قبل يومين، سمعت خبرا، بدا عاديا، مفاده أن "أكاديمية الملك عبد الله" قرب واشنطن تعتزم غلق أبوابها قريبا.
"الخبر العادي" الذي لم ينل اهتماما إعلاميا في غمرة ما يعيشه العالم من أحداث متسارعة، كان بالغ الأهمية لآلاف المسلمين القاطنين في محيط العاصمة الأميركية.
قررت زيارة المدرسة.
وصباح الأربعاء، 5 فبراير، اتجهت نحو منطقة "هيرندون" في ولاية فيرجنيا، ضمن ما يُسمى "منطقة واشنطن الكبرى"، على بعد نحو 30 ميلا من العاصمة وقرابة 6 أميال من مطارها الدولي.
الساعة السابعة والنصف صباحا. تقول توقعات الطقس إن نصيب المدينة من الدفء طيلة اليوم لن يتعدى 3 درجات مئوية.
في الطريق إلى المدرسة المعروفة اختصار بـ"KAA"، لا شيء يوحي بأنك على مقربة من واحدة من "أحسن المدارس الإسلامية" في أكثر عواصم الأرض تأثيرا على المسرح الدولي، وفق وصف أعضاء في الجاليات العربية والمسلمة هنا.
"ابحثْ عن زوجة لمحمد".. مسلمو أميركا و"النصيب" على تطبيقات التعارف الحلال!
وصلت شقتها شمالي ولاية فيرجينا.
جاءها اتصال منه، يسألها: "ليش أنتي ساكنة لحالك وأنا لحالي؟"
ذكّرته بأن تعاليم الدين لا تسمح بـ”المساكنة” دون زواج.
لم تسمح لغضبها أن يغمرها.
التمست له العذر، فهو حديث العهد بالإسلام.
بناية بلون مائل إلى الصفرة، تمتد على مساحة تقدر بنحو 160 ألف متر مربع، يتوسطها ممر يقودك إلى موقف رحب للسيارات.
بقيت داخل سيارتي أراقب المكان عبر الزجاج. بعد لحظات بدأت سيارات فارهة وأخرى ذات قيمة متوسطة بالتوافد.
تقف السيارات أمام مدخل (درايف ثرو)؛ تحت سقفه يطبع الفتية والفتيات قبلات وداع مؤقت على وجنات آبائهم وأمهاتهم، ويتوارون داخل الأكاديمية على أمل اللقاء بعد ساعات.
هذا الوداع اليومي القصير، سيكون بعد نحو 5 أشهر وداعا نهائيا بين الطلاب وذويهم من جهة وهذه المؤسسة التربوية من جهة أخرى. إذ أعلنت الأكاديمية أنها ستغلق أبوابها مع حلول نهاية العام الدراسي الحالي.
لا شيء يُهوّن برودة الطقس أكثر من أكواب القهوة، يتصاعد منها البخار بين أيدي الرجال والنساء الذين يسيرون أمام عيني في موقف السيارات، بينما تعيد الحيرة الممزوجة بالاستياء ترتيب ملامحهم.
"الأكاديمية هي الخيار الأمثل لأبناء الجاليات العربية والمسلمة هنا، ففي صفوفها يتعلم الأبناء كل ما يُقدم في المدارس الحكومية، أضف إليه اللغة العربية والتربية الإسلامية والرياضات"، تقول المصرية رفيدة الصفتي، أم طالبة في الأكاديمية.
شاحنات الطعام في واشنطن.. أحلام عربية على عجلات!
كانت الريح تخترق معطفي الأسود الثقيل، وبرد يناير يلسع جيوبي الأنفية، حين شدتني رائحة شواء تفوح من بعيد.
الأكاديمية
تأسست أكاديمية الملك عبد الله عام 2016، لتتحول منذ ذلك الحين إلى واحدة من أفضل المدارس الإسلامية في محيط العاصمة الأميركية.
"ليست متشددة حد الانغلاق وليست منحلة بدرجة الإسفاف"، تقول السيدة رفيدة التي تدرس ابنتها في الصف السادس.
تستقبل الأكاديمية طلابا من مرحلة رياض الأطفال وصولا إلى الصف الثاني عشر.
وجاء في موقعها على الإنترنت أنها تمكّن الطلاب من التفوق أكاديميا مع الحفاظ على قيم الإسلام وإتقان اللغة العربية.
ليس المناهج وحدها ما شجع الآباء والأمهات على تسجيل أبنائهم في الأكاديمية، إذ تتوفر على مرافق لا مثيل لها حتى في كليات عريقة داخل الولايات المتحدة الأميركية، يقول ذوو طلبة يدرسون فيها.
تمتد الأكاديمية على مساحة تقدر بنحو 40 فدانا، تضم ثلاث قاعات لكرة السلة والكرة الطائرة وملاعب كرة قدم ومضمار ألعاب قوى ومسبح داخلي بثمانية مسارات ووحدة لرفع الأثقال واللياقة البدنية ومسرح حديث وفضاء لفنون الأداء ومكتبة وغرف دراسية وقاعة طعام ومختبرات ومرافق للفنون الجميلة.
وينشط في الأكاديمية 15 فريقا تتنافس في رياضات مختلفة، وتحرص المؤسسة التعليمية على نشر أخبارها باستمرار على صفحات التواصل الاجتماعي.
ارتفاع رسوم دخول بالأكاديمية لم يقلل من زخم الإقبال للدراسة فيها، وهو ما يفسر وجود قائمات انتظار طويلة للراغبين في التسجيل.
وتمنح الأكاديمية أبناء الجالية السعودية المقيمة في الولايات المتحدة حق الدراسة مجانا، فيما تقدر رسوم الدراسة بالنسبة إلى أبناء غير السعوديين بنحو 11 ألف دولار سنويا مع منح تخفيضات لأبناء العاملين في المؤسسة، وفق شهادات حصل عليها موقع "الحرة".
وفي الوقت الحالي، تشير إحصائيات الأكاديمية إلى أنها تستقبل طلابا من 60 جنسية يتكلمون 14 لغة، فيما يقدر معدل التخرج في المؤسسة بـ100 بالمئة.
من يدفع كلفتها؟.. سألنا خبيرا اقتصاديا عن الرسوم الجمركية
تثير حرب التعريفات الجمركية المخاوف من إصابة الاقتصاد الأميركي بمتلازمة "التضخم"، مع انعكاس أي زيادة في التكاليف على المستهلك في الولايات المتحدة بالنهاية.
"نهاية حزينة"
"بحزنٍ بالغ، تعلن أكاديمية الملك عبد الله أنها ستغلق أبوابها عند انتهاء العام الدراسي 2024-2025".
خبر صاعق تلقاه أولياء أمور الطلبة، في رسالة، مساء يوم الخميس 30 يناير.
تذكر الرسالة أن قرار الإغلاق لم يُتخذ "باستخفاف، فقد جاء بعد تقييم مالي شامل أثبت أن الأكاديمية تفي بمهمتها، لكنها تفتقر إلى مسار مالي قابل للاستدامة".
"أعلم أن هذا الإعلان سيسبب خيبة أمل للكثيرين ممن اعتبروا الأكاديمية وطنًا واستفادوا من الفرص التعليمية الفريدة التي قدمناها"، قالت المديرة العامة للأكاديمية، سلوى لنجاوي في الرسالة.
وأضافت "رغم نجاح المدرسة، لم نتمكن من ضمان استدامتها المالية، لذا يجب علينا جميعًا الانتقال إلى مرحلة جديدة. لكننا ملتزمون بمساعدة جميع أفراد هذا المجتمع على التأقلم مع التغييرات اللازمة وتقليل تأثيرها على حياتهم".
وتابعت الرسالة "يجري تنفيذ خطط شاملة لمساعدة الطلاب في الانتقال إلى مؤسسات أخرى، ودعم أعضاء هيئة التدريس والموظفين في خطواتهم القادمة، والحفاظ على الروابط التي أنشأتها الأكاديمية مع شبكة الخريجين النابضة بالحياة".
من يحكم سوريا.. الشرع أم الجولاني؟
لم يكن مشهد مديرة مدرسة عمر بن الخطاب وهي تعبر بارتباك عن فرحتها بضيفها قائد معركة "ردع العدوان" أحمد الشرع -المعروف سابقاً بأبي محمد الجولاني- أمراً عادياً. فبعد أن أصرّت عليه أن يأخذ ما تبقى من حلوى "الملبس" الشهيرة والتي تُوزَّع في احتفالات المولد النبوي الشريف في دمشق، طلب منها التقاط صورة تذكارية خرجت للعلن في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2024 لتثير موجة عارمة في الشارع السوري.
هواجس العائلات
لم يقتصر تأثير النبأ الصاعق على أولياء الأمر، بل أصاب الأطفال أنفسهم باليأس.
"صدمنا القرار؛ وأبنائي في حالة حزن مستمرة منذ إعلان الخبر رغم محاولتنا التخفيف عليهم، ففراق أصدقاء رافقوهم لسنوات في الأكاديمية ليس أمرا هينا"، يقول ياسر أبو هلال، أحد أولياء طلبة الأكاديمية.
بدأ أبو هلال القادم من سوريا، وهو أب لطفلين في الأكاديمية، رحلة البحث عن بديل لتدريس أطفاله.
يقول في حديث مع "الحرة" إنه يدرك صعوبة العثور على مؤسسة بالمواصفات ذاتها.
ومع تبقي أشهر قليلة على إغلاق الأكاديمية، يأمل أبو هلال أن "يتراجع السعوديون عن قرارهم"، مشيرا إلى "أحاديث عن وجود مستثمرين جدد عبروا عن نيتهم شراء المؤسسة".
ورغم توضيح الأكاديمية أن "أسبابا مالية تقف وراء قرار غلقها"، لا يستبعد أبو هلال وجود "أسباب سياسية".
ولم ترد إدارة الأكاديمية، ولا السفارة السعودية في واشنطن، على اتصالات موقع "الحرة" واستفساراته عبر البريد الإلكتروني بشأن الموضوع.
لكنّ مصدرا من داخل السفارة، "غير مخول بالتصريح لوسائل الإعلام"، قال لموقع "الحرة" إن "الأكاديمية ستغلق أبوابها، ويبدو أن السبب مالي".
هذه ليست المرة الأولى التي تقرر فيها المملكة غلق مؤسسات تعليمية تابعة لها في الخارج.
في العام 2023 أغلقت "أكاديمية الملك فهد" بلندن بعد نحو 38 عاما من العمل، في إجراء صدم الجاليات المسلمة في إنكلترا.
ويشكك شريف مصطفى، وهو مصري وأب لإحدى طالبات الأكاديمية في "السبب المالي".
يقول لموقع "الحرة" إن "المؤسسة تتلقى رسوما بنحو 11 ألف دولار سنويا عن الطالب الواحد، فكيف تواجه أزمة مالية؟".
ويعزو مصطفى حالة الاستياء التي خلفها قرار غلق الأكاديمية إلى "غياب أي بديل حقيقي لأبناء الجاليات المسلمة في المنطقة. فأكاديمية الملك عبد الله هي المؤسسة الوحيدة التي يمكن اعتبارها مدرسة إسلامية هنا"، يضيف.
ماذا عن الكادر التدريسي؟
تمتد حالة الإحباط إلى الأساتذة والإداريين والعاملين في أكاديمية الملك عبدالله.
يقول أحد الأساتذة، طلب عدم الكشف عن هويته، إن البعض بدا غاضبا من قرار الغلق، "بينما انهار آخرون بالبكاء".
ورغم وجود أحاديث عن تعويضات مالية ستقدمها المؤسسة للمدرسين مع بدء سريان قرار الغلق، يؤكد محدثنا أن "عددا من المدرسين بات يشعر بحالة من عدم اليقين بشأن مستقبلهم المهني، وبدأ بعضهم فورا في البحث عن وظائف جديدة، فيما لا يزال آخرون غير مصدقين".
ويحذر في تصريح لموقع "الحرة" من أن "قرار الغلق سيلقي بظلاله على الوضع النفسي للطلاب كما سيؤثر على تكوينهم الأكاديمي.
"هذه المدرسة،" يقول، "تتبع نظام البكالوريا الدولية، ولكي يتمكن الطلاب من التخرج بشهادة البكالوريا الدولية، يجب عليهم الانتقال إلى مدرسة أخرى تقدم هذا البرنامج، وهي قليلة في المنطقة".
ورغم ذلك، يشير إلى وجود نقاشات بين أولياء الأمور حول إمكانية استمرار المؤسسة بقيادة مستثمرين جدد.
ويرى أنه لو اجتمع عدد كاف من المستثمرين، يمكن إنشاء مدرسة جديدة، وستحظى الفكرة بدعم كثير من المعلمين والطلاب.
عريضة من أولياء الأمور
ووقع 2050 شخصا، حتى الخميس، عريضة على الإنترنت تناشد السلطات السعودية مراجعة قرار إغلاق أكاديمية الملك عبدالله.
"نحث مجلس أكاديمية الملك عبد الله على إعادة النظر في هذا القرار والنظر في التأثيرات طويلة المدى على الطلاب والعائلات والمجتمع".
وتشير العريضة إلى وجود "بدائل للإغلاق يمكن أن تعالج المخاوف المالية دون التضحية بجودة التعليم أو مستقبل الأطفال في المجتمع".
واعتبر الموقعون أن أكاديمية الملك عبد الله تُعد "الخيار الوحيد الذي يسمح لأطفالهم بالحصول على تعليم عالي الجودة مع الحفاظ على ارتباطهم العميق بالتراث الثقافي".
ولم ترد الأكاديمية بعد على هذه المطالب، لكنها أجرت في المقابل لقاءات مع أولياء الأمور سلطت الضوء على قرار الإغلاق وأسبابه.