في السادس من أكتوبر الماضي، كان سكان غزة يعيشون حياتهم الطبيعية في القطاع المحاصر، قبل أن تنقلب حياتهم رأسا على عقب في اليوم التالي مباشرة.
فرّق الموت أسرا وأنهكها وقضى على حياتها العادية تلك، فلم يجد البعض طريقًا إلا محاولة الخروج من غزة. لكن حتى الوصول إلى معبر رفح البري الحدودي مع مصر - المخرج الوحيد المتاح حينها - كان صعبا تحت القصف، فيما قد يكلف عبوره آلاف الدولارات.
كان الثلاثيني أحمد الهادي، يعيش في شمال القطاع مع زوجته وأطفالهما، ولديه عمل استشاري في السلك القضائي بالقطاع، لكنه حاليًا نازح في مصر رفقة أسرته، حيث بقي لأشهر طويلة في مستشفى لتلقي العلاج من إصابة تعرض لها، قبل الخروج. كما أن طفليه التوأمين مصابان.
كذلك عائلة الشرفا "فقدت ذكرياتها" في حي الرمال شمالي القطاع، وأصبح منزل الأسرة وفندق امتلكه أحد أفرادها "والأرض سواء" بسبب القصف، لتعيش العائلة شهورا من الرعب والنزوح، قبل الخروج على فترات متباعدة إلى مصر.
"حياة حلوة ويوم على البحر"
تحدث فلسطينيون تمكنوا من الخروج من غزة، إلى موقع "الحرة"، ونقلوا تجربتهم مع الحياة "الجميلة" قبل الحرب، واللحظات المأساوية بعدها، بعد فقدان أفراد وأموال ومبان.. وحياة كاملة.
بدأ هذا العام الدامي في السابع من أكتوبر 2023، عندما شنت حركة حماس هجوما على إسرائيل، أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين وبينهم نساء وأطفال، واحتجاز نحو 250 رهينة.
كان الهادي (اسم مستعار) يعمل مستشارا في المجلس الأعلى للقضاء، "وكانت حياتي بخير، ومستورة".
وبدورها، تقول نائلة الشرفا، في حديثها لموقع "الحرة": "أعيش في أميركا، لكنني قررت زيارة والدتي المريضة. وصلنا يوم 30 سبتمبر وكانت الأجواء العائلية رائعة، وصحة أمي تحسنت".
وأضافت الشرفا: "في السادس من أكتوبر، تجمعنا على البحر وقضينا يوما جميلا، وفي الصباح أدركنا أنها الحرب".
وتصف أم حسين (76 عاما)، الحياة قبل الحرب بأنها "حلوة"، قائلة: "كنا في سعادة.. نخرج ونحضر الأفراح ونزور بعضنا البعض ونلتقي على المقاهي، وهناك مطاعم رائعة على ساحل بحر غزة".
لكنها عادت وقالت: "كنت في المطبخ يوم 7 أكتوبر، قبل أن أسمع انفجارا، حينها تركت كل شيء، لأجد بيت جيراننا قد تعرض للقصف، وكانت هناك جثث على سور منزلنا. ملأ الصراخ المنطقة وساد شعور الخوف وبكى الأطفال بحرقة".
الخروج
مع اندلاع القتال في الأشهر الأولى من الحرب، كان الجيش الإسرائيلي يدعو المواطنين إلى النزوح جنوبًا، وبدأت العائلات شمالي القطاع في الخروج بأسرع ما يمكن، واعتقد كثيرون أنها "مجرد أيام" قبل العودة مجددا.
تواصل الشرفا حديثها: "كان من المفترض أن أغادر القطاع يوم 9 أكتوبر، لكن القتال اندلع وبدأ القصف يقترب من منزلنا. تجمعت الأسرة في منزل واحد، وكنا نجلس جميعا في خوف شديد منتظرين الموت.. ثم وصلتنا رسائل بالإخلاء والتوجه نحو دير البلح".
غادرت الأسرة بالكامل، 28 شخصًا وأقارب آخرون، ووصلوا إلى دير البلح تاركين خلفهم كل شيء تقريبا، "فلم نتوقع أننا لن نعود"، وفق الشرفا.
أما أم حسين فكانت تعيش في حي الصبرة بمدينة غزة، وبدأت أسرتها بالنزوح جنوبًا أيضًا، وقالت إنها كانت "محظوظة" كسيدة كبيرة في العمر، وسُمح لها بالخروج وحدها بعد شهرين من الحرب، وتوجهت إلى مصر ثم الإمارات بعد ذلك.
توأم خدج
مع نهاية شهر نوفمبر 2023، وفي مستشفى الشفاء، الذي كان الأكبر في غزة قبل الدمار، كانت هناك أزمة تتعلق بالأطفال الخدج أو حديثي الولادة الذين لم يجدوا العلاج والعناية اللازمة.
كان للهادي توأمان في حضّانات مستشفى الشفاء، ولم يكن معهما، لأنهما كانا في العناية المركزة. ومع القصف وفرض الحصار، أصبح هناك حاجز لا يمكن تجاوزه بينهم وبينه.
وقال الهادي لموقع "الحرة"، إن والده قتل بعدما تعرض منزلهم للقصف في شمال غزة، فيما "أخرجوني من تحت الأنقاض، ودخل أطفالي المستشفى، لكن مع الأوامر بالنزوح استودعتهم عند الله واتجهنا جنوبًا".
وتابع: "علمت بخروجهم (من القطاع) من الأخبار، فعملت على إنهاء الإجراءات من أجل خروجي أيضا للحاق بهم، بعد جمع آلاف الدولارات التي كانت مطلوبة للعبور عبر معبر رفح".
وتواصل الشرفا حديثها للحرة، بالقول: "تمكنت من الخروج في نوفمبر، لكن أمي لم تتمكن من ذلك إلا بعدي بأشهر"، ومررنا بأوضاع "لا يمكن وصفها".
أما الهادي، الثلاثيني، فقال للحرة، إنه تمكن من الخروج في أبريل، وهو في "حياة مليئة بالحسرة والضرر النفسي والجسدي والمادي والقهر والحزن الشديد، وعدم استيعاب مدى الكوارث التي تحدث"، موضحا: "قُتل والدي وأصيب أولادي وأسرتنا منقسمة".
"بلا ذكريات"
تجمعت أسرة نائلة الشرفا في مصر بعد خروجهم من غزة، وقالت: "أمي كبرت 10 سنوات خلال أشهر الحرب. نفسية أخوتي مدمرة، فقد تركوا كل شيء خلفهم".
وأضافت: "تحدثنا عن غزة التي كانت أحلى ما يمكن. نفتقد الجلسات والبحر والأكل الذي هو من بين الأفضل في العالم العربي كله، لكن أكثر ما يحزنني هو أن كل الذكريات ذهبت".
أوضحت الشرفا: "بعد وفاة أبي الذي كان رئيس اتحاد تنس الطاولة لفترة طويلة خلال فترة ما قبل حرب 1967، وضعنا صوره مع الرؤساء والقادة وميدالياته في غرفة واحدة، ومعها كل ما كان يحتفظ بها من صور لنا ووثائق مثل شهادات ميلاد وتفوق دراسي.. دمرت الحرب كل ذلك"
وعن الحياة حاليًا بعد الخروج إلى مصر، قال الهادي: "الحياة في مصر صعبة والغلاء يستنزف كل شيء، خصوصا أننا لا نتلقى رواتبنا منذ اندلاع الحرب، كما أنني أجريت عملية في الغضروف ولا أستطيع العمل حاليًا".
وواصل للحرة: "بعض المصريين هنا ساندوني، بالملابس ومستلزمات أطفالي الذين يحتاجون إلى رعاية خاصة".
فيما تقول أم حسين إن أولادها لا يزالون في غزة، مضيفة: "الله يحميهم. شعوري سيء جدا جدا ولا يمكن وصفه. نتواصل عبر واتساب لكن الإنترنت بالطبع ضعيف جدا، وهم يغيّرون مكانهم كثيرا بسبب القصف".
ولم تسفر جهود الوساطة التي تقوم بها الولايات المتحدة وقطر ومصر حتى الآن عن وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حماس.
وقال متحدث باسم الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، إن شركاء الوكالة يواصلون إيصال المساعدات إلى السكان في غزة، لكنه أضاف أن "العوائق التي تحول دون إيصالها، وانعدام الأمن، يمنع التوسع الضروري في تقديم هذه المساعدات لتلبية احتياجات 2.3 مليون شخص في حاجة ماسة إليها في القطاع".
وذكر المتحدث أن الوكالة تواصل العمل مع الشركاء "لحل المشكلات التي تؤثر على تقديم المساعدات لمن هم في حاجة إليها".
وتشكو الأمم المتحدة منذ فترة طويلة من وجود عراقيل تحول دون إيصال المساعدات إلى غزة وتوزيعها على السكان، وسط "فوضى تامة" في القطاع المحاصر.
ورغم الحرب، فإن من تواصل معهم موقع "الحرة"، أكدوا أن التفكير في العودة "أساسي لديهم"، حيث قال الهادي :"أول أمر سأفكر فيه مع نهاية الحرب هو العودة ورؤية أمي وإخوتي، فمنذ عام لم أرهم وأفتقدهم كثيرا".
كما قالت الشرفا: "إخوتي أكدوا أنه مع نهاية الحرب، فإنهم سيعودون وحدهم في البداية، وستبني الأسرة الفندق والمنزل مجددا".
وعاد الهادي ليختتم حديثه بالتأكيد على أنه سيعود إلى غزة "حتى لو نمت على الرمل".