من جنازة الشاب ربحي الشلبي في مدينة جنين شمال الضفة الغربية- رويترز

تعود مدينة جنين ومخيمها شمالي الضفة الغربية لواجهة الأحداث مجدداً، ليس بسبب اجتياح للجيش الإسرائيلي، أو  اشتباك بينه ومسلّحي فصائل فلسطينية، بل لعملية عسكرية تحركها السلطة الفلسطينية نحو نزع سلاح "كتيبة جنين"، باعتبارها "خارجة على القانون".

النزاع بين القوات الأمنية و"كتيبة جنين" التي تضم فصائل مسلحة تابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي وكذلك كتائب "شهداء الأقصى"، يدخل يومه السابع، ولكن، بوتيرة أهدأ نسبياً وفق تأكيد مصدر محلي.

وحتى الآن، أسفرت الاشتباكات في مناطق متفرقة في المدينة، بالأخص في محيط مخيمها، عن مقتل شاب وإصابات عديدة، وأضرار مادية للمواطنين، حيث وصلهم رصاص الصراع الداخلي صوت التفجيرات. 

تبدو الأحداث كأنها وليدة الرابع من ديسمبر، لكن في حقيقة الأمر، هناك حالة من الاحتقان الداخلي منذ سنوات، تزايدت بعد الحرب المستمرة في قطاع غزة منذ أكثر من عام، والتصعيد الإسرائيلي في الضفة تجاه جماعات مسلحة مرتبطة بأحزاب فلسطينية في مدن جنين ونابلس وطولكرم وطوباس وغيرها.

"مأساة لجين" وحياة "شبه مستحيلة".. شهادات من جنين بعد الانسحاب الإسرائيلي
وصف عدد من سكان جنين الأوضاع المأساوية التي عاشوها خلال أيام العميات الإسرائيلية في المدينة والمخيم، وتحدثوا عن دمار هائل في البنية التحتية حيث تجريف للشوارع واقتحام لمنازل وتحويلها لثكنات عسكرية بعد طرد أهلها.

فيما اعتبر البعض أن استمرار إسرائيل في استهدافها بشكل متكرر لجنين، يعد بمثابة رسالة غير مباشرة لهم بأنهم يجب أن يغادروها ويتركوا أرضهم.

بدأت الأحداث باعتقال

في 4 ديسمبر الجاري، اعتقلت  الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية شخصا من مخيم جنين وصادرت مبلغا ماليا كان بحوزته. 

 هذه الأموال، كانت مخصصة لأسر في المخيم، ومقدمة من حركة الجهاد الإسلامي، وفق بيانات لفصائل مسلحة. 

لكن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، تعتقد أن تلك الأموال كانت مخصصة لدعم المسلحين في "كتيبة جنين".

وتعتبر إسرائيل حركة الجهاد الإسلامي  إلى جانب حماس، جماعات "إرهابية"، وهما على الجانب الآخر في قطاع غزة تقاتلان الجيش الإسرائيلي، ومتورطتان في هجوم السابع من أكتوبر 2023.

في اليوم التالي، قامت مجموعة مسلحة بالاستيلاء على مركبتين تابعتين لمكتب وزارة الزراعة في جنين، وجالت بهما نحو المخيم، رافعة أعلام حركتي حماس والجهاد.

تدحرجت كرة الثلج، نحو  استدعاء التعزيزات العسكرية الحكومية من محافظات مجاورة، واندلعت المواجهات المسلحة في مناطق عدة، أغلبها في محيط مخيم جنين الذي تحاصره قوات السلطة منذ أيام. 

في الأيام المقبلة، ستنفجر مركبة قرب موقع حكومي، ويصاب عدد من الفلسطينيين.

قالت الفصائل إنها ليست مسؤولة عن التفجير، واتهمت "الطابور الخامس" الذي "يسعى لإشعال الفتنة".

كان فتى على دراجة

لاحقا، قتل الفتى ربحي الشلبي (19 عاماً)، وهو يعمل في إيصال الطلبيات على دراجته النارية.

"الحرة" اطلعت على أكثر من رواية في مقتل الشاب وعلى فيديو يوثق لحظة مقتله، لكن يصعب التحقق من مصدر الرصاصة القاتلة.

 السلطة نفت علاقتها بالأمر، محملة المسؤولية للفصائل، والأخيرة تقول إن العكس هو الصحيح.

قال الناطق الرسمي لقوى الأمن الفلسطيني العميد أنور رجب، الاثنين الماضي، إن الشلبي "وقع ضحية اشتباك مفتعل تسبب في إصابته بجروح خطيرة" توفي على أثرها، وأصيب حسن ربحي الشلبي (16 عاما) "بجروح في الرأس نتيجة الحادثة نفسها".

وأضاف رجب أن "الجناة لجأوا إلى وسائل خطيرة، شملت استخدام العبوات الناسفة وإطلاق النار العشوائي، إضافة إلى زرع ألغام في الشوارع والطرق العامة، ما يُعرّض حياة المدنيين للخطر، بمن فيهم الأطفال والمؤسسات التعليمية والصحية".

أما والد الشاب المقتول، فقد ظهر في مقابلات صحافية خلال جنازة ربحي الثلاثاء، مؤكداً أن السلطة تتحمل مسؤولية وفاة ابنه.

وقال إنه يريد تحقيق العدالة لربحي و"محاكمة العسكري الذي قتله".

وقدم "حسن" الذي شهد لحظة قتل ربحي، شهادته فور تلقيه العلاج، لمصدر صحفي محلي في جنين.

قال إنه "كان برفقة ربحي لتوصيل طلبية (ديلفري) من البصل على دراجة نارية لملحمة (جزّار) في جنين، وتم إيقافهما مرتين من نقاط أمنية تابعة للسلطة، الأولى سمحت لهما بالعبور، وحين توقفا عند الثانية أطلقت النار من قبل عسكري داخل آلية محصّنة نحوهما".

"قتل ربحي بين يدي.. رأيت روحه وهي تطلع" يضيف الفتى الذي لا يزال مصدوماً مما حدث.

وطغت ملامح الغضب على جنازة الشاب في جنين، رافقها أفراد يحملون السلاح، أطلقوا هتافات نارية ضد السلطة ومحمود عباس نفسه، بعضهم قال "رسالتنا واضحة وصريحة.. فليسقط النظام.. فليسقط عبّاس".

في اليوم نفسه أعلن مقدم في جهاز "الأمن الوطني" التابع للسلطة "براءته" ممن وصفهم بـ"القَتَلة" الذين يوجهون رصاصهم نحو "أبناء شعبهم"، داعياً الآخرين في الأجهزة الأمنية أن يحذو حذوه، قبل أن يخلع زيّه الرسمي ويرميه جانباً.

الطرف الآخر، نشر معلومات مفادها أن هذا المقدم مفصول منذ أشهر أساسا، بسبب قضية معينة، وأنه في الحقيقة من السجناء السابقين في إسرائيل المنتسبين شكليا للسلطة ويتلقى راتبا دون أن يعمل بشكل رسمي.

وساد جنين هدوء نسبي الأربعاء مع سماع إطلاق رصاص متفرق بين وقت وآخر، وأطلق الأهالي مبادرة بتشكيل "لجنة مصالحة" للبحث عن حلول.

ساحة قتال لا تهدأ.. حقائق عن مخيم جنين
تعد العملية العسكرية التي نفذها الجيش الإسرائيلي في جنين، الأكثر حصدا للأرواح في الضفة الغربية منذ عام 2005، وفقا لإحصاءات الأمم المتحدة، وعادة يكون مخيم جنين هو الساحة التي تشهد أعنف المواجهات بين قوات الأمن الإسرائيلية ومسلحي الفصائل الفلسطينية في شمالي الضفة الغربية.

حرب بيانات

خلال الأيام الماضية من الاشتباكات، غاب أي اتفاق مشترك للأطراف على طاولة واحدة، وفيما تُصدر السلطة بياناتها من داخل المقار الحكومية، تأتي بيانات الفصائل عبر مقاطع فيديو لمسلحين يسيرون وسط أزقة مخيم جنين، أو يقفون في إحدى جنباته.

ويتم تداولها على نحو واسع في مجموعات على "تلغرام"، تتناول كذلك شتى عبارات التحريض ضد أبو مازن فقد "طفح الكيل" وفق وصفهم.

ومنذ سنوات قليلة، يمثّل "تلغرام" شبكة تواصل محلية قوية، ينقل عبره المواطنون والفصائل والإعلاميون الأحداث أولاً بأول خصوصا المتعلقة بالاشتباكات بين الجيش الإسرائيلي والمسلحين الفلسطينيين أو بأي عملية اقتحام أو حملة اعتقالات واسعة داخل المدن والقرى، من أجل تنبيه بعضهم البعض وأخذ الحيطة والحذر.

A man walks past a closed shop with a Palestinian flag during a general strike in the occupied West Bank city of Jenin on December 10, 2024, a day after clashes between Palestinian security forces and militants. (Photo by Zain JAAFAR / AFP)

ويوم الثلاثاء، اجتمع مستشار الرئيس لشؤون المحافظات الفريق إسماعيل جبر، ووزير الداخلية اللواء زياد هب الريح، ومحافظ جنين كمال أبو الرب في دار المحافظة بمدينة جنين، بمشاركة منسق شؤون المحافظات موفق دراغمة، وممثلي المؤسسات الرسمية في جنين.

وقال هب الريح، بحسب ما نقلت عنه وكالة الإعلام الرسمية (وفا)، إن المؤسسة الأمنية ستمضي في مهامها ودورها الوطني بتوجيهات الرئيس، "لإرساء النظام والقانون والحفاظ على الاستقرار والأمن المجتمعي".

وقال جبر إن الأمن سينفذ تعليمات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "بألا يتم تدمير الضفة الغربية" وضرورة "فرض الأمن وسيادة القانون والنظام، وملاحقة الخارجين على القانون أينما كانوا".

وقال إنه ما من مكان محرّم على الأمن الفلسطيني، في إشارة على ما يبدو لمخيم جنين.

أما محافظ جنين فقال إنه ملتزم كذلك بتنفيذ تعليمات الرئيس، مشدداً "لا تراجع ولا صفقات، ولا نحتاج إلى إذن لدخول أي مكان لمحاربة الخارجين على القانون لفرض الأمن وتنفيذ القانون".

في المقابل، خرج المسلحون من حماس والجهاد الإسلامي ببيانات يقولون فيها إن السلطة عرضت عليهم "إغراءات" من رواتب دائمة مقابل حلّ الجماعات والانخراط في الأجهزة الرسمية وتلقي رواتب من السلطة، إلا أنهم رفضوا.

هذه الخطوة اتخذتها السلطة سابقاً حين حلّت كتائب "شهداء الأقصى" التي كانت مرتبطة بحركة فتح، بعد فترة وجيزة من اجتياح مخيم جنين الشهير عام 2003، وكذلك حلّ الفصائل المسلحة على أثر "الفلتان الأمني" في نابلس خلال سنيّ الانتفاضة الثانية.

في الوقت ذاته، هناك مسلحون اليوم يحملون ذات الاسم "كتائب شهداء الأقصى" في المخيم، وهم كذلك أصدروا بياناً يعلنون فيه وقوفهم إلى جانب حماس والجهاد ضد السلطة.

وفي خضّم الأحداث التي تشهدها جنين، أحداث موازية تجري في قرى المحافظة ومدن أخرى، تنخرط فيها إسرائيل بمواجهة مسلحين آخرين.