في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، انقلبت حياة الغزي محمد سعيد رأسا على عقب.
كان أستاذا جامعيا، ، وبعد 7 أكتوبر، صار "هاربا"، يبحث عن دروب تراوغ الموت، في رحلات نزوح تكررت عشر مرات.
بعد هجوم حماس بيوم واحد فقط، في الثامن من أكتوبر، يقول محمد سعيد (اسم مستعار): "فتحنا أعيننا على هجوم جوي إسرائيلي وأعلنت منطقتنا مسرحا للعمليات العسكرية".
كان سعيد يعيش في شمالي قطاع غزة.
يتذكر ما حدث: "خرجت مع عائلتي في رحلة النزوح الأول. ذهبنا إلى أقارب لنا"، وهناك "كنا نصطف في طوابير طويلة لساعات على أمل الحصول على أرغفة قليلة من الخبز لسد الرمق".
تزايدت حدة القتال، وأعداد النازحين، وبدأت السلع الضرورية تنفد من الأسواق شيئا فشيئا.
وبعد أسابيع، تم إعلان المنطقة التي نزحت إليها عائلة سعيد منطقة خطيرة، وطُلب من المقيمين فيها التوجه إلى جنوبي غزة، فتركت أسرته أقاربها الذين أقامت في منزلهم، لتبدأ رحلة نزوح جديدة.
"في ذلك الوقت، آثرت العودة إلى منزلي رغم خطورة الوضع وتزامن ذلك مع الاجتياح البري، الذي تم معه فصل الشمال عن الجنوب في الحد الفاصل، وهو وادي غزة، حيث بدأت الهجرة والنزوح الجماعي تجاه الجنوب، وهي رحلات شهدت اعتقال الكثير من الشباب"، يتابع سعيد.
حاول سعيد مع أسرته المكونة من أربعة أطفال أن يجد في بيته ملاذا آمنا، "إلا أن الضربات والأحزمة النارية اشتدت لتطال سقف المنزل وبعض جدرانه، وسط صراخ الصغار وعويل النساء، فخرجنا تحت القصف إلى أن وصلنا بأعجوبة إلى المستشفى القريب منا، لنجد الآلاف من الناس يحاولون الاحتماء، وكان هذا هو النزوح الثاني".
وتابع بأسى: "هناك جلست أسرتي مع مجموعة من العائلات في أحد ممرات المستشفى، فيما وقفت أنا مع اثنين من الجيران نحاول تدبر الأمر، وكانت المفاجأة بضرب بوابة المستشفى بغارة إسرائيلية، ما أدى إلى إصابتي بشظية في الخاصرة ما زالت حتى الآن موجودة في جسدي، بالإضافة إلى حدوث كسر في الفك العلوي جراء الإصابة بشظية أخرى".
ومع أنه حصل على إسعافات أولية أنقذت حياته، فإن أحد صديقيه، وهو رئيس قسم في بنك، قد فاضت روحه، بينما أصيب الآخر، وهو محاسب في الجامعة ذاتها التي يعمل فيها سعيد، بكسور شديدة في رجله.
يضيف: "صدرت أوامر في اليوم التالي بوجوب إخلاء المستشفى، فخرجنا في النزوح الثالث إلى منطقة بعيدة، عند بيت مكتظ بأقارب تجاوز عددهم الـ 70 فردا".
وعاش ذلك العدد الكبير، حسب رواية سعيد، في بيت عادي مكون من طابقين، "حيث كانوا يتناولون وجبة واحدة يوميا وسط شح شديد في مياه الشرب والنظافة وانعدام تام للرعاية الصحية".
ويستطرد: "وقتها اشتدت بي آلام جرحي، واستمر حالنا على ذلك الوضع لمدة أسبوع، وبعد أن ازداد القصف عنفا وغطت القنابل الدخانية الأجواء في ذلك الحي، صدرت أوامر جديدة بإخلاء تلك البقعة السكنية، فذهبنا مشيا على الأقدام إلى حي الجامعات، غربي غزة، حيث زعموا (الإسرائيليون) أنها منطقة آمنة، وكان هذا هو النزوح الرابع".
وتابع: "هناك استطعت توفير غرفة بالجامعة لتأوي أسرتي وبعض العائلات الأخرى، ليصل الإجمالي إلى ما يزيد عن 40 فردا، ومكثنا هناك شهرا كاملا، عايشنا فيه فقدانا لأدنى مقومات الحياة".
النزوح الخامس
يقول سعيد: "خلال ذلك الشهر، كان القصف يشتد على المنطقة إلى أن صدر إيعاز جديد بإخلائها، فنزحنا للمرة الخامسة، وعدنا إلى منزلنا من جديد، رغم خطورة الوضع".
وعقب أيام قليلة، يشرح سعيد، بدأ "الاجتياح البري للشارع الذي نعيش فيه ضمن المنطقة كلها، فخرجنا من البيت وذهبنا إلى منزل أحد الأقرباء الذين نزحوا إلى جنوبي القطاع، وبدأت معاناة مشابهة لما سبق، ولم يستمر الوضع أكثر من أسبوع حتى طال المنطقة قصف مدفعي قتلت فيه أسرة بأكملها كانت تسكن بجانبنا، فتركنا المنطقة وعدنا إلى البيت لنجد أضرارا كبيرة حلت به، حيث وجدنا الأثاث محروقا، ورغم ذلك حاولنا تدبير أمور معيشتنا بصعوبة بالغة".
وبعد أسبوعين تقريبا، اشتد القصف على المنطقة، فاضطر الأب المتعب أن ينزح للمرة السادسة إلى أطراف المنطقة عند إحدى أخواته المتزوجات، ظنا منه أن عائلته ستكون أكثر أمانا هناك.
وأضاف: "مكثنا هناك شهرا بأكمله نسمع ونترقب كافة أنواع القصف الجوي والبري والبحري، إلى أن تم الإعلان عن عملية عسكرية كبرى وضرورة إخلاء المنطقة، وعندها باشرنا رحلة النزوح السابع".
مرارة الحرمان
وفي ذلك الترحال الجديد والقسري "عدنا إلى مكان نزوحنا الخامس، وبقينا هناك نحو 20 يوما تذوقنا خلالها مرارة الحرمان، حيث نفدت كل المدخرات النقدية، وتزامن ذلك مع فسح المجال للمستغلين وأصحاب النفوس المريضة والمشبوهة التي سرقت البيوت".
"هناك فقدنا كل مقومات الحياة الطبيعية بكافة تفاصيلها، إلى أن تم الإعلان عن انتهاء العملية العسكرية بشمال غزة، وعندها رجعنا إلى بيتنا حيث كانت الفاجعة والمفاجأة بأننا تعرفنا على معالم المنطقة بصعوبة بالغة"، يقول سعيد.
يصف سعيد ما شاهده من "تدمير شامل للشوارع والبنى التحتية" لدى عودته إلى منزله.
ويقول: "كان حظنا أن طال التدمير الجزئي منزلنا، فتأقلمنا قدر المستطاع، إذ حوّلنا بعض الأغطية إلى جدران، وحفرنا بئرا للصرف الصحي، ووفرنا خزانات بلاستيكية لنقل المياه إليها من مدارس الإيواء المجاورة، التي وفرها أهل الخير".
ومع مغالبة الدموع، يستطرد الأكاديمي: "تصدر أوامر إخلاء وضربات جديدة تطال المنطقة، لنضطر إلى النزوح ثلاث مرات جديدة، لكن لمدد أقل من سابقاتها".
وها نحن، والكلام ما زال للراوي، "نعيش حاليا نبحث في يوميات الحياة عن جمع بعض الحطب لإشعال نار موقد الطبخ بغية إعداد لقيمات قليلة، ونبحث في الأسواق عن شيء يسد الرمق من المعلبات المحدودة التي يتوفر منها أصناف قليلة جدا وبأسعار لا تصدق".
ومع إغلاق مصادر الرزق، فقد انتهى العام الأول من الحرب، كما يقول سعيد دون أن يحصل إلا على "قرضين من الجامعة وطردين غذائيين".
ويختم حديثه لموقع "الحرة" بنبرة حزن: "على أمل الفرج القريب".