ليبيا.. جرائم حرب وعدالة غائبة
في الخامس من أغسطس 2019، كان فرج دركلة منهمكا في تحضيرات حفل زفاف صديقه، حين باغتته طائرة عسكرية حولت العرس إلى مأتم جماعي في مدينة مرزق الليبية.
الشاب العشريني كان واحدا من 46 مدنيا قتلوا في ذلك اليوم في غارتين متتابعتين، من أصل أربع غارات نفذتها طائرة مسيرة تابعة لقوات الجنرال خليفة حفتر، ضمن حملته العسكرية للسيطرة على الجنوب الليبي الغني بالنفط.
فرج لم يكن الضحية الوحيد من أفراد عائلته، فبعد أن سمع دوي الضربة الأولى، أرسل الأب ابنه البكر عبد السلام ليطمئن على شقيقه الأصغر، ليقتل هو الآخر في الغارة الثانية.
غارة حفل الزفاف ووقائع أخرى في مختلف أنحاء ليبيا، وصفتها بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في ليبيا، بأنها "قد ترقى لمستوى جرائم الحرب".
عبر مقابلات وشهادات أسر ضحايا، مدعومة بمقاطع فيديو وصور حصرية، وحدة التحقيقات الاستقصائية "الحرة تتحرى" كشفت جرائم ارتكبتها أطراف النزاع الليبي، ومحاولات "المتهمين" عرقلة التحقيقات المحلية والأممية في هذه الانتهاكات.
ضربة مزدوجة على حفل زفاف
في فبراير 2019، وبينما كان حفتر يخطط للسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس، قرر التوجه لبسط نفوذه على جنوب البلاد الغني بالنفط أولا.
"قوات حفتر حاولت اقتحام مدينة مرزق في شهر فبراير 2019، بحوالي، بحوالي 400 سيارة مسلحة، لكن مقاومة السكان من عرقية التبو حالت دون سيطرته عليها"، حسبما قال يونس ميردكوري، رئيس رابطة ضحايا مرزق وأحد سكان المدينة، للحرة.
في المقابل، يقول المركز الإعلامي لغرفة عمليات الكرامة التابعة لقوات حفتر إن الطيران التابع لقواته شن غارات على "أهداف للمعارضة التشادية حول مدينة مرزق" في 5 أغسطس 2019.
ما وصفه البيان بـ"ضربات جوية دقيقة"، كان أربع غارات جوية يفصل بينها دقائق، على نفس الموقع، حفل زفاف، نتج عنها 46 قتيلا من أهالي المدينة، بحسب تقرير فريق خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا. وهو ما يعرف بالضربة المزدوجة.
الضربة المزدوجة هو مصطلح يشير لتعمد الانتظار فترة بعد الغارة الأولى لحين وصول المسعفين والمحققين الذين يستهدفون حينها بغارة ثانية.
أحد الشهود على وحشية هذا التكتيك، حسن دركلة الذي فقد ولديه بضربتين من 4 ضربات جوية، تفصل بينهما 30 دقيقة. وبحرقة يروي "للحرة تتحرى" تفاصيل هذا اليوم الأسود.
وفي هذا السياق، لم تسمح قوات حفتر لفريق الأمم المتحدة بإتمام تحقيقاته بعد سيطرتها على المدينة، وفق محمد أوجار رئيس البعثة الأممية لتقصي الحقائق بليبيا.
وقد زود نشطاء محليون فريق "الحرة تتحرى" بمقاطع فيديو حصرية تأكدنا من صحتها بعد مطابقتها بفيديو نشرته قناة محلية لموقع القصف بعد ساعات من الهجوم، واستكملنا بحثنا اعتمادا على صور الشظايا، لنتمكن من الوصول لهوية السلاح المستخدم.
أظهر تحليلنا للصور أنه صاروخ صيني الصنع من طراز "بلو.أرو 7".
وصلت هذه الصواريخ لقوات حفتر من دولة الإمارات العربية المتحدة، بحسب تقرير فريق خبراء الأمم المتحدة في ليبيا.
تقترن صواريخ "بلو.أرو 7" بطائرات من طراز "وينغ لونغ 2" التي تم تشغيلها في ليبيا، كدعم لقوات حفتر من الإمارات منذ عام 2016.
لم ترد وزارة الدفاع الإماراتية على استفساراتنا حول نشاطها العسكري في ليبيا، لكن صور الأقمار الصناعية، وثقت وجود مسيرة "وينغ لونغ 2" في قاعدة الجفرة التابعة لقوات حفتر خلال أغسطس 2019، الشهر ذاته الذي شهد الغارات على مدينة مرزق.
إرسال الأسلحة إلى أطراف النزاع الليبي، يعد خرقاً لقرار الأمم المتحدة الصادر عام 2011، لكن الإمارات لم تكن الطرف الوحيد الذي فعل ذلك.
من قتل عائلة اللافي؟
في الثالث من يونيو 2020، فقد محمد اللافي 12 فردا من عائلته، من بينهم شقيقه في أربع غارات متتالية على بلدة "قصر بن غشير" جنوبي العاصمة الليبية.
في نفس اليوم الذي وقعت فيه هذه الغارات، استعادت حكومة الوفاق سيطرتها على البلدة، ما قطع الطريق أمام فرق الأمم المتحدة للتحقيق في الحادث.
ونجح الفريق الأممي في تحديد السلاح المستخدم في هذه الضربات، رغم أنه لم يتمكن من إجراء تحقيق مستقل على الأرض.
إن الأسلحة والمركبات الجوية دون طيار المستخدمة في الهجوم صنعت في تركيا.
وتؤكد الأقمار الاصطناعية، ما وصل إليه تقرير بعثة الأمم المتحدة، إذ تظهر الصور بناء خمس حظائر في مطار مصراتة لطائرات مسيرة من طراز بيرقدار تسلمتها حكومة الوفاق من حليفتها تركيا بين مايو ويونيو 2019.
مليشيا ومقابر جماعية
مدينة ترهونة شرق العاصمة طرابلس شهدت أيضا جرائم حرب، وفي هذا السياق تروي نجاة إهرودة تفاصيل مقتل شقيقاتها عام 2019، حيث تقول إن مؤسسة عسكرية وقانونية تتحمل مسؤولية مقتلهن.
أما محمود شقيق نجاة، فقد عثر على جثث شقيقاته بعد أن قاده البحث إلى مقبرة جماعية في مسقط رأسه في ترهونة.
في تلك الفترة، كانت أجهزة ترهونة كلها خاضعة لميليشيا مسلحة تتبع قوات حفتر وتسمى "الكانيات" نسبة لعائلة حكمت المدينة منذ 2012، وفق مصدق الترهوني، عضو رابطة ضحايا المدينة، وأضاف أنهم قتلوا عضو المجلس الانتقالي عن مدينة ترهونة، عبد الباسط بن نعامة.
وعام 2017، تقربت "ميليشيا الكانيات" من حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، التي أعلنت ضم هذه الميليشيا لقواتها تحت مسمى اللواء السابع مشاة، وأغدقت عليها دعما سخيا.
وذكر شاهد مطلع على الأوساط الداخلية ضمن الكانيات، أن وزيرا حكوميا كان يدعم الميليشيا ماليا بمبالغ طائلة، وزودهم بخمسين آلية مصفحة، وصلت عبر مصراتة.
بيد أن تحالف "الكانيات" وحكومة الوفاق لم يستمر طويلا، وحولت المليشيا العائلية، ولاءها لقوات الجنرال خليفة حفتر بمسمى جديد هو اللواء التاسع.
أثناء تحالفاتها المتعددة، ارتبكت مليشيا الكانيات جرائم ضد المدنيين، بحسب تحقيقات منظمة هيومان رايتس ووتش.
يحمل إيريك غولدستين، نائب رئيس منظمة "هيومان رايتس ووتش" الحقوقية، مسؤولية جرائم مليشيا الكانيات لأطراف الصراع على السلطة، وقتها، حكومة الوفاق، وقوات حفتر.
من بين العائلات التي استهدفتها الميليشيا المسلحة والأجهزة الأمنية والعسكرية الموالية لها، عائلة بوكليش، والتي تكرر استهداف أبنائها في أعوام 2015 و2017 في عهد حكومة الوفاق برئاسة السراج، ثم استهدفوا مرة أخرى في عام 2020، عندما حولت الكانيات ولاءها لقوات خليفة حفتر.
تتهم العائلة حكومة الوفاق بالتعتيم على حوادث القتل التي ارتكبها مسلحو الكانيات بحق أبنائها، إذ سجلت بعض حالات القتل هذه كوفيات جماعية، فيما لم تحصل الأسرة على تقارير الطب الشرعي عن هذه الحوادث.
في عام 2017، حاول حمزة صقر، عضو النيابة بمدينة ترهونة، فتح تحقيق جنائي في جرائم القتل التي نفذها رجال الكانيات، لكنه تعرض للاختطاف وفقد أثره من حينها.
وقال يحيى صقر، شقيق المختطف، إنه حرر محضرا باختفاء أخيه قسريا، لكنه فوجئ لاحقا بأن المحضر تم إتلافه في ظروف غامضة.
لكن ذلك لم يجنب عائلة صقر من ملاحقة الكانيات، ففي ربيع عام 2020، احتجزت قوات الدعم المركزي بترهونة، الموالية للكانيات، يحيى واثنين من أشقائه في سجنها سيء السمعة، وهددهم النقيب سالم الساكت قائد قوات الدعم المركزي في المدينة بالقتل فور اعتقالهم.
في عام 2022، نشرت البعثة الأممية لتقصي الحقائق في ليبيا، تقريرا يعزز شهادة يحيى صقر، إذ لوحظ تغير في تربة ساحتي سجني الدعم المركزي والقضائية المتجاورين، منذ سبتمبر 2019، ولمدة عام لاحق.
وبعد استعادة حكومة الوفاق السيطرة على ترهونة، اكتشفت في هذه المواقع مقابر جماعية دُفن فيها ضحايا أعمال قتل نفذتها الميليشيا انتقاما لمقتل وإصابة اثنين من أكبر قادتها.
عدالة غائبة
تنتقد منظمات حقوقية إفلات المتورطين في أعمال القتل التي شهدتها في ترهونة، وغيرها من المدن الليبية.
ويقول غولدستين إن "ضعف المحاسبة واحدة من أكبر مشكلات ليبيا"، مشككا في إمكانية محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم بسبب الدعم الدولي لهم.
ويردف قائلا إن "المتورطين بارتكاب انتهاكات بحق الليبيين يشعرون أنهم في موضع قوة وأن الأطراف الدولية ستدعمهم وتغض الطرف عن أفعالهم أو ترفض محاسبتهم بأي شكل".
وفي حين جمعت بعثة تقصي الحقائق الأممية أسماء أكثر من مائة من المشتبه بهم في ارتكاب حوادث القتل في ترهونة، أعلن النائب العام الليبي القبض عن 20 مشتبها فقط.
وعقب سيطرة حكومة الوفاق على ترهونة، هرب الكثير من قادة الكانيات إلى مناطق سيطرة قوات خليفة حفتر، شرقي البلاد، ومن أبرز هؤلاء محمد الكاني، الذي شملته عقوبات أميركية في خريف عام 2020، قبل أن يُقتل بعدها بأقل من عام في بنغازي، وسط ظروف غامضة.
لم يستجب النائب العام الليبي لطلبنا بإجراء مقابلة حول سير التحقيقات في حوادث ترهونة بسبب ما وصفه" التزاماً بسرية التحقيقات"، تكتم، يصفه غولدستين بـ"غياب للشفافية".
طلبنا تعليقا من قوات حفتر بشأن تلك الاتهامات، فجاء الجواب من متحدثها أنه سيرفع استفساراتنا للقيادة العامة دون أن يعود برد، كما لم نتمكن من الحصول على رد من ممثلي حكومة الوفاق.
بقدر ما شهدته ترهونة ومرزق وقصر بن غشير من انتهاكات قد ترقى لمستوى جرائم الحرب، فإنها تعد كذلك نماذج للإفلات من المحاسبة والعدالة الغائبة في ليبيا.
النسخة التليفزيونية للتحقيق