رغم الدلائل التي تشير إلى أن جماعة الإخوان المسلمين كانت الحاضنة لنشأة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في خمسينيات القرن الماضي، إلا أن الثابت أن نهج "فتح" تباعد سريعا عن نهج الجماعة الإسلامية، وصولا إلى خوض صراع على السلطة مع ذراع الإخوان في الداخل الفلسطيني، حركة "حماس".
تعاني القضية الفلسطينية من وضع قد يكون الأصعب في تاريخها في ظل الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ أكتوبر الماضي.
وكان لهذه الحرب صدى كبير لدى السلطة الفلسطينية التي أصدر رئيسها، محمود عباس، قرارا بتكليف الاقتصادي، محمد مصطفى، تشكيل حكومة جديدة، بعد استقالة رئيس الوزراء، محمد اشتيه.
حماس انتقدت الخطوة، واعتبرتها "فارغة من المضمون"، لترد حركة فتح التي يترأسها عباس ببيان أثار جدلا في الساحة الفلسطينية، خاصة أنها اتهمت حماس بالتسبب في إعادة احتلال غزة.
فما أبعاد الصراع بين فتح وحماس طيلة السنوات الفائتة؟ وما هو حجم تأثيره في مسار القضية الفلسطينية؟
معارضة نهج عرفات
يذكر المؤرخ عبد القادر ياسين في كتابه "فتح وحماس: صراع الديكة أم تصادم مناهج؟"، أن إعلان تأسيس حماس سنة 1988، وتصاعد نفوذها في السنوات اللاحقة مثّل مشكلة كبيرة لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية، قائد حركة فتح، حينها، ياسر عرفات، الذي وقع اتفاقا تاريخيا يعترف بموجبه بإسرائيل، مقابل اعتراف الأخيرة بمنظمة التحرير ممثلا للشعب الفلسطيني.
بموجب اتفاق أوسلو الذي وقع عام 1993، كان على عرفات أن يتخلى عن نهج "الكفاح المسلح" ضد إسرائيل، وأن يغير بنودا في الميثاق الوطني الفلسطيني تتعلق بهذه العقيدة التي كانت تحكم مسار الفصائل الفلسطينية المنضوية في المنظمة.
عاد الرجل إلى فلسطين ليتولى رئاسة السلطة الفلسطينية التي أقيمت على شكل حكم ذاتي يمهد لدولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، بعد خمس سنوات من المفاوضات مع إسرائيل، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
أعلنت حركة حماس، وفصائل فلسطينية أخرى، رفضها لأي اتفاق سلام يلغي حق المطالبة بـ "فلسطين التاريخية"، وأصرت على مواصلة العمل العسكري ضد إسرائيل، وهو ما قادها إلى صدام مباشر مع فتح، المنخرطة عبر عرفات في مباحثات سلام معقدة مع إسرائيل.
وبحسب كتاب "ابن حماس"، مصعب حسن يوسف، فإن عددا من قادة حماس اعتبروا أن نجاح هذه الاتفاقية سيقضي على فصيلهم الذي يعتبر المقاومة المبرر الوحيد لوجوده في فلسطين، فنفذت عدة عمليات عسكرية ضد مدنيين وعسكريين إسرائيليين بعد أسابيع قليلة من توقيع اتفاق أوسلو في محاولة لإفشاله.
ومصعب حسن يوسف، هو نجل القيادي في حركة حماس، حسن يوسف. وكان مصعب قد كشف في كتابه "ابن حماس" أنه عمل مع حهاز الأمن الإسرائيلي، الشاباك، وترك الإسلام، وهرب من فلسطين ليصبح من أبرز الوجوه التي تهاجم حماس في الإعلام الأميركي، فيما أعلنت عائلته التبرؤ منه.
حاول عرفات عبر لقاءات ومفاوضات مع قادة حماس أن يتوصل إلى صيغة تفاهمية تؤيد بشكل ما خيار المفاوضات، وهو ما قوبل بالرفض.
استخدمت السلطة الفلسطينية أسلوب الاعتقالات لعناصر حماس كوسيلة لتخفيف الغضب الإسرائيلي من الهجمات التي تنفذها الحركة، وتعرض سياسيون وعسكريون من حماس للتعذيب في السجون.
لكن، رغم ذلك بقيت الصلات بين عرفات وكبار قادة الحركة، وخاصة مؤسسها أحمد ياسين، وثيقة، وعلى مستوى من التنسيق الذي يضمن عدم تفجر الأوضاع.
في سبتمبر 1994، اغتالت إسرائيل هاني عابد، القيادي في حركة الجهاد الإسلامي. وحينما حاول عرفات المشاركة في الصلاة عليه، هاجمه نشطاء إسلاميون، لأن أجهزة السلطة الأمنية سبق وأن اعتقلت عابد في سجونها، قبل أشهر قليلة من مقتله. وهنا اضطر عرفات للانسحاب من المسجد بسرعة بسبب هجوم المصلين الكبير عليه.
بعد هذه الواقعة بأيام، وقع اشتباك دام بين أجهزة الأمن الفلسطينية ومتظاهرين مؤيدين لحماس في مدينة غزة، أسفر عن مقتل 12 شخصا وجرح مئات آخرين في ما بات يعرف بـ"مجزرة مسجد فلسطين" وسط المدينة. أعقب هذا الاقتتال شن عملية اعتقالات واسعة ضد قيادات الفصائل الإسلامية.
في الرابع من نوفمبر، 1995، اغتيل إسحاق رابين، رئيس الوزراء الأسرائيلي الأسبق، قائد عملية السلام، الذي صافح عرفات، في لقطة تاريخية، بالبيت الأبيض بعد توقيع اتفاق السلام.
وبحسب مصعب يوسف، فإنه عقب اغتيال رابين، طالب عرفات قادة حماس عدم إقامة احتفالات فرحا بمقتله، لقناعته أن رابين كان صاحب رؤية واضحة لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
حين جرت أول انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني في 1996، قاطعتها حماس بسبب رفضها الأساس القانوني الذي انطلق منه هذا الاستحقاق، وهو اتفاقية أوسلو. وفي فبراير 1996، تعمق الخلاف بين حماس والسلطة إثر تنفيذ الأخيرة عملية اعتقال واسعة ضد عدد ضخم من كوادرها، من ضمنهم عدد من القيادات مثل، محمود الزهار وأحمد بحر وإبراهيم المقادمة، حسبما أعلنت حماس حينها.
ساهم في تعقيد الوضع الفلسطيني انتخاب بنيامين نتانياهو رئيسا للحكومة الإسرائيلية في 1996، والذي تبنى أجندة معارضة لاتفاق أوسلو.
فاز إيهود باراك في الانتخابات الإسرائيلة عام 1999، وقاد مفاوضات مع الفلسطينيين برعاية أميركية، عرفت بمفاوضات كامب ديفيد.
استضاف الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، تلك المفاوضات في منتجع كامب ديفيد الشهير، في الفترة من 11 إلى 25 يوليو عام 2000. أعلنت حماس معارضتها لتلك المفاوضات وطالبت عرفات بالانسحاب.
ضغط كلينتون على عرفات وباراك للتوصل إلى اتفاق تاريخي قبل أن يغادر منصبه في البيت الأبيض، لكنه فشل.
عاد عرفات إلى رام الله، واستقبله الشعب محمولا على الأكتاف لرفضه التوقيع على اتفاق اعتبره مجحفا بحق الفلسطينيين.
إزاء تعقد الأوضاع السياسية وصعوبة الوصول لحل للقضية الفلسطينية، لجأ عرفات إلى ورقة حماس، وخفف من قبضة أجهزته الأمنية عليها، وأطلق سراح قادتها من السجون، وسمح لهم بحرية الحركة للمساعدة في إشعال انتفاضة، حسبما يورد مصعب في كتابه.
في 27 سبتمبر 2000، نفذ أرئيل شارون زيارته الشهيرة إلى باحات المسجد الأقصى، وحينها كان عضو كنيست عن الليكود، بعد أن حصل على موافقة من رئيس الحكومة باراك. فاشتعلت الأراضي الفلسطينية بمظاهرات ومواجهات عنيفة على نقاط التماس مع الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، احتجاجا على الزيارة.
هذا التوتر دفع باراك إلى إعلان انتخابات مبكرة، عام 2001، لم يتمكن من الفوز فيها أمام شارون، الذي شكل حكومة وقاد عملية عسكرية في الضفة الغربية عرفت باسم "الدرع الواقي"، والتي انطلقت في مارس 2002، بهدف إخماد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي عرفت حينها باسم "انتفاضة الأقصى".
محمود عباس رئيسا
عقب الحصار الذي فرضه شارون على عرفات في مقر إقامته، تدهورت صحة الأخير، الذي توفي في أحد مستشفيات فرنسا، في نوفمبر 2004.
انتخب محمود عباس رئيسا للسلطة الفلسطينية في 2005، في انتخابات قاطعتها حماس، وحصد عباس 66 بالمئة من أصوات الناخبين.
شهد هذا العام متغيرا جديدا في الساحة الفلسطينية، بعد قرار إسرائيل الانسحاب من قطاع غزة.
أبدت حماس بعض التراجع عن مواقفها السابقة إزاء العملية السياسية في فلسطين، وبدأت بعض المواقف تظهر أن الحركة لا تمانع أي اتفاق لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، ولكن من دون الاعتراف بإسرائيل. وقررت الحركة دخول الانتخابات التشريعية عام 2006، بعد سنوات من مقاطعتها.
حققت حماس انتصارا ساحقا في هذه الانتخابات، بعدما حصدت 74 مقعدا من أصل 132 بالمجلس التشريعي، مقابل 45 مقعدا فقط لحركة فتح.
كلف عباس، وفق نتيجة الانتخابات، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، تشكيل حكومة جديدة قاطعتها حركة فتح والمجتمع الدولي، ولم تتمكن من أداء مهامها، فكانت شرارة المواجهة الدامية بين الفصيلين في غزة.
وبحسب كتاب "فتح وحماس: من مقاومة الاحتلال إلى الصراع على السُلطة " لمحمد يونس هاشم، فإن تكليف حماس برئاسة الحكومة الفلسطينية طرح إشكاليات عديدة عرفتها الدولة وقتها، أبسطها هو ازدواجية العمل بين مؤسسة الرئاسة التي تمتلك العديد من الصلاحيات وتتعاطف معها الأجهزة الأمنية الرسمية، وبين الحكومة الجديدة التي تتبنى أجندة مختلفة داخلية وخارجية تماما، كما تعرّضت الحكومة لتحديات ضخمة أهمها قرار إسرائيل والاتحاد الأوروبي بحجب الأموال عنها.
وفي سبتمبر 2006، أضرب عدد كبير من موظفي القطاع العام بسبب عجز الحكومة عن توفير الرواتب.
يضيف هاشم: "شعرت حماس أنها خسرت كل شيء؛ فهي لا تمتلك قوة تنفيذية ولا موارد اقتصادية ولا أجهزة أمنية، وباتت محاصرة داخليا بالسلطة الرئاسية والأجهزة الأمنية التابعة لها".
سريعا تراكمت الخلافات بين الطرفين. وخلال 2006 عاشت غزة فلتانا أمنيا كبيرا على وقع التنافس المحموم بين فتح وحماس أسفر عن 188 قتيلا و656 جريحا، بحسب ياسين.
هنا بادر الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بإعلان ما عرف بـ"وثيقة الأسرى" التي سعت لرأب الصدع، ورغم أن الفريقين أعلنا موافقتهما بشأنها، فإن تنفيذ عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط وما تلاه من عملية عسكرية إسرائيلية ضد القطاع وصل بالمفاوضات إلى نقطة الصفر بسبب إدانة عباس العلنية لعملية حماس.
وفي ديسمبر، خطب عباس شارحا الحالة الدرامية التي وصلتها الأحوال قائلا "الوضع يزداد سوءا، الحكومة لا تستطيع أن تجتمع والمجلس التشريعي لا يستطيع أن يجتمع، وجميع أجهزة الأمن معطلة".
في الشهر نفسه، أنهى هنية جولته الخارجية الأولى رئيسا للوزراء، وخلال دخوله القطاع عبر المعبر وقعت اشتباكات بين أجهزة أمنية رسمية ومسلحي حماس أسفرت عن إصابة عشرات منهم وتعرض المعبر لأضرار كبيرة.
وبحسب ما ذكر المحلل السياسي، جورج جقمان، في ورقته "حماس وفتح: صراع برامج أم صراع على السُلطة"، فإن عباس بدأ منذ أكتوبر في التفكير بخيارات أكثر جذرية مثل حل المجلس التشريعي وإجراء انتخابات جديدة، وهو خيار دعمه حينها الرئيس المصري، حسني مبارك.
لم يقدم عباس على هذه الخطوة بسبب خلو القانون الأساسي الفلسطيني من أي مادة تمنح الرئيس الحق في حل المجلس المنتخب وخوفه من أن تؤدي إلى مزيد من الانقسام.
مع تصاعد التوتر بين الطرفين رعت السعودية اجتماعا توافقيا بين الفصائل الفلسطينية انتهى بتوقيع "اتفاق مكة" في بداية عام 2007.
لم تؤد هذه الخطوة إلى نتيجة واستمرت المناوشات بين القطبين في القطاع رغم توقيع أكثر من 10 اتفاقات هدنة برعاية أمنية مصرية لم تكن تصمد إلا ساعات محدودة، وحتى شهر مايو، سقط في القطاع قرابة 234 قتيلا و 1290 جريحا، حتى إن الرئيس عباس اتهم حماس بالتخطيط لاغتياله خلال زيارة له إلى قطاع غزة.
الموقف ينفجر
في يونيو 2007، انفجر الموقف تماما وانتهى بسيطرة مطلقة لحماس على القطاع بعد اشتباكات دامية أسفرت عن مقتل 161 شخصا وجرح 700 آخرين وفرار أغلب قادة الأجهزة الفلسطينية إلى خارج القطاع باتجاه الضفة الغربية، وفقا للإحصائيات التي وثقها ياسين في كتابه.
بسبب هذه الأحداث، أعلن عباس إقالة حكومة هنية وإلغاء أي جولات حوار كان مقررا عقدها بين فتح وحماس.
وفي أول تعقيب لعباس على ما جرى في القطاع، خلال خطابٍ ألقاه في افتتاح دورة المجلس المركزي لمنظمة التحرير، قال: "هذا ليس صراعا بين فتح وحماس، إنه صراع بين المشروع الوطني ومشروع المليشيات، بين مَن يلجأون إلى الاغتيال والإعدامات وبين من يلجأ إلى قواعد القانون".
بعد انتهاء المواجهات في غزة لصالح حماس، حافظت الحركة الإسلامية على سيطرة مطلقة على القطاع الذي خضع لحصار إسرائيلي مطبق طيلة أكثر من 15 عاما.
نفذت إسرائيل خلالها هذه الفترة أكثر من حرب على قطاع غزة، قبل أن يأتي هجوم السابع من أكتوبر، الذي نفذته حماس وأدى إلى مقتل نحو 1200 إسرائيلي أغلبهم مدنيون، وفقا للسلطات الإسرائيلية.
وردا على الهجوم، أعلنت حكومة نتانياهو شن حرب دامية، أسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من 30 ألف فلسطيني غالبيتهم مدنيون من النساء والأطفال، وفقا لوزارة الصحة في القطاع.
ودمر الطيران الإسرائيلي المنازل والبنى التحتية، واجتاجت الدبابات الإسرائيلية شمال ووسط القطاع، ونزح غالبية المدنيين الفلسطينيين إلى رفح في الجنوب، وسط ظروف إنسانية صعبة.
وفي ظل الحرب والعدد الكبير من القتلى في صفوف الفلسطينيين، والدمار الهائل الذي تعرض له القطاع نتيجة الحرب الإسرائيلية، علت أصوات فلسطينية تطالب بالوحدة وإنهاء الانقسام بين فتح وحماس.
ورغم أن الطرفين تجنبا المناكفات السياسية في الشهور الأولى من الحرب، إلا أن قرار تشكيل حكومة جديدة أشعل المواجهة الكلامية بين الفصيلين من جديد، حين اعتبرتها حماس "خطوة فارغة من المضمون، وتعمق الانقسام"، لترد فتح محملة حماس مسؤولية ما وصفته "بوقوع النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصا في قطاع غزة"، في إشارة للحرب الدائرة هناك.