الدبلوماسية العمانية

نادرا ما تتصدر سلطنة عُمان عناوين الأخبار الدولية؛ تبقى في ما يُشبه السبات طوال سنوات، وتعود للظهور في لحظات مفصلية تتعلق ـ خصوصا ـ بالأمن العالمي وتشابكاته مع أزمات الشرق الأوسط. 

تتمتع السلطنة بموقع استراتيجي حساس، مطل على بحر العرب والمحيط الهندي، وتشرف على مضيق هرمز، الذي يفصل بينها وبين إيران، وتمر عبره نسبة كبيرة من واردات النفط العالمية. 

موقعها يعزز دورها المحوري الذي يكتسب أهمية كبيرة، إقليميا ودوليا، خصوصا في الحراك لحل الأزمات.

منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، لا تطمئن الولايات المتحدة لأمن امدادات النفط في الخليج، نتيجة عدم الثقة بالنظام الإيراني الذي منذ وصوله إلى الحكم، تعامل مع أميركا كعدو وكـ"شيطان أكبر". 

وبدءا من أزمة احتجاز الديبلوماسيين الأميركيين في طهران وحتى اليوم، تتأرجح العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران على حبال التوتر. ويبدو أن حكام سلطنة عُمان يلعبون دوراً بارزا في الموازنة بين الطرفين المتخاصمين، ومنعهما من السقوط بثقلهما الإقليمي والدولي، فوق رؤوس العُمانيين.

هذا ما يفسر، بحسب الباحثَيْن جيريمي جونز ونيكولاس ريدوت، قرار السلطنة البقاء خارج "الرادار" الإعلامي وظهورها النادر في الأخبار العالمية. 

في كتابهما، "عُمان، ثقافة ودبلوماسية،" يشير جونز وردوت إلى أن "الإمكانية المتفجرة للموقع الإيراني في فم الخليج، في سياق العلاقة المضطربة مع الولايات المتحدة، لم تؤدِ بعد إلى اندلاع صراع كبير. من الطبيعي أن يُنظر إلى هذا على أنه مصدر للرضا، ليس فقط للدبلوماسيين العمانيين، بل للمواطنين والمقيمين بشكل عام". 

ويتابعان: "أن العواقب المحتملة للتوتر والصراع في مضيق هرمز قد تكون مدمّرة للغاية، إذ تضع عُمان في مركز أحداث شديدة الخطورة والتقلب. البقاء خارج عناوين الأخبار – أي الحفاظ على الاستقرار والهدوء – يُعد مصلحة وطنية واضحة وملحّة، تتيح للعمانيين أن يعيشوا حياتهم ببساطة".

هو قرار براغماتي حكيم إذاً، كما يراه الباحثان، قائم على استراتيجية تعتمد على التقليل من شأن الدور العُماني من أجل الاحتفاظ بالقدرة على الاستمرار في أداء الدور الحساس: 

"في العلاقات الدولية، يُعتبر الوسيط بمثابة موضع ثقة، لا يمكن الوثوق به إذا كان يروّج لنفسه"، والدبلوماسية العُمانية قائمة على شيء من محو الذات والميل إلى عدم لفت الأنظار". وتحتفظ الدبلوماسية العُمانية، بحسب الكاتبين، بمجموعة من السمات الأساسية وهي: "التواضع، الحذر، الاحترام، والقدرة على الاستماع". 

ويضيف الكاتبان: "لعل ما يميز عُمان أيضاً هو غياب النزعة التبشيرية في سياستها الخارجية. فهي لا تسعى إلى فرض نموذجها على الآخرين، بل تحاول أن تلعب دور الوسيط أو الجسر بين الفرقاء. وهذا ما جعلها مقبولة من مختلف الأطراف، حتى المتنازعة منها".

وفي الوقت الذي تنقسم فيه المنطقة على أسس طائفية وإيديولوجية حادة، برزت عُمان ذات الغالبية الإباضية.

يقع المذهب الإباضي في منزلة بين السنة والشيعة، ويقوم بشكل أساسي على أفكار الحوار والتعايش لإيمان أتباع المذهب بمبدأ عدم جواز التعرض للمسلمين في دمائهم وأعراضهم، كما أنه مذهب يرفض الاصطفاف، ويسعى إلى الجمع بدل الفرقة.

"المذهب الإباضي في إطار العقيدة الإسلامية الأوسع، يُعترف به بوضوح بالاعتدال، وهذا عامل مهم في الحفاظ على صداقة جيدة نسبياً بين إيران وعمان على مدار الـ 46 عامًا الماضية منذ نشأة الجمهورية الإسلامية"، يشرح لموقع "الحرة" كبير الباحثين في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، آليكس فاتنكا.

فاتنكا يشير إلى أن المجموعة التي تولت السلطة في طهران عام 1979، واجهت جميع أنواع المشاكل مع الدول المجاورة، وغالبًا ما نُسبت بعض هذه المشاكل إلى الاختلافات الطائفية. 

"اشتهرت إيران والمملكة العربية السعودية بهذا الصراع. صراع على من يتحدث باسم الإسلام والمسلمين. لم يحدث شيءٌ كهذا بين إيران وعمان. لطالما كانت العلاقات وديةً إلى حدٍ ما منذ عام 1989،" يقول.

بالمقارنة مع جيران إيران العرب، "ربما تكون سلطنة عُمان هي الدولة الوحيدة التي حافظت على علاقات وطيدة وودية مع إيران منذ عام 1979 وحتى يومنا هذا"، يلاحظ فاتنكا، ويضيف: "أنا متأكد من أن الطائفة الإباضية هي التفسير المعتدل للدين وقد ساعدت أيضًا العمانيين في الحفاظ على العلاقات مع الإيرانيين".

وتعود الإباضية تاريخياً إلى المراحل الأولى من الإسلام، بعد أن حمل عمرو بن العاص رسائل من النبي محمد إلى أبرز حكام العرب العُمانيين، وهما جيفر وعبد أبناء الجلندي. 

وبحسب جونز وريدوت، فإن التحالف الذي تشكّل مع مسلمي مكة والمدينة كان عاملاً لتعزيز القوة السياسية لآل الجلندي لدرجة انهم أرغموا الفرس على الانسحاب من الباطنة (منطقة حيوية مطلة على خليج عمان). وشارك آل الجلندي في الفتوحات الإسلامية، ومن بينها السيطرة على الإمبراطورية الفارسية الساسانية. 

وبحسب الكاتبين، "شهدت البصرة (في العراق اليوم) ظهور إحدى مدارس الفكر الإسلامي المميزة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعمان في فترة لاحقة، وهي الإباضية". وتُعزى التسمية إلى عبد الله بن إباض، مع أن مؤسسها هو جابر بن زيد، وكانت قد دخلت في بداياتها في الخلاف حول تولي عثمان بن عفان الخلافة، وكان الإباضيون في صف المعارضين لفكرة التوريث في الخلافة.

وبحسب المعلومات التاريخية، يوردها جونز وريدوت، فقد دخلت الإباضية عُمان في العام ٧٤٧ ميلادي، وطبقوا مبادئهم السياسية والدينية في انتخاب أول زعيم قبلي عربي إماماً للبلاد. ومن المبادئ "المساواة بين جميع المسلمين ومعارضة السلطة الاستبدادية".

وينتخب  الأباضيون القائد وفقاً لمبدأ "الشورى"، وهو بحسب الباحثين، "من أهم ما يميز الإباضية عن السنة والشيعة". ويختلف الإباضيون عن غيرهم من السنة والشيعة في عدد من التفسيرات الدينية، وفي كثير من الممارسات الدينية اليومية "التي يمكن من خلالها تمييز الإباضيين عن المسلمين الآخرين". 

وبحسب جونز وريدوت، "يميل الإباضيون إلى تجنب مناقشة الاختلافات الطائفية، ويشيرون أحياناً إلى مذهبهم على أنه مذهب بلا مذهب".

بهذه الخلفية التاريخية والاستراتيجية تخوض سلطنة عُمان في ملفات حساسة وملتهبة، وقد نجحت وساطاتها على مدار سنوات، خلال محادثات سرية بين الولايات المتحدة وإيران في عام 2013، إلى التوصل للاتفاق النووي أُبرم بعد ذلك بعامين في عهد الرئيس باراك أوباما. كما عززت مسقط مكانتها كوسيط إقليمي ودولي على أكثر من جبهة وملف، من بينها الأزمة اليمنية والقطيعة بين إيران والسعودية التي طويت في العام 2023 إثر الاتفاق الذي أعاد العلاقات بين القوتين الإقليميتين المتنافستين.

وقادت مسقط مفاوضات أفضت إلى تبادل سجناء بين طهران والولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، معتمدة على علاقاتها الوثيقة مع إيران.

يعود هذا الدور الديناميكي الذي تلعبه مسقط، بحسب فاتنكا، إلى تمرس السلطنة بأعمال الوساطة منذ زمن طويل، وليس فقط مع إيران، إذ قام العمانيون بجميع أنواع الوساطة منذ زمن بعيد. استضاف السلطان قابوس رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في وقت ما. لذا، كان العمانيون من أوائل من جسوا النبض عندما تعلق الأمر بمسألة العلاقات العربية الإسرائيلية". 

التفسير الآخر للدور الحساس الذي تلعبه عُمان في المفاوضات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، أن "عُمان وإيران تشتركان في مضيق هرمز، أحد أهم الممرات المائية استراتيجيةً في العالم. وإذا حدث أي خلل في مضيق هرمز في ما يتعلق بالصراع، فلن يضر ذلك إيران فحسب، بل سيضر عُمان أيضاً"، كما يشرح فاتنكا. بالإضافة إلى ذلك، "يتمتع العمانيون بثقة الأميركيين، ولديهم علاقات قوية مع الولايات المتحدة".

اليوم تلعب عُمان مجدداً دور الوساطة بين الولايات المتحدة وإيران. سلطانها هيثم بن طارق بن سعيد حطّ في موسكو قبل يومين وبحث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الملف النووي الإيراني. 

عدم التوصل إلى اتفاق قد يعني، كما ذكر مراراً الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التصعيد العسكري لإنهاء برنامج إيران النووي بالقوة. وعلى عاتق عُمان تقع مسؤولية الحفاظ على علاقات طيبة مع إيران، لضمان إبقاء مضيق هرمز بعيداً من التجاذبات. ومثلما لإيران اليد الطولى في إقفال المضيق، فإنها ستكون من أكبر المتضررين من إقفاله، فمنه يمر زهاء ثمانين في المئة من تجارة إيران الخارجية، بحسب تقديرات الباحث الجيوسياسي أصغر جعفري فلداني.

كبير باحثي معهد الشرق الأوسط آليكس فاتنكا يشير إلى ما يصفها بـ"السياسة العُمانية الثابتة" في الوساطات والعمل الدبلوماسي، "فالسلطان قابوس كان مشهوراً بهذه السياسة، وهي استمرت أيضاً مع السلطان هيثم الذي أمضى في السلطة الآن خمس سنوات، ومستمر على هذا النهج". لذا يعتقد فاتنكا أن "الأمر يتجاوز مجرد شخصيات، بل هي المؤسسات". 
 

الوفد الإيراني وصل إلى العاصمة العمانية مسقط
الوفد الإيراني وصل إلى العاصمة العمانية مسقط

وصل الوفد الأميركي برئاسة المبعوث، ستيف ويتكوف، والوفد الإيراني الذي يضم وزير الخارجية، عباس عراقجي، إلى العاصمة العمانية مسقط، السبت، لإجراء محادثات بشأن الملف النووي الإيراني.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، إن وفد بلاده برئاسة عراقجي توجه إلى مسقط لإجراء مفاوضات غير مباشرة مع الوفد الأميركي.

وبحسب بيانات موقع FlightRadar24، وصلت الطائرة التي يُحتمل أن المبعوث الأميركي، ستيف ويتكوف، كان على متنها أثناء زيارته لروسيا إلى سلطنة عُمان.

ومن المقرر أن تعقد إيران والولايات المتحدة محادثات رفيعة المستوى بهدف إطلاق مفاوضات جديدة بشأن البرنامج النووي الإيراني الذي يشهد تقدما سريعا، في حين هدد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعمل عسكري إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق.

وتتعامل إيران مع المحادثات بحذر، وتشك في إمكانية أن تؤدي إلى اتفاق، كما أنها متشككة تجاه ترامب، الذي هدد مرارا وتكرارا بقصف إيران إذا لم توقف برنامجها النووي، وفقا لرويترز.

وتحدث الجانبان عن فرص تحقيق بعض التقدم، ولم يتفقا على طبيعة المحادثات، وما إذا ستكون مباشرة كما يطالب ترامب، أو غير مباشرة كما تريد إيران.

وقد يفاقم فشل المحادثات المخاوف من اندلاع حرب أوسع نطاقا في منطقة تُصدّر معظم نفط العالم، وفقا لرويترز. وحذّرت طهران الدول المجاورة التي تضم قواعد أميركية من أنها ستواجه "عواقب وخيمة" إذا شاركت في أي هجوم عسكري أميركي على إيران.

وقال مسؤول إيراني لرويترز إن المرشد، علي خامنئي، الذي يملك الكلمة الأخيرة في القضايا الرئيسية للدولة في هيكل السلطة المعقد في إيران، منح عراقجي "السلطة الكاملة" في المحادثات.

ويرأس عراقجي الوفد الإيراني، في حين سيتولى مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، إدارة المحادثات من الجانب الأميركي.

وقال المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الأمر "مدة المحادثات، التي ستقتصر على القضية النووية، ستعتمد على جدية الجانب الأميركي وحسن نيته".

واستبعدت إيران التفاوض بشأن قدراتها الدفاعية مثل برنامجها الصاروخي.

وتقول إيران دائما إن برنامجها النووي مخصص لأغراض مدنية بحتة، لكن الدول الغربية تعتقد أنها تريد صنع قنبلة ذرية.

ويقولون إن تخصيب إيران لليورانيوم، وهو مصدر للوقود النووي، تجاوز بكثير متطلبات البرنامج المدني وأنتج مخزونات بمستوى من النقاء الانشطاري قريب من تلك المطلوبة في الرؤوس الحربية.

وكان ترامب، الذي أعاد فرض حملة "أقصى الضغوط" على طهران منذ فبراير، قد انسحب من الاتفاق النووي المبرم عام 2015 بين إيران وست قوى عالمية في عام 2018 خلال ولايته الأولى، وأعاد فرض عقوبات صارمة على إيران.

ومنذ ذلك الحين، حقق البرنامج النووي الإيراني قفزة إلى الأمام، بما في ذلك تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المئة، وهي خطوة فنية من المستويات اللازمة لصنع القنبلة.

وقال وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، الخميس، إنه يأمل أن تؤدي المحادثات إلى السلام، وأضاف "كنا واضحين للغاية بشأن أن إيران لن تمتلك سلاحا نوويا أبدا، وأعتقد أن هذا هو ما أدى إلى هذا الاجتماع".

وردت طهران في اليوم التالي قائلة إنها تمنح الولايات المتحدة "فرصة حقيقية" على الرغم مما وصفتها بأنها "الضجة السائدة بشأن المواجهة" في واشنطن.

وتعتبر إسرائيل حليفة واشنطن البرنامج النووي الإيراني تهديدا وجوديا، وهددت منذ فترة طويلة بمهاجمة إيران إذا فشلت الدبلوماسية في الحد من طموحاتها النووية.

وتراجع نفوذ طهران في غزة ولبنان وسوريا بشكل كبير، مع تدمير إسرائيل لحلفائها الإقليميين المعروفين باسم "محور المقاومة" أو تعرضهم لضرر شديد خلال الأشهر الماضية.

وقتلت إسرائيل معظم قادة حركة حماس، ومعظم قادة حزب الله الموالي لإيران، منذ بداية حرب غزة في أكتوبر 2023، وسقط نظام بشار الأسد بعد هجوم ساحق للمعارضة المسلحة في 8 ديسمبر 2024.

ولا يشمل المحور حماس وحزب الله وبشار الأسد فقط، بل الحوثيين في اليمن أيضا، وميليشيات شيعية في العراق. وتشن الولايات المتحدة ضربات منتظمة على الحوثيين في اليمن، وتقول إنهم يهددون حرية الملاحة في منطقة حيوية للنقل البحري والتجارة العالمية.