وصناعة واستهلاك الخمور لا تخرج عن هذه القاعدة. فالأرقام الرسمية التي تدلي بها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تكشف بوضوح تزايد الإقبال على الخمور من طرف الشباب السعودي وأيضا من طرف الأجانب الوافدين على المملكة.
موقع "راديو سوا" يحاول في هذا التقرير أن يكشف عن بعض ملامح هذه الصناعة السرية للخمور، والتي يتحاشى السعوديون الحديث عنها لأنها لا تزال من التابوهات، رغم أن دراسة نشرتها صحيفة "إيكونوميست" البريطانية صنفتهم في مرتبة متقدمة في استهلاك الكحول.
سوق سوداء للكحول
في أحد الأحياء الهامشية بمدينة الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، حيث يتجمع أغلب المهاجرين غير الشرعيين القادمين من دول إفريقية وآسيوية، كانت فرقة من "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" تقوم بجولة استثنائية، إذ كانت عناصر الفرقة بلحاهم السوداء الكثيفة وثيابهم البيضاء الناصعة تتعقب مروجا للخمور السرية، بعدما وصل إلى علمهم أنه يمارس نشاطه في تلك المنطقة.
هذا شريط فيديو لرجال الهيئة خلال تدميرهم لبراميل من الخمور محلية الصنع:
هذه العملية التي كشفت عنها الهيئة في شريط فيديو صوره عناصرها، أدت إلى القبض على مهاجر سري وفي حوزته العديد من القنينات المليئة بشراب مسكر محلي الصنع، كان يبيعها لمن يتصلون به مقابل ما بين 800 و1000 ريال للقنينة الواحدة، على أساس أنها خمور "جيدة، غير مخلوطة ولا تضر".
وفي كل مرة تكشف الهيئة عن مثل هذه العمليات، يبدأ نقاش بين السعوديين الذين ينقسمون بين مشككين لوجود مثل هذه الممارسات في المملكة، وبين من ينسبون كل هذه "الشرور والخبائث" إلى الأجانب الوافدين أو إلى الشيعة والليبراليين.
فأغلب السعوديين الذين سألهم موقع "راديو سوا" عبر مواقع التواصل الاجتماعية، تحاشوا الحديث عن الظاهرة باعتبارها هامشية، وأن أغلب الشباب السعودي "معتزين بدينهم وتقاليدهم التي تحرم عليهم مثل تلك الكبائر والعياذ بالله".
فقد قال عبد العزيز الجمايلي وهو شاب سعودي، إن الأجانب هم "زبناء تلك الصناعة السرية للخمور، إن وُجدت، هؤلاء هم من يصنع ويستهلك وهم من تحاربهم الهيئة لتنقية المجتمع من شرورهم". أما مصطفى، وهو شاب سعودي مقيم بالخارج، فقال "إن الأمر لا يعدو كونه ظاهرة هامشية وأن التركيز عليها إنما لإظهار عيوب المجتمع السعودي بشكل مجاني ومتحامل"، وأضاف أن "السعوديين السنة لا يقومون بمثل هذه الأعمال وإنما الليبراليون والشيعة هم سبب هذه المصائب".
مصنعون ومستهلكون من مختلف الجنسيات
رغم إنكار العديدين، فإن صناعة الخمور واستهلاكها بشكل سري وصلت إلى درجة كبيرة من الانتشار حسب عبد اللطيف آل الشيخ الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد اعترف أن ملف مصانع الخمور "خطير"، وأن معدلاتها في تزايد، وأن أكثر تلك المصانع تتواجد في ثلاث مدن كبرى هي: الرياض وجدة وأبها.
لكنه أشار في المقابل إلى أن الوافدين هم من يصنع تلك الخمور من "مواد خطيرة، وتقام مصانعها في المستنقعات والمجاري ووسط الأشجار". وأكد، في كلمة له في برنامج "صاحب القرار" الذي يبث على التلفزيون السعودي الرسمي، أن الهيئة قبضت خلال الشهرين الماضيين على 50 مُصنّعاً للخمور جنوب الرياض، ووجدوا في هذه الخمور مواد سامة وحشرات وجرذان مواد من مياه المجاري.
ويؤكد أقوال رئيس الهيئة ما نشرته جريدة "الرياض" التي ذكرت أن أحد التجار تجرأ على بيع الخمور بشكل علني على أحد أرصفة الشوارع بحي "العود" وسط الرياض، في زجاجات مياه معدنية.
وتضبط الدوريات الأمنية السعودية بشكل دوري بعض المنازل التي يتم تحويلها إلى أوكار لترويج الخمور، كما تعج المحاكم الشرعية ومراكز الشرطة ومراكز هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بآلاف القضايا المتعلقة بتهريب وصناعة وترويج وتعاطي الخمور.
هذا شريط فيديو لمصنع سري للخمور في السعودية:
ويظهر أحد مصنعي ومروجي الخمور على شريط رسمي خاص بالهيئة، وهو مطروح أرضا وأحد عناصر الأمن يكبل يديه ويسأله عن جنسيته وكيفية صناعته للمواد التي يبيعها، وعن زبنائه المعتادين، وغالبا ما يتم القبض فقط على أجانب، ممن يطلق عليهم الأمن السعودي لقب "المتخلفون".
وحول جنسيات العاملين في تجارة وصناعة الخمور في المملكة، قال أحمد بن محمد الجردان المتحدث الرسمي باسم الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تصريحات صحافية "إنه لا يوجد في السعودية صناعة خمور معلنة، فكل من يصنع الخمور في بلادنا يصنعها بسرية تامة في الخفاء".
وأضاف أن الجنسيات التي تعمل في هذه المصانع وتتاجر في الخمور هي جنسيات مختلفة، و "الفساد عموما لا يرتبط أبدا بجنسية معينة"، غير أن العمالة الوافدة تشكل غالبية من يمارسون تجارة وصناعة الخمور، وخصوصا "العمالة المتخلفة والسائبة التي لا تجد متابعة من الكفلاء"، على حد قوله.
"صديقي" أو الخمر السعودي المحلي الصنع
يطلق السعوديون الكثير من الأسماء على خمورهم التي تتم صناعتها وتداولها بشكل سري، فالاسم الوصفي أو الرسمي هو "العرق السعودي"، إلا أن اللقب المتداول والأكثر شعبية حسب ما يتداوله الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي هو "صديقي"، وإلى جانب هذا اللقب هناك أسماء أخرى مثل "الماء الحار" و"سائل البهجة" و"عرق أرامكو".
وفي أغلب الأحيان هناك رموز أخرى تكون خاصة بين البائع والمستهلك حتى يتم "تشفير" عملية البيع والشراء بأكبر قدر من السرية والابتعاد عن الأسماء المتداولة التي يستطيع رجال الهيئة التقاطها بسهولة من الاتصالات الهاتفية.
وعلى موقع إجابات "غوغل" يطرح السعوديون سؤال: هل يمكن للشخص عمل خمر في المنزل وكيف؟
وقد تنوعت الإجابات، لكنها في المجمل تبدو متحمسة وفيها وصفات غريبة. وجاءت أفضل إجابة حسب المستعملين من شخص يطلق على نفسه "أرض العرب"، إذ نصح السائل بنقع العنب في الماء وتركه لمدة يوم ثم شربه، وأضاف أن هناك مسألة أخرى وهي التي يقوم بها مصنعو الخمور السرية وتتمثل في التقطير، إلا أنه نصح بعدم القيام بها في البيوت لأنها تخلف روائح كريهة وأن المكان المناسب لها هي المزارع.
وهذه الطريقة هي التي يتبعها مصنعو الخمور السريون في المملكة، إذ يقومون بوضع مياه المجاري في براميل كبيرة ومعها بعض الخمائر والمواد الغذائية لمدة ثلاثة أيام في المزارع والأراضي الخلاء، ثم يقومون بعد ذلك بتصفيتها وخلطها مع الينسوم من أجل تطييب الرائحة، ثم تباع للمستهلكين. هذه الخمور حسب تقارير طبية ممكن أن تصل درجة تركيز الكحول فيها إلى 85 درجة مئوية، وهي درجة فوق احتمال الجسد البشري.
مؤامرة خارجية أم "انغلاق وتزمت"؟
ودفعت المعطيات السابقة الذكر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية إلى تكثيف حملاتها من أجل ضبط وتوقيف الصانعين والمستهلكين على حد سواء، ويعد هذا من صميم عملها، وفقا لنظامها، كما يشرح أحمد بن محمد الجردان المتحدث الرسمي باسم الرئاسة العامة للهيئة.
وعن حجم وقيمة الممنوعات التي ضبطتها الهيئة، قال لـ"الأسواق. نت"، إنه لا يستطيع تحديد حجم هذه المضبوطات، غير أنه اعترف أن "صناعة وترويج الخمور هي نشاط ملحوظ وملموس لدى الجميع"، وهذا النشاط يأتي ضمن وسائل استهداف المملكة في "عقول أبنائها وقدراتهم".
هذه "المؤامرة" التي يتحدث عنها المسؤول السعودي يعتبرها العديد من الشباب السعودي، في مناقشاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، مجرد شجرة تخفي غابة المشاكل التي يعاني منها المجتمع السعودي والتي سببها أساسا "الانغلاق والتزمت"، حسبما يقولون.
ويشرح هذا الأمر حمزة القزاز، الباحث والكاتب السعودي المقيم في جدة، إذ يعتبر أن المملكة هي الدولة العربية الوحيدة التي أنشأت شرطة دينية، وعلى مدى عشرات السنين، طبقت التعاليم الدينية التي صاغتها المؤسسات الدينية الرسمية على حياة المجتمع السعودي، وأصبحت جزءا من عاداته وتقاليده وقيمه وثقافته السائدة، ويعاد إنتاجها من خلال نظام تعليمي وثقافي وإعلامي صارم، ومطبق من خلال نظام إداري وقانوني حازم، والهدف النهائي منه هو الالتزام القسري بالدين السائد".
ويضيف الباحث أن هذا الالتزام بقي ظاهريا ونسبيا فقط وعلى مدى أكثر من نصف قرن من تطبيق منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي، لأن النتائج والمخرجات على الأرض "تبدو متناقضة مع أهدافها الموضوعة، فلم يصبح المجتمع مجتمعا دينيا ملتزما بتعاليمه وقوانينه إلا في إطار نسبي، ولم يحقق أي تنمية فعلية يعتد بها، وكل ذلك بسبب عدم القدرة على تنمية المجتمع بما يتلاءم مع المتطلبات الحقيقية والواقعية بدل التركيز على مفاهيم أخلاقية مثل العفة والفضيلة والقيم الدينية".
ويتفق الكثير من الشباب السعودي مع رأي القزاز، إذ يطالب سعد عبد المحسن، في تعليق له على انتشار الخمور في المجتمع السعودي، بالسماح بترويجها صراحة في السعودية، وقال إنه ما دامت موجودة وتـُستهلك فمن الأفضل تقنينها وفق شروط صحية صارمة مما سيحمي المستهلكين السعوديين من المواد السامة التي يشربونها اليوم متوهمين أنها خمور.