نشأت إيمان فرج الله في قطاع غزة، حيث تقول إنها شهدت خلال طفولتها أحداث الانتفاضتين الأولى والثانية، وبعدهما الحروب اللاحقة التي عرفها القطاع، قبل أن تنتقل في السنوات التالية إلى الولايات المتحدة.
وتكشف فرج الله الطبيبة النفسانية التي تعمل اليوم مع الأطفال اللاجئين في عيادة بسان فرانسيسكو أن تجربة الحرب بالنسبة لطفلة صغيرة "كانت قاسية ومخيفة للغاية"، مشيرة إلى أن ما عاشته "أضر بها لدرجة أنه لا توجد كلمات يمكن بها وصف ذلك".
وتضيف فرج الله مسترجعة ذكريات من طفولتها في تصريحات لـ "أن بي آر" (الإذاعة الوطنية العامة): "كيف يمكن وصف حادثة مثل أن يأتي جندي إسرائيلي ويقفز من فوق الجدران إلى منزلنا، ويضرب إخوتي ووالدتي؟".
ومع ذلك، توضح أنها لم تكن أبدا قادرة، آنذاك، على التحدث إلى أي شخص بشأن مشاعرها والرعب الذي بثته تلك المواقف في نفسها: "لم يتحدث معي أحد قط عن الصدمة التي تعرضت لها".
"ندوب في مقبرة الأطفال"
واليوم مع تجدد الحرب في غزة، يعيش الأطفال الذين يشكلون نحو نصف سكان القطاع مأساة مماثلة أو أشد وطأة، تحت قصف مستمر وأوضاع إنسانية صعبة.
واندلعت الحرب الجديدة بغزة بعد هجوم حماس على على مواقع عسكرية ومناطق سكنية محاذية لقطاع غزة في السابع من أكتوبر، أدى إلى مقتل 1200 شخص، معظمهم مدنيون، واختطاف 239 شخصا، وفق السلطات الإسرائيلية.
ومنذ ذلك الحين، ترد إسرائيل بقصف جوي وبحري وبري مكثف على القطاع المحاصر، أعقبته بعملية برية لا تزال متواصلة، وبلغت حصيلة القتلى في غزة 11078 قتيلا، بينهم 4506 طفلا.
ويعد سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، من بين السكان الأصغر سنا في العالم، ونصفهم تقريبا تحت سن 18 عاما، وفقا لمكتب المراجع السكانية غير الربحي في واشنطن.
ووصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قبل أيام، غزة بأنها تحولت إلى "مقبرة للأطفال".
وفيما تحذر المنظمات الأممية والصحية من الأوضاع الأمنية والإنسانية الصعبة بالقطاع، يدق باحثون ناقوس الخطر أيضا بشأن "الندوب الخفية" التي تلحق الأطفال الناجين لبقية حياتهم.
ويقول باحثون إن للصدمات الناتجة عن الحروب والنزاعات "تأثير عميق ودائم على الصحة العقلية للأطفال ونموهم"، مما يؤثر على "أدائهم ونظرتهم للعالم كشباب بالغين"، وفقا لـ"أن بي أر".
وتشير دراسات إلى أنه حتى الشباب الذين يبدو أنهم "شكلوا مناعة"، تجاه العنف المحيط بهم ترافقم آثار نفسية عميقة طيلة حياتهم، ما لم يحظوا فرصة للتعافي والعلاج.
ويشكل هذا الوضع مصدر قلق بشكل خاص فيما يتعلق بأطفال غزة، الذين كانوا يعانون من مشاكل كبيرة ترتبط بواقع صحتهم النفسية والعقلية، قبل سنوات حتى من الحرب الجديدة.
وطيلة الأعوام الماضية، وثقت العديد من الدراسات معدلات مرتفعة، بشكل غير عادي، من مشاكل الصحة العقلية والسلوكية بين شباب غزة، الذين لم يعرف معظمهم حياةً بدون تهديد بالعنف والصراع.
"اضطرابات وصدمات نفسية"
وتقول فرج الله التي عادت إلى غزة في السنوات الأخيرة، للتحدث مع الأطفال وعائلاتهم، وتوثيق مدى تأثير العنف على صحتهم الجسدية والعقلية، إن العديد منهم يعانون من صدمات نفسية، مضيفة "تأثر الكثير منهم بانفجارات القنابل، هناك من لديه نذوب وشظايا في أجسادهم، بعضهم فقد أطرافه وحتى بصره".
كما رصدت الطبيبة النفسانية مجموعة كاملة من الأعراض المرتبطة بتدهور الصحة العقلية والسلوكية بين الأطفال في غزة، مثل "الخوف من الظلام، والتوتر العام، والارتجاع، والكوابيس، وصعوبة النوم، واسترجاع الصدمة التي تعرضوا لها".
بدورهم، يحذر خبراء الصحة العقلية في منظمة "إنقاذ الطفولة"، من أن أعمال العنف في غزة تعرض "الأطفال لنوبات نفسية مؤلمة للغاية"، تتفاقم في ظل غياب أي بدائل تساعدهم على تجاوز هذا الوضع، حيث لا يوجد مكان آمن ولا شعور بالحماية والأمان، بعد أن نزحوا من منازلهم.
وفي ظل الظروف الحالية في غزة، يعاني الأطفال، وفق المنظمة، من "مجموعة كاملة من علامات وأعراض الصدمة"، بما في ذلك القلق والخوف والقلق على سلامتهم وسلامة أحبائهم والكوابيس واستراجاع الذكريات المزعجة والأرق، وغيرها.
ووثقت دراسات أخرى مستويات مرتفعة لانتشار حالات الاضطراب العاطفي والأمراض النفسية بين الأطفال في غزة والضفة الغربية.
ووجدت دراسة أجريت في عام 2011 ارتفاع معدلات اضطراب ما بعد الصدمة بين الأطفال الفلسطينيين، ويشير تقرير "أن بي أر"، إلى أن التقديرات الواردة في الدراسات تتراوح مختلفة من 23 إلى 70 بالمئة.
وقبيل تصاعد العنف في عام 2021، تقول يونيسف، كان ثلث الأطفال "بحاجة بالفعل إلى الدعم في مجال الصدمة المتصلة بالنزاع. وبدون شك، فقد ازدادت كثيرا حاجة الأطفال إلى خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي-الاجتماعي".
ووجدت الدراسة أن 80 بالمئة، من الأطفال الذين شملتهم الدراسة ظهرت عليهم أعراض الاضطراب العاطفي.
كما أفاد حوالي نصفهم بأنهم فكروا في الانتحار، وكان ثلاثة من كل خمسة أطفال يؤذون أنفسهم. وأفاد أربعة من كل خمسة أطفال أنهم يعيشون في حالة من الاكتئاب والحزن والخوف.
وسبق أن خلص تقرير صدر عام 2022 عن منظمة "أنقذوا الطفولة" إلى أن الرفاهية النفسية والاجتماعية للأطفال في غزة، كانت عند "مستويات منخفضة بشكل مثير للقلق"، بعد 11 يوما من القتال، في عام 2021، مما جعل نصف أطفال غزة بحاجة إلى الدعم.
وأظهر تقرير نشرته منظمة إنقاذ الطفولة في يونيو 2022 أن الصحة العقلية للأطفال كانت بالفعل على وشك الانهيار. أفاد 80 بالمةئ من الأطفال بأنهم يشعرون بحالة دائمة من الخوف والقلق والحزن والحزن. كان ثلاثة أرباع الأطفال يتبول في الفراش خوفا، وكان عدد متزايد يظهرون صمتًا تفاعليًا.
"أسئلة بلا إجابات"
يقول يوسف، موظف في منظمة إنقاذ الطفولة في غزة، وأب لثلاثة أطفال تقل أعمارهم عن 10 سنة: "هناك الكثير من الخسارة والألم.. نحن خائفون: مما ستأتي به الساعات القادمة، وما سيأتي به الغد.. الموت في كل مكان".
ويضيف يوسف في حديثه لموقع المنظمة التي يعمل معها: "ينظر أطفالي إلى عيني كل يوم، ويبحثون عن إجابات ليست لدي. إنه وضع صعب للغاية، خاصة بالنسبة للأطفال. نحاول أن نقدم الدعم لهم وحمايتهم، لأن الاحتياجات هائلة".
منذ فرض الحصار على القطاع في عام 2007، غرقت حياة الأطفال في غزة في الحرمان الشديد ودورات العنف والقيود المفروضة على حريتهم، وفقا للمنظمة.
وأظهر تقرير نشرته في يونيو 2022، أن "الصحة العقلية للأطفال كانت بالفعل على وشك الانهيار".
وأفاد 80 بالمئة من الأطفال الذين استطلعت المنظمة رأيهم بأنهم يشعرون بحالة دائمة من الخوف والقلق والحزن، وكان ثلاثة أرباع الأطفال يتبول في الفراش خوفا، فيما يجنح عدد متزايد منهم نحو الصمت والانطواء.
ووثقت سلسلة من الدراسات الدولية الأخرى التي تتبعت الأطفال الإسرائيليين والفلسطينيين على مدى سنوات، كيف أن التعرض لمستويات عالية من العنف العرقي والسياسي "لا يضر بالصحة العقلية للأطفال فحسب، بل يزيد أيضا من احتمالية أن يصبح البعض عدوانيين تجاه بعضهم البعض".
هذا ويؤكد الجيش الإسرائيلي في أكثر من مرة أنه لا تستهدف سكان القطاع المدنيين والمرافق المدنية، ويتهم عناصر حماس باستخدام سكان القطاع كدروع بشرية، وهو الأمر الذي تنفيه الأخيرة.
ظروف اختبار صعبة
قال أطباء نفسيون في غزة، إن العديد من الأطفال يختبرون ظروفا صعبة ويعانون من أزمات واضطرابات نفسية، علما أن هذه الفئة العمرية تشكل نحو نصف سكان القطاع، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، ويعيشون تحت قصف شبه مستمر.
وملأ الكثيرون منهم ملاجئ مؤقتة في المدارس التي تديرها الأمم المتحدة، بعد فرارهم من منازلهم، دون كميات تُذكر من الطعام أو المياه النظيفة، بحسب وكالة رويترز.
وقال الطبيب النفسي في غزة، فضل أبو هين، لوكالة "رويترز"، إن "الأطفال بدأت تظهر عليهم علامات خطيرة من أعراض الصدمة، مثل التشنجات والتبول اللا إرادي والخوف والسلوك العدواني والعصبية وعدم الرغبة في الابتعاد عن والديهم".
وتتفاقم المشكلة بسبب حالة الملاجئ المؤقتة بمدارس الأمم المتحدة، حيث يحتمي أكثر من 380 ألف شخص، على أمل الهروب من القصف.
وينام في بعض الأحيان 100 شخص في الفصل الدراسي الواحد، مما يتطلب تنظيفا مستمرا، في حين لا توجد إمدادات تُذكر من الكهرباء والماء، لذا فإن الحمامات والمراحيض قذرة للغاية.
وقالت تحرير طبش، وهي أم لستة أطفال يحتمون في إحدى هذه المدارس، إن "أطفالها يعانون كثيرا خلال الليل ولا يتوقفون عن البكاء، ويتبولون على أنفسهم دون قصد"، مشيرة إلى أنه "ليس لديها الوقت الكافي لتنظيفهم واحدا تلو الآخر".
وأضافت، في تصريحات لـ"رويترز"، أن صغارها "لا يشعرون بالأمان في هذه المدارس أيضا". وتقول الأمم المتحدة إن هذه المدارس تعرضت للقصف عدة مرات، وشهدت طبش عدة ضربات تصيب مباني مجاورة.
كما لفتت طبش إلى أن أطفالها أصبحوا "يقفزون من الخوف عندما يسمعون صوت تحريك كرسي".
وأوضح أبو هين، أن "عدم وجود أي مكان آمن تسبب في شعور عام بالخوف والرعب بين جميع السكان"، مشيرا إلى أن "الأطفال هم الأكثر تأثرا". كما أن "رد فعل بعض الأطفال كان مباشرا، وعبروا عن مخاوفهم".
ولفت الطبيب النفسي إلى أنه "رغم احتياج هؤلاء الأطفال إلى تدخل فوري، فإنهم قد يكونون في حالة أفضل من الأطفال الآخرين الذين احتفظوا بالرعب والصدمة بداخلهم".
اكتئاب ما بعد الصدمة
ويقول استشاري الطب النفسي، الدكتور جمال فرويز، إن "أكثر الأمراض شيوعا في حالات الحرب هي اكتئاب ما بعد الصدمة".
ويوضح، في حديث سابق لموقع "الحرة"، أن "هذا النوع من الاكتئاب لن يظهر الآن، وإنما خلال الأشهر الستة المقبلة".
وفيما يخص التبول اللاإرادي فإنه ناتج عن "الضغط النفسي (ستريس)، وقد يختفي لاحقا، ولكن في حال حدوث أي حدث مشابه يذكر بما حصل قد تعود الحالة مجددا".
وقال إنه "في حال حدوث انفجار مثلا، في هذه الحالة قد تحدث استعادة للذكريات السيئة (مث القصف)، وهذا قد يؤدي لاضطرابات في النوم والأكل والحالة المزاجية وتنميل ورعشة في الأطراف ولعثمة وتعرق شديد".
ويضيف أن "الاكتئاب والوسواس القهري مرتبط بالجينات العائلية والتاريخ الأسري، وقد يرتبط ذلك أيضا بذكريات فقدان الأحبة أو البيت أو المال أو ما شابه".
وأشار إلى أن "الاعتياد على الحروب والأحداث الأليمة قد يقلل من فرص الإصابة بأمراض نفسية، نتيجة تجارب سابقة وخبرات لمن مروا بها وتعودوا عليها".