقا لأبحاث البروفيسور الدكتور كمال كاربات، فإن عدد تتار القرم الذين هاجروا إلى تركيا من أراضي خانية القرم بين 1783-1920 يقدر بـ 1.300.000، ويضاف إلى هذا الرقم ما حصل في عصر ستالين ومن ثم في عهد فلاديمير بوتين.
هل هي لعنة الجغرافيا؟
تمتلك شبه جزيرة القرم أهمية استراتيجية عبر تموضعها في البحر الأسود على مقربة من مضيقي البسفور والدردنيل اللذين يربطانه بالبحر الأبيض المتوسط من جهة، والقوقاز بما في ذلك شمال القوقاز الروسي، من جهة أخرى.
ووفق الباحث بشؤون آسيا الوسطى، الدكتور باسل الحاج جاسم، فإن شبه الجزيرة "تؤمن لروسيا اليوم موقعا قريبا من أوروبا".
وسرعان ما ازدادت أهميتها مع دخول روسيا في ملفات إقليمية عدة من ليبيا إلى سوريا.
ويضيف الباحث لموقع "الحرة": "كونها نقطة تمركز أسطول البحر الأسود الروسي، فهي مع القاعدة الروسية في طرطوس تمنحان موسكو كلمة في معظم ملفات المنطقة".
ويتابع الحاج جاسم: "كما أنها كانت على مر العصور نقطه تلاقي مصالح العديد من الامبراطوريات، بينما تؤمن لروسيا اليوم موقع قريب من أوروبا".
من جهته يشير الباحث محمد قدو الأفندي إلى أن "القرم جزء لايتجزء من أوكرانيا رغم استقلاليتها عن الأوكران والروس سابقا".
وهي تحتل أهمية كبرى لروسيا ودول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فبالنسبة للروس، القرم عبارة عن "مسمار جحا في حائط أوكرانيا"، ويعتبرونها امتدادا تاريخيا لدولتهم حالها حال أوكرانيا بصورة عامة.
في المقابل، تدرك أوروبا "الأطماع الروسية"، بحسب الباحث، وتعرف أن التغيير العرقي في القرم منذ عشرات السنين، ابتداء من عصر البلشفية الروسية هي إحدى مأربها لنشر العنصر الروسي خوفا من مفاجآت تحدث كما حدثت سابقا بين الروس والقرم.
أما الولايات المتحدة فتدرك أن القرم "جزء لايتجزأ من اوكرانيا، وأن الدعم التي تقدمه لأوكرانيا هي لغرض تقييد الذراع الروسي في شرق أوروبا، ومنع الروس من التوسع غربا على حساب حلف شمال الأطلسي".
يربط ظافر كاراتاي ما حصل سابقا ويحصل حاليا في القرم بـ"حلم روسيا للذهاب إلى المياه الدافئة"، مضيفا: "تحقق أخيرا إلى حد ما مع الحرب السورية".
النضال من الخارج
رغم "النفي المتكرر" كما تفضل شخصيات التتار تسميته، فإنهم لا يزالون يواصلون النضال حتى الآن، لكن بشكل أساسي من الخارج.
مصطفى عبد الجميل قرم أوغلو هو زعيمهم الحالي. يلقب بـ"الآغا" كما أنه نائب في البرلمان الأوكراني، وكان قد ظهر مرارا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، مرتديا بزة عسكرية إلى جانب مسؤولين وقادة عسكريين من التتار والأوكران.
يقول قرم أوغلو إن "تتار القرم أيدوا ولا يزالون يؤيدون وحدة أراضي أوكرانيا وقاطعوا استفتاء الانفصال لذلك تعرضوا لضغط هو الأكبر".
ويشير إلى "وجود حوالي 120 من سكان القرم في السجون الروسية 75 بالمائة منهم من تتار القرم".
وتبقى مسألة حماية شعب تتار القرم في صلب اهتمامات الأمم المتحدة ومجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
وينص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن حالة حقوق الإنسان في شبه جزيرة القرم وجوب تحمل روسيا المسؤولية في مسألة منح شعب تتار القرم حقوقه، بصفته شعبا أصليا في شبه جزيرة القرم، فضلاً عن مطالبتها بإلغاء الأحكام الصادرة ضد تتار القرم وقادتهم.
وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا، التي لا تعترف بالضم "غير المشروع لشبه الجزيرة"، إضافة إلى موقف أخرى من جانب دول غربية والولايات المتحدة الأميركية.