تعد العملية العسكرية التي نفذها الجيش الإسرائيلي في جنين، الأكثر حصدا للأرواح في الضفة الغربية منذ عام 2005، وفقا لإحصاءات الأمم المتحدة، وعادة يكون مخيم جنين هو الساحة التي تشهد أعنف المواجهات بين قوات الأمن الإسرائيلية ومسلحي الفصائل الفلسطينية.
وقتل 14 فلسطينيا في العملية الإسرائيلية الأخيرة في جنين. ومنذ بدء الحرب بين إسرائيل وحماس التي تسيطر على غزة، في السابع من أكتوبر، تصاعد التوتر في الضفة الغربية، وتحديدا في مخيم جنين.
ويرتبط اسم مخيم جنين بعملية إسرائيلية دمرت أجزاء كبيرة منه، وقتل فيها 52 شخصا أغلبهم مدنيون، عام 2002، ضمن عملية "الدرع الواقي" التي اجتاح فيها الجيش الإسرائيلي مدن الضفة الغربية، بعد هجوم على فندق في مدينة نتانيا.
فرار معتقلين من سجن جلبوع
وشكّلت عملية فرار 6 فلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي، في السادس من سبتمبر عام 2021، نقطة تحول في مخيم جنين، خاصة أن بعض الفارين من السجن كانوا من المسلحين السابقين المعروفين، والذين نشطوا في المخيم ومدينة جنين، مثل زكريا الزبيدي، ومحمود العارضة.
استنفر المسلحون في المخيم بعد عملية الفرار، في حين شكلت الفصائل الفلسطينية المختلفة غرفة عمليات مشتركة استعدادا لأية مواجهة مع الجيش الإسرائيلي في حال لجأ الفارون إلى المخيم.
وأطلق الجيش الإسرائيلي عمليات تمشيط واسعة لتعقب الفارين، حيث عمل على منع تسللهم إلى جنين، وهو ما كان سيعقد عملية إعادة اعتقالهم.
تمكنت إسرائيل من القبض على الفارين، لكنها شنت حملة اغتيالات استهدفت مسلحين فلسطينيين في المخيم والمدينة، وقتل 7 فلسطينيين من سكان المخيم، وفق مركز المعلومات الوطني الفلسطيني الحكومي.
في 11 مايو عام 2022، قتلت الصحفية الفلسطينية الأميركية ، شيرين أبو عاقلة، في مدينة جنين، حين كانت تغطي عملية عسكرية إسرائيلية في المخيم، واتهمت السلطات الفلسطينية الجيش الإسرائيلي بقتلها.
وأكدت وزارة الخارجية الأميركية، حينها أنها "تريد تحقيقا شاملا وشفافا" بشأن مقتل أبو عاقلة.
وأقر الجيش الإسرائيلي في وقت لاحق بأن هناك "احتمالا كبيرا" بأن يكون أحد جنوده قد أطلق النار عليها وقتلها، مع أنها كانت تضع سترة واقية من الرصاص كتب عليها "صحافة" بالإنكليزية، وخوذة على رأسها.
"عملية تموز"
في صبيحة يوم الإثنين، الثالث من يوليو الماضي، كان مخيم جنين على موعد مع عملية إسرائيلية جديدة.
إذ غادر نحو 3 آلاف فلسطيني من سكان مخيم جنين منازلهم، حيث بدأت عملية عسكرية اعتبرت الأوسع منذ نحو 20 عاما في الضفة الغربية، في المنطقة التي يسكنها نحو 18 ألف شخص.
في الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم، شنت القوات الإسرائيلية عملية واسعة النطاق في مخيم جنين، شارك فيها مئات الجنود، وتضمنت غارات جوية.
وضمت العملية عربات مدرعة وجرافات عسكرية، ونفذ خلالها الجيش الإسرائيلي ضربات بطائرات مسيرة، كما شاركت في العملية وحدات النخبة من مختلف قوات الجيش والأمن وحرس الحدود.
وقال الجيش إن قواته دخلت المخيم "لتدمير ممرات تحت الأرض تستخدم لتخزين المتفجرات".
وأضاف الجيش حينها أن جنوده "عثروا على غرفتي عمليات تابعة لمنظمات إرهابية في المنطقة، وقاموا بتفكيكها".
رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، وصف العملية حينها بأنها "دخول إلى وكر الإرهاب" في جنين، مشيرا إلى أن قواته عملت على "تدمير مراكز القيادة ومصادرة كمية كبيرة من الأسلحة".
لكن وزارة الصحة الفلسطينية قالت إن ضحايا الهجوم "معظمهم من الفتيان والأطفال"، وأن غالبية أعمار القتلى "لا تتجاوز 17 عاما، والبقية ما بين 18 و23 عاما".
ونفذت هذه العملية العسكرية بعد أسبوعين من عملية كبيرة أخرى استهدفت مخيم جنين، وتخللها قصف بالطيران المروحي للمرة الأولى منذ سنوات.
ويتمركز الجيش الإسرائيلي بشكل متواصل على تخوم مخيم جنين، حيث ينفذ توغلات بين الفينة والأخرى، تتخللها اشتباكات مع الشبان الفلسطينيين.
اجتياح المخيم.. "الدرع الواقي"
في الثالث من أبريل عام 2002، كان سكان مخيم جنين على موعد مع اجتياح إسرائيلي شامل استمر حتى 18 أبريل، وكانت الأيام الـ 15 التي مرت على المخيم من الأصعب والأخطر، بسبب القتال الضاري الذي شهدته الأزقة والأحياء.
كان المشهد غامضا وغير مسبوق، إذ وجدت القوات الإسرائيلية نفسها أمام سيناريو القتال بين المنازل، حتى أن الجيش الإسرائيلي اضطر إلى فتح ممرات تخترق الجدران للانتقال من منزل إلى آخر في المخيم.
واتهمت السلطات الفلسطينية ومنظمات دولية، الجيش الإسرائيلي بارتكاب "أعمال القتل العشوائي".
كان اجتياح جنين ضمن عملية عسكرية إسرائيلية شاملة أطلق عليها "الدرع الواقي"، استهدفت مدن الضفة الغربية الرئيسية التي كانت تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.
عملية "الدرع الواقي" جاءت ردا على تفجير استهدف فندقا في مدينة نتانيا الإسرائيلية، حيث أعلنت حركة حماس مسؤوليتها عن الهجوم الذي أدى إلى مقتل 17 إسرائيليا على الأقل، وإصابة نحو 80 شخصا بجروح.
أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، أرييل شارون، الأوامر للجيش ببدء العملية العسكرية، "للقضاء على الفصائل الفلسطينية المسلحة" التي كانت تخوض معارك مع القوات الإسرائيلية خلال أيام ما يعرف بـ"انتفاضة الأقصى" التي اندلعت في سبتمبر عام 2000.
وكانت شرارة "الانتفاضة" الفلسطينية قد انطلقت بعد اقتحام شارون، زعيم حزب الليكود الإسرائيلي المعارض، حينها، المسجد الأقصى في 28 سبتمبر عام 2000.
ووفق اتفاقية أوسلو (2) فإن أراضي الضفة الغربية تصنف إلى 3 مناطق، هي "أ" تحت سيطرة فلسطينية كاملة، و"ب" تخضع لسيطرة أمنية إسرائيلية ومدنية وإدارية فلسطينية، و"ج" تخضع لسيطرة مدنية وإدارية وأمنية إسرائيلية وتشكل الأخيرة نحو 60 بالمئة من مساحة الضفة الغربية.
اشتدت المواجهات بين الطرفين في الضفة الغربية، وانخرط عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية في القتال، وأعلنوا استعدادهم للتصدي لعملية "الدرع الوقي" حيث تحصنوا في أزقة المدن، والمخيمات، خاصة في مخيم جنين، والبلدة القديمة من مدينة نابلس.
كانت حصيلة العملية سقوط عشرات القتلى، فيما حمّل الجيش الإسرائيلي المسلحين الفلسطينيين "مسؤولية تعريض حياة المدنيين للخطر".
تقرير الأمم المتحدة
وأصدرت الأمم المتحدة تقريرا بشأن عملية "الدرع الواقي"، التي دامت نحو 10 أيام، بشأن نمط الهجمات التي شنتها ضد إسرائيل جماعات فلسطينية مسلحة تعمل من الضفة الغربية، والأعمال العسكرية التي قامت بها إسرائيل في تلك العملية.
ووثق التقرير الأممي مقتل 52 فلسطينيا خلال اجتياح مخيم جنين، نصفهم تقريبا من المدنيين، فيما أشارت مصادر محلية فلسطينية إلى أن عدد الضحايا "أكبر من ذلك". كما أن التقرير وثق مقتل 23 جنديا إسرائيليا.
ويقول التقرير الذي أعده الأمين العام للأمم المتحدة، حينها، كوفي عنان، إن "القتال في مخيم جنين مر بمرحلتين، الأولى استمرت نحو 6 أيام، من الثالث حتى التاسع من أبريل، فيما امتدت المرحلة الثانية إلى يومي 10 و11 من الشهر ذاته".
وأشار تقرير الأمم المتحدة إلى "تدمير 10 في المئة من مباني مخيم جنين بشكل كامل، حيث سويت بالأرض".
ووفق التقرير، فإن قُطر المنطقة المستهدفة بالهجوم الإسرائيلي بلغ حوالي 200 متر، ومساحتها السطحية 30 ألف متر مربع، وكانت تضم حوالي 100 مبنى سويت بالأرض.
وأسفرت العملية الإسرائيلية عن فقدات نحو 800 أسرة يقدر عدد أفرادها بأكثر من 4 آلاف شخص، منازلها التي تؤويها.
نقل التقرير عن السلطة الفلسطينية أن إسرائيل "ارتكبت أعمال قتل غير مشروعة، كما استخدمت المدنيين دروعا بشرية، واستعملت القوة بصورة غير متناسبة، ونفذت عمليات اعتقال وتعذيب تعسفية، ومنعت المرضى والمصابين من الحصول على العلاج والمساعدة الطبية".
دبابات وطائرات وجرافات
وثق التقرير الأممي مشاركة 60 دبابة إسرائيلية في اجتياح المخيم، مدعومة بمروحيات من الجو، وجرافات ضخمة من نوع (D9) المصفحة والمجهزة للقتال وإزالة المعيقات وتوسيع الممرات لتمكين الدبابات من المناورة في عمليات القتال داخل شوارع المخيم.
كان القتال ضاريا، وحوصر نحو 4 آلاف مدني من سكان المخيم ممن رفضوا المغادرة.
وقال الجيش الإسرائيلي إنه "تعامل مع أكثر من ألف عبوة ناسفة، ومئات القنابل اليدوية، التي استخدمها المسلحون في المخيم لصد التوغل".
نقطة التحول في المعركة
واجه الجيش الإسرائيلي قتالا عنيفا في المخيم، واشتدت المواجهة في الفترة بين الخامس والتاسع من أبريل، مما أوقع خسائر في الأرواح بين الطرفين.
في التاسع من أبريل تغيّر كل شيء، حيث قُتل 13 جنديا إسرائيليا، وجُرح آخرون، في كمين نصبه المسلحون الفلسطينيون للجيش الإسرائيلي داخل المخيم.
بعد ذلك، تمكن المسلحون من قتل جندي آخر في المخيم، ليصل عدد القتلى من الجيش الإسرائيلي خلال العملية في جنين إلى 23 جنديا، وفق التقرير.
الضحايا المدنيون
ويقول تقرير الأمم المتحدة إن "الأطفال دون سن 15 سنة والنساء والرجال فوق 50 سنة كانوا يشكلون نحو 38 بالمئة من جميع حالات الوفاة المبلغ عنها"، وأن الجيش الإسرائيلي "منع سيارات الإسعاف وأفراد الأطقم الطبية من الوصول للجرحى".
أما تقرير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فقد أشار إلى وجود "جثث متفحمة، وأخرى متعفنة تحت الأنقاض"، واتهم إسرائيل بارتكاب "جرائم إعدام ميداني" للمدنيين في المخيم.
حقائق عن مخيم جنين
في حرب عام 1948، غادر سكان حيفا والكرمل وجبال الكرمل إلى شمال الضفة الغربية، واستقروا في منطقة جنين، وهي الأقرب للمدن والقرى التي هجّروا منها.
تأسس مخيم جنين الحالي، في عام 1953، لأن المخيم الأصلي الذي أقيم في المنطقة عقب حرب 1948 دمرته عاصفة ثلجية.
ويقع المخيم ضمن حدود بلدية جنين، وهو واحد من 19 مخيما للاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية، والتي تشرف عليها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".
أجرت الأونروا عملية إعادة إعمار في المخيم، وطورت قطعة أرض إضافية بلغت مساحتها حوالي 3 بالمئة من المساحة الأصلية لمخيم جنين وهي متاخمة له، مما قلل من الاكتظاظ. وبلغت مساحة المخيم عند الإنشاء 372 دونما، اتسعت إلى حوالي 473 دونما.
وإلى جانب تعرض المخيم لهجمات إسرائيلية، فإن القوات الأمنية الفلسطينية نفذت عمليات أمنية فيه بحثا عن مطلوبين لديها، مما أدى إلى وقوع اشتباكات بين الطرفين، تضمنتها اعتقالات.
وتقول الأونروا إن "العنف تسبب في تأثير كبير على الرفاه العاطفي والنفسي الاجتماعي، للأطفال الصغار على وجه الخصوص".
ويعاني مخيم جنين من أعلى معدلات البطالة والفقر بين مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية. وتأثر المخيم بالجدار العازل التي أقامته إسرائيل، إذ قلل من أعداد العمال الذين بإمكانهم العمل في السوق الإسرائيلية.
وتسبب الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب في المخيم، بظواهر سلبية، من بينها تسرب الطلاب من المدارس.
كما أنه تسبب بحالة من الغضب من سياسات إسرائيل الأمنية واستهدافها للمخيم بعمليات عسكرية متكررة، إلى جانب السلطة الفلسطينية التي يتهمها سكان بـ"إهمال" أحوال المخيم.