تعتبر "رؤية السعودية 2030" اليوم، واحدة من أكثر الخطط التنموية الطموحة والشاملة التي يشهدها العالم في القرن الحالي، لما تتضمنه من مشاريع ذات تأثير واسع، تشكل جزءا من مستقبل العالم الحديث ومعلما من معالم تشكّله، فيما لو تحققت، خاصة مع ما تقدمه من نماذج اقتصادية واجتماعية وثقافية وتكنولوجية وبيئية، من شأنها أن تؤسس لمعايير عالمية جديدة ومستدامة للرفاهية وأسلوب العيش وجودة حياة السكان.
هذه الرؤية وضعت البلاد المعتمدة تاريخيا على ثرواتها النفطية الضخمة، أمام تحديات مرحلة انتقالية غير مسبوقة، تتخلى فيها عن كل ما سبق واعتادت عليه من أسلوب حياة ومفاهيم ثقافية واجتماعية واقتصادية، فضلا عن الأداء الحكومي، تحضيرا لمرحلة الاستغناء عن النفط كمورد رئيسي للإيرادات ومصدر أول للطاقة، وكهوية اقتصادية للسعودية، حتى باتت إحدى مسميات الرؤية المستخدمة "خطة ما بعد النفط"، في تجل واضح لأهدافها.
لكن في المقابل، جعلت هذه الرؤية من السعودية محط أنظار العالم، ووضعتها تحت مجهر المراقبة والنقد، لاسيما مع تاريخها السابق المثير للجدل، لناحية احترام حقوق الإنسان والانفتاح الثقافي وحرية التعبير والفساد الإداري والهدر المالي في المشاريع، فضلا عن الطموح الكبير الذي تحمله الرؤية ويجده المراقبون "مبالغ فيه"، وتتحدث تقارير فنية عن "استحالة تحقيقه" بالظروف القائمة.
الخطة التحولية التي انطلقت مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز للحكم ووصول نجله محمد بن سلمان إلى ولاية العهد وتسلمه السلطة التنفيذية، والتي أُطلقت في 25 أبريل 2016، تهدف بشكل رئيسي للوصول إلى 3 عناوين عريضة تشكل ركائز الرؤية وهي: "اقتصاد مزدهر، مجتمع حيوي، ودولة طموحة".
عبر هذه الركائز تسعى السعودية وفق ما تعلن لـ"تعزيز نقاط قوتها"، عبر الاستفادة من موقعها الجغرافي "الإستراتيجي"، و"قوتها الاستثمارية"، ومركزها وحضورها بين الدول العربية والإسلامية، فضلا عن مواردها الغنية والمتنوعة، حسب تعريف موقعها.
لكن "نقاط القوة" هذه، هي نفسها التي تحمل للسعودية التحديات التي تواجه رؤيتها، وقد تتحول في أي حظة لنقاط ضعف تطيح بالرؤية وطموحاتها، إن من الناحية الجيوسياسية وما تمثله السعودية في محيطها وتأثرها به، أو من الناحية الاقتصادية ومدى قدرتها على تحقيق الأهداف وجذب الاستثمارات التي تعتمد عليها لتمويل رؤيتها، كذلك بالنسبة لسياساتها الداخلية وتجاوب المجتمع السعودي ومدى القدرة على تلبية طموحاته.
ماذا تحقق حتى الآن؟
وبدأت السعودية بتنفيذ إصلاحات جوهرية وعميقة انطلاقا من هويتها الثقافية والاجتماعية، وانتقلت للاقتصاد، والسياسة والتعليم.
إصلاحات شملت القطاع العام والأعمال الحكومية، وخلقت فرصا استثمارية جديدة، وزادت من حضورها ومشاركتها العالمية، كما رفعت نسبيا من جودة حياة سكانها، وعملت على ادراج إصلاحات قانونية وثقافية تعزز من حضور جميع الفئات الاجتماعية في الحياة العامة ولاسيما النساء والفئات الشابة.
على الصعيد الاجتماعي، سجلت المملكة تحسنا لناحية مستوى المعيشة وتوفير الخدمات الأساسية، شملت تطويرا كبيرا في البنية التحتية وتوفير فرص ترفيهية أوسع وأكثر شمولا.
وبدأت نتائج تعزيز مشاركة المرأة في جميع المجالات بالانعكاس على حضورها في أسواق العمل والحياة العامة، على الرغم من الانتقادات الحقوقية الواسعة للسعودية بسبب اعتقالها للناشطات وتقييدها لحرية التعبير عبر وسائل التواصل.
ووسعت المملكة استثماراتها الترفيهية واتاحتها بصورة أوسع أمام الجمهور وزوار المملكة، لتشمل قطاعات مختلفة، مثل الرياضة والفنون والمواقع الطبيعية والأثرية والتراثية، فضلا عن السينما والمسرح والموسيقى والتكنولوجيا، الأمر الذي بات ينعكس تغييرات جوهرية في الثقافة الاجتماعية.
كذلك، قطعت المملكة شوطا طويلا في تحقيق هدفها بتعزيز التسامح والقبول بين مختلف فئات المجتمع، وكان آخر تحديث مرصود للمناهج التربوية في السعودية دليلا ملموسا على حجم التقدم المحقق.
ويعتبر الجانب الثقافي من أنشط الجوانب التي تشهد بدورها تطورا وتغييرات، حيث تبذل السعودية جهودا كبيرة في دعم الحركة الثقافية وتشجيع الإبداع، وذلك في سياق هدف إتاحة الفرص للجميع في المشاركة بالفعاليات الثقافية
وبكونها رؤية واسعة وشاملة، قد يكون من الصعب إحصاء المشاريع المنفصلة في إطارها، نظرا لعددها الكبير وتشعبها وامتدادها على كافة المجالات والقطاعات في المملكة.
إلا أن التقرير السنوي 2023 الذي يعده المشرفون على الرؤية، يظهر أن 87 في المئة من المبادرات البالغة 1,064 للعام 2023، "مكتملة أو تسير على المسار الصحيح"، في حين قدرت مؤشرات الأداء الرئيسة لعام 2023 بـ 243 مؤشرا، حقق 81- في المئة من مؤشرات الأداء للمستوى الثالث مستهدفاتها، إذ تحقق 197 مؤشرا بشكل كامل، منها 21 مؤشرا حقق مستهدفه، بينما 176 مؤشرا تخطى مستهدفه فيما تخطت 105 مؤشرات مستهدفاتها المستقبلية لعامي 2024/ 2025، حسب التقرير.
ويرصد موقع رؤية 2030، مسار تقدم أبرز المؤشرات المعتمدة، والمقسمة على ركائز الرؤية الـ 3 (اقتصاد مزدهر، مجتمع حيوي، دولة طموحة).
مجتمع حيوي
وتظهر النتائج الرسمية تحقيق السعودية للعديد من أهدافها في سياق سعيها للارتقاء بجودة الحياة، حيث ارتفع معدل متوسط العمر المتوقع إلى 78.10 سنة، وتخطت نسبة التجمعات السكانية المغطاة بالخدمات الصحية مستهدف عام 2023 بنسبة 96.41 في المئة، وحقق قطاع الإسكان العديد من الأرقام الرامية إلى تعزيز توافر الخيارات السكنية لمختلف فئات المجتمع، وبلغت نسبة تملك المواطنين مساكنهم 63.74 في المئة.
وارتفعت كذلك نسبة الأشخاص البالغين الذين يمارسون النشاط البدني وباتت تقدر بـ 62.3 في المئة.
وسجَّلت السعودية زيادة تاريخية في أعداد المعتمرين من الخارج، وفي مجال السياحة أصبحت السعودية في المركز الثاني بنسبة نمو السياح الدوليين.
وبلغ عدد المواقع التراثية السعودية المدرجة لدى اليونسكو 7 مواقع، مما يجعل السعودية على بعد موقع واحد من تحقيق هدف رؤية 2030 البالغ 8 مواقع.
وطن طموح
وتسعى السعودية لتحقيق مفهوم الدولة الطموحة، عبر بناء "حكومة فعالة وذات كفاءة عالية"، وتعزيز سيادة القانون ومكافحة الفساد، إلى جانب ترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة.
وتقدم مؤشر الفاعلية الحكومية ليصل إلى 70.8 درجة للعام 2023.
وتقدمت السعودية إلى المرتبة الـ 31 على مؤشر الأمم المتحدة لتطوير الحكومة الإلكترونية، بينما تهدف لتكون في المرتبة الخامسة عام 2030.
ونجحت الرؤية في تحقيق تقدم كبير في هدف زيادة أعداد المتطوعين، حيث بلغ عدد المتطوعين 834 ألفا، وأسهم القطاع غير الربحي في الناتج المحلي الإجمالي بما نسبته 0.87 في المئة فيما لا يزال بعيدا عن مستهدف الرؤية البالغ 5 في المئة.
وفي القطاع اللوجستي، حققت السعودية المركز الـ 17 في المؤشر اللوجستي الصادر عن البنك الدولي، والثامن في تصنيف (LLOYD'S) العالمي، كما حققت تقدما في مؤشر الربط الجوي الدولي، لتحتل المركز الـ 13، وفازت المملكة بعضوية مجلس المنظمة البحرية الدولية "IMO" للفترة 2024- 2025.
يذكر أن السعودية فازت أيضا باستضافة معرض إكسبو 2030 بمدينة الرياض، بعد أن تم اختيارها في منافسة مع مدينتي بوسان في كوريا الجنوبية، وروما في إيطاليا، إذ حصلت المملكة على 119 صوتا يمثل الأغلبية.
كذلك نجحت في مسعاها لاستضافة كأس العالم بنسخة عام 2034، على الرغم من التحذيرات والانتقادات الواسعة لهذه الاستضافة، والتشكيك في قدرة المملكة على استضافة الحدث العالمي وتلبية متطلباته.
اقتصاد مزدهر
اقتصاديا، تهدف السعودية لأن تكون مركزا علميا رائدا، من خلال تنويع الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة، تعزيز الاستثمار وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، إضافة إلى تطوير البنية التحتية وتعزيز الابتكار، بحسب ما تعلن.
وفي هذا السياق احتلت المركز الـ 17 عالميا بين 64 دولة الأكثر تنافسية، والمركز الـ 3 بين دول مجموعة العشرين والثالث أيضا من حيث الأداء العام، والـ 5 عالميا في مؤشر السوق المالية، والمركز الـ 6 في محور الأداء الاقتصادي، والمركز الـ 11 عالميا في محور كفاءة الحكومة، والمركز الـ 13 عالميا في كفاءة الأعمال، والمركز الـ 34 عالميا في البنية التحتية.
وتمكَّنت السعودية من تسجيل معدلات تضخم ضمن الأدنى بين اقتصادات دول مجموعة العشرين، حيث بلغ في الربع الرابع من 2023، 1.6 في المئة، مقارنة بـ 3.1 في المئة في نفس الربع لعام 2022.
وبحسب نتائج المؤشرات، بلغ معدل البطالة بين السعوديين 7.7 في المئة. وبلغت نسبة الملتحقين بسوق العمل من خريجي الجامعات خلال 6 أشهر من تاريخ التخرج 41.2 في المئة، مقارنة بخط الأساس البالغ 13.3 في المئة.
من جهة أخرى وصل إجمالي الأصول المدارة من قبل صندوق الاستثمارات العامة إلى 2.81 تريليون ريال سعودي، فيما يُقدر مستهدف الرؤية بـ10 تريليونات ريال سعودي عام 2030. كما تم تأسيس 93 شركة في محفظة صندوق الاستثمارات العامة في عام 2023، ووفَّر الصندوق 644 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة.
وشهدت الصناعات العسكرية توطين ما نسبته 10.4 في المئة، فيما يبلغ مستهدف الرؤية 50 في المئة. وتوسعت أعمال توطين الوظائف لتشمل 14 مهنة وُطنت في القطاع اللوجستي، وسجلت مهن الاتصالات وتقنية المعلومات توطينا بنسبة بلغت 65 في المئة.
وبات سوق الاتصالات والتقنية السعودي الأكبر والأسرع نموا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنمو بلغ 10 في المئة، في حين ارتفعت مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى 3.8 في المئة.
كما سجلت السعودية أعلى مستوى تاريخي لمساهمة الأنشطة غير النفطية بنسبة 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لعام 2023، وبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي للأنشطة غير النفطية 4.7 في المئة خلال العام 2023.
وبحسب التقرير اسهمت الإيرادات الحكومية غير النفطية بتغطية 35 في المئة من إجمالي مصروفات الميزانية للعام 2023، المقدرة بـ 1,293 مليار ريال سعودي.
وبلغت مساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي 45 في المئة، وأعلنت السعودية عن تطوير 50 فرصة استثمارية صناعية بقيمة تجاوزت 96 مليار ريال سعودي. وبلغت نسبة الاستثمارات الأجنبية والمشتركة في قطاع الصناعة 37 في المئة من إجمالي استثمارات القطاع، كما نقلت أكثر من 200 شركة عالمية، مقارها الإقليمية إلى العاصمة الرياض.
لم يتحقق
ولكن في المقابل، كان هناك مؤشرات معظمها اقتصادية، لم تحقق الأرقام المتوقعة لها لعام 2023، على الرغم من أنها سجلت تقدما، وبعضها لامس التوقعات دون أن يبلغها.
ورغم اهتمام السعودية ورؤيتها الجديدة بواقع المرأة وانخراطها في الحياة العامة وسوق العمل، وتشجيعها على ممارسة دورها التنموي، بقيت نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل أقل بـ 1.5في المئة من المتوقع، حيث بلغت 34 في المئة.
ولا يزال التصنيف العالمي من حيث الناتج المحلي الإجمالي للسعودية الذي بلغت قيمته 2,959 مليار ريال سعودي، بعيداً عن مستهدف الرؤية لعام 2030 البالغ 6,500 مليارات ريال سعودي.
كذلك بالنسبة إلى قيمة الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي الذي ارتفع إلى 1,889 مليار ريال سعودي، دون أن يحقق الرقم المستهدف لعام 2023 وهو 1,934 مليار ولا يزال بعيدا عن هدف الرؤية بالوصول إلى 4,970 مليارا عام 2030.
الأمر ذاته ينطبق على حصة المحتوى المحلي من نفقات القطاعات غير النفطية، والتي بلغت 56.8 في المئة بينما تهدف الرؤية للوصول إلى 75 في المئة.
وبلغت حصة الصادرات غير النفطية من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي 24.1 في المئة، بفارق واسع عن النسبة المستهدفة عام 2023 (36 في المئة)، ومستهدف الرؤية (50 في المئة).
وبقيت قروض المنشآت الصغيرة والمتوسطة كنسبة مئوية من قروض البنوك، أقل من المتوقع لعام 2023، حيث سجلت 8.3 في المئة، بينما مستهدف الرؤية 20 في المئة.
بيئة مستدامة
وتركز السعودية عبر تصريحات مسؤوليها وعرضها لخططها على عنصر الاستدامة فيما يتعلق بمشاريعها، لاسيما في المجال البيئي وقضايا التغير المناخي ومستقبل الطاقة في البلاد.
وعبر مبادرة "السعودية الخضراء"، حققت المملكة تقدما ملموسا في مشاريعها البيئية المستدامة، حيث نجحت في زراعة أكثر من 49 مليون شجرة في مناطق مختلفة، وأكثر من 3 ملايين شتلة برية، وأُهّلت أكثر من 975 هكتارا من المدرجات الزراعية في الجنوب الغربي للبلاد، مُجهزة بتقنيات حصاد مياه الأمطار.
كما سجل مؤشر مساحة الغطاء النباتي المعاد تأهيله 192.4 ألف هكتار، متخطيا هدف عام 2023 البالغ 69 ألف هكتار، كما أُعيد توطين 1,660 حيوانا مُهددا بالانقراض، فيما بات 18.1 في المئة من المناطق البرية محميات طبيعية، و6.49 في المئة من المناطق البحرية أصبحت محميات طبيعية.
وفي سياق التزامها المساهمة في الحد من الانبعاثات الكربونية، بدأت السعودية بتصدير كميات تجارية من الأمونيا النظيفة للعديد من الدول لتوليد الطاقة. كما وقعت اتفاقيات أولية وشراكات لتطوير الهيدروجين الأخضر، وتتطلع بحلول عام 2030 إلى أن تكون أكبر مزود للهيدروجين في العالم.
كذلك تم ربط 2,800 غيغاوات من الطاقة المتجددة بشبكة الكهرباء الوطنية تكفي لتزويد 520 ألف منزل بالكهرباء.
وتسعى السعودية وفق الرؤية لإنشاء 28 مشروعا لمحطات تحلية مياه البحر، بحيث يتخطى مجموع المحطات الـ 60 على امتداد المملكة، لضمان الأمن المائي في البلاد.
فيما تواجه هذه المشاريع بعض التحديات مثل ارتفاع تكلفة التشييد والتشغيل، والتأثير البيئي لها، فضلا عن معضلة الاستغناء عن النفط في تشغيلها، حيث تطمح المملكة مستقبلا لتكون هذه المشاريع مشغلة بالطاقة النظيفة على غرار الطاقة النووية التي تسعى لامتلاك برنامج لها.
كذلك تعمل المملكة على رفع انتاجها من الطاقة الشمسية عبر "مشروع خطة الطاقة الشمسية 2030"، حيث تسعى لإقامة العديد من المشاريع في هذا السياق، تهدف من خلالها لزيادة انتاجها للطاقة الشمسية إلى 200 غيغاوات عام 2030، ما من شأنه أن ينقل السعودية من دولة متقدمة في تصدير النفط إلى دولة لتصدير الطاقة المستدامة، إذا ما نجحت في ذلك.
وتقيم السعودية أيضا مشاريع مشابهة للاستفادة من طاقة الرياح ورمال الصحراء في انتاج الطاقة النظيفة والمستدامة من خلال المقومات الطبيعية المتوفرة في المملكة، وذلك في سبيل الهدف الأكبر المتمثل بالتخلي عن النفط.
هل تستطيع التخلي عن النفط؟
إلا أن هذه المشاريع من شأنها أن تواجه تحديات عدة مثل ارتفاع تكلفة التكنولوجيا والتشييد، فضلا عن تقلبات أسعار الطاقة عالميا التي تنعكس بشكل مباشر على السعودية المعتمدة حتى الآن بشكل أساسي على مردود النفط لتمويل مشاريع الرؤية.
وبحسب الباحث الاقتصادي والمتخصص في شؤون النفط والطاقة، عامر شوبكي، فإن السعودية ما زالت تعتمد بشكل كبير على النفط، مشيرا إلى أن قدرتها على التخلي عنه ما زالت تحتاج إلى وقت طويل "قد يمتد إلى أكثر من 10 سنوات قادمة".
ويربط شوبكي بين العجوزات المالية في الموازنة السعودية، والتي بلغت في الربع الأول من عام 2024، 3.3 مليار دولار، وهو الربع السادس على التوالي من العجز في الموازنة السعودية، وبين أسعار النفط العالمية، خاصة بعد التخفيضات الطوعية التي قامت بها السعودية في الإنتاج النفطي، بسبب حاجة السعودية لسعر تعادل أعلى من السعر الحالي.
وقدر صندوق النقد الدولي مؤخرا أن السعر التعادلي المالي للموازنة السعودية يبلغ 96 دولار للبرميل بينما كان 86 دولارا مثلا في عام 2023، "أي أن السعودية ستبقى تعاني من العجوزات المالية مادام سعر النفط أقل من 96 دولارا للبرميل"، بحسب شوبكي.
ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن الاقتصاد السعودي ورغم خفض اعتماده على النفط، "إلا أن النفط لا يزال مصدرا رئيسيا لإيرادات الموازنة"، وهو ما قد يشكل ضغطا على إتمام خطط ومشاريع رؤية 2030."
في المقابل يلفت شوبكي إلى أن السعودية أطلقت بالفعل استثمارات ضخمة بقيمة 186 مليار دولار، لتنفيذ 77 مبادرة طموحة للعمل على تقليل الانبعاثات الكربونية وزيادة قدرات الطاقة المتجددة، "وبالتالي تحقق بالفعل التنويع الذي تهدف إليه في مجال الطاقة والإيرادات المحصلة عبرها."
كذلك يذكّر المتخصص في شؤون الطاقة والنفط أن الخطة السعودية لتوليد 50 في المئة من الطاقة الكهربائية من المصادر المتجددة في غضون 2030، سينعكس إيجابا على البيئة، وسيوفر الكثير من البتروكيماويات التي كانت تستهلك لتوليد الكهرباء، ليتم تصديرها والاستفادة من عائداتها، بينما كلفة انتاج الكهرباء ستكون أقل بكثير من كلفة البتروكيماويات.
أين المدن؟
إلا أن كل ما حققته السعودية حتى اليوم، وعلى بعد 6 سنوات من الموعد المحدد لتنفيذ الرؤية، لا يزال بنظر العديد من المراقبين، فاقدا للبريق الذي عكسه زجاج المدن الضخمة، حين وعدت الفيديوهات الترويجية للرؤية عند إطلاقها بتجارب معيشية "غير معهودة" في العالم، وتجارب عمرانية "فريدة"، ومنظومات طاقة عملاقة "مستدامة ومتنوعة"، تطوّع الطبيعة وتندمج معها في سبيل تحقيق "الحد الأقصى" من الرفاهية والازدهار.
وتتضمن مشاريع المدن الجديدة وعددها 6: نيوم، مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، مدينة الملك عبدالله المالية في الرياض، أمالا، مشروع البحر الأحمر، سدير، بالإضافة إلى العديد من المشاريع الفرعية والمشاريع التكميلية.
ولطالما اعتبرت مشاريع المدن الجديدة واجهة رؤية 2030، بكونها أكثر مشاريع الرؤية طموحا، حتى باتت مقياسا لنجاحها، إلا أن تلك المشاريع العملاقة تواجه تحديات عدة وتشكيك كبير، لاسيما لناحية توفير التمويل اللازم، والقدرة على تنفيذ المشروع فنيا، وجذب المستثمرين الأجانب، إضافة إلى توفير البنية التحتية اللازمة، وصولا إلى النجاح في جذب السكان الساعين للعيش فيها.
واحتلت أخبار المدن التي خُطط لإنشائها، بالأخص نيوم وتفرعاتها، عناوين الصحف وأثارت اهتماما إعلاميا كبيرا في السنوات الماضية، ما يعكس الاهتمام العالمي بمصير هذه المشاريع ومسارها.
إلا أن النتيجة التي وصلت إليها هذه المشاريع لم تلب الآمال العريضة التي عقدت عليها، خاصة فيما يخص مدينة "نيوم" التي تعتبر "جوهرة التاج" بين مشاريع رؤية 2030، وأكثر المشاريع العمرانية طموحا وكلفة، خصوصاً مشروع "ذا لاين" السكني ضمنها.
ولأول مرة في ديسمبر عام 2023 أعلنت السعودية بوضوح عن "تأجيلها" لبعض المشاريع التي أطلقتها ضمن "رؤية 2030"، وهو ما وصفته وكالة "بلومبيرغ" بأنه "أول اعتراف لها بتغيير الجدول الزمني لتحقيق أهداف البرنامج الذي تبلغ قيمته عدة تريليونات من الدولارات".
وقال وزير المالية محمد الجدعان، إن الحكومة، التي تتوقع عجز الميزانية كل عام حتى عام 2026، قررت التأجيل لتجنب الضغوط المتعلقة بالتضخم ومشاكل الإمدادات، دون أن يحدد المشاريع التي ستتأثر بهذا التأجيل.
وعبّر الوزير السعودي عن حاجة إلى فترة أطول "لبناء المصانع، وموارد كافية". وتابع أن "تأخير بعض المشاريع أو بالأحرى تمديدها سيخدم الاقتصاد"، متحدثا عن "مراجعة لبعض المشاريع".
وحذر الجدعان من أن تنفيذ الخطط "في فترة زمنية قصيرة" من شأنه أن يهدد بإذكاء التضخم والضغط على السعودية لحشد الموارد اللازمة. وقال إن "بعض المشاريع يمكن تمديدها لمدة ثلاث سنوات، حتى عام 2033، بينما سيتم تمديد البعض الآخر حتى عام 2035، وسيتم تمديد مشاريع أخرى حتى أبعد من ذلك".
وفي تصريح لاحق، في مايو عام 2024، خلال كلمة له في منتدى قطر الاقتصادي في الدوحة قال وزير المالية السعودي، إن "الصدمات" الاقتصادية العالمية، من جائحة كوفيد-19، وصولا إلى الحرب في غزة، دفعت بلاده إلى مراجعة خططها الطموحة للإصلاح الاقتصادي، لافتا إلى أن انطلاق الرؤية جاء قبل وقت طويل من تفشي الوباء والحروب في أوكرانيا وغزة ومشكلات مثل التضخم وتعطل سلاسل التوريد.
في هذا السياق يشرح شوبكي أن ارتفاع الدين العام والعجز المتواصل في الميزانية السعودية وأسعار فائدة المرتفعة، تشكل كلها ضغوط على مسار تنفيذ رؤية 2030 .
وأظهرت الأرقام التي كشفت عنها وزارة المالية أنها تتوقع أن يصل الدين العام إلى ما يقرب من 26 في المئة من الناتج الاقتصادي بحلول نهاية عام 2024.
ويرى الخبير الاقتصادي أن "التدفقات الاستثمارية الأجنبية" تمثل مؤشرا اقتصاديا مهما يمكن القياس عبره. هذه الاستثمارات المباشرة كانت أقل من التوقعات التي حددتها استراتيجية الاستثمار الوطنية السعودية، "مثلا في العام 2023 بلغت 19 مليار دولار والمستهدف كان 22 مليار دولار، "فبالتالي هذا مؤشر بأن هناك تعثر في تنفيذ رؤية 2030 بالمجمل، وأن نتائج مازالت غير مرضية، وأن طموحات السعودية في تنفيذ 2030 أكثر من الموارد المتاحة، ويتضح ذلك مثلا في مشروع ذا لاين الذي كان من المقرر أن يكون 170 كيلومتر وتقلص إلى مثلا 2.4 كيلومتر"، وفق ما يقول شوبكي.
وكان تقرير جديد لصحيفة "وول ستريت جورنال" قال استنادا إلى وثائق داخلية لـ "نيوم" ومقابلات، إن المملكة "تهدر" الأموال على المشروع، كما كشف بعض العيوب الخطيرة في تصميم مدينة "ذا لاين".
وقالت الصحيفة إن المملكة لم تنفذ الكثير من خطط المرحلة الأولى "في مواجهة حقيقة التكاليف في وقت تنفق فيه البلاد أكثر بكثير مما تجنيه".
ونقلت عن مسؤولين تنفيذيين في "نيوم" توقعاتهم بأن يكون عدد السكان في المرحلة الأولى من "ذا لاين" أقل من 200 ألف نسمة، ومع ذلك، تنفق "نيوم" على بنية تحتية ضخمة مخصصة لملايين الأشخاص، ويشمل ذلك بناء مطار عملاق، وقطار فائق السرعة يمر عبر نفق جبلي يبلغ طوله 32 كيلومترا، ومحطات تحلية مياه ضخمة، وفق مسؤول سابق.
وتقول الصحيفة إن محمد بن سلمان "يخاطر بإهدار قدر كبير من أموال البلاد على تجربة غير مسبوقة في بناء المدن، قد يكون من الصعب للغاية تنفيذها".
بدورها أشارت وكالة بلومبيرغ إلى أن معظم تمويل مشروع المدينة، جاء حتى الآن على شكل ضخ أسهم من مالكه، صندوق الثروة السيادية السعودي، الذي يقوده بن سلمان. لكن لإنجاز المشروع الطموح، كان مطورو "نيوم" يبحثون عن مصادر جديدة في الأشهر الأخيرة.
ويستشهد شوبكي بطرح السعودية لجزء من أسهم أرامكو للاكتتاب، لتوفير نفقات رؤية 2030، للتأكيد أن السعودية "مازالت وستبقى لوقت طويل تعتمد على النفط كإيراد ومصدر دخل رئيسي لتغطية نفقاتها وميزانيتها."
وكانت شركة أرامكو النفطية السعودية أعلنت، مطلع يونيو، أن مستثمرين من خارج المملكة استحوذوا على غالبية الأسهم التي طرحتها للبيع، وأشارت إلى أنها ستجمع من خلالها 11,2 مليار دولار، حيث كانت المجموعة العملاقة المملوكة بمعظمها للدولة السعودية قد أعلنت أواخر مايو طرح 1,545 مليار سهم، أي نحو 0,64 في المئة من أسهمها المصدرة، للبيع في السوق السعودية. فيما تسعى السعودية من خلال الرؤية إلى تحويل "أرامكو"، عملاق النفط السعودي، من شركة لإنتاج النفط إلى عملاق صناعي يعمل في أنحاء العالم.
سياسة "التوازن المستدام"
وأمام التوقعات المتشائمة لناحية إمكانية تنفيذ مسار الرؤية كاملا، وعلى الرغم من إصرار السعودية على تنفيذ طموحاتها، تسعى في المقابل لضمان التوازن بين السعي لتنفيذ المشاريع وبين حجم الإنفاق وأولوياته، وفق ما يشير الباحث الاستراتيجي السعودي محمد الحربي.
ويلفت إلى أن المشاريع العملاقة تسير جنبا إلى جنب مع برنامج من ضمن الرؤية يطلق عليه "برنامج التوازن المالي"، وذلك لضمان دورة اقتصادية متوازنة ما بين الإنفاق على المشاريع وفق الأولويات والمتغيرات في كل مشروع، "لذا هناك توازن وتقدير وتقييم للموقف باستمرار وهذه سياسة اقتصادية تنتهجها السعودية في مشاريعها".
ويضيف الحربي أن التنمية المستدامة هو "العنوان العريض لدى المملكة بشكل عام"، بحيث تكون مشاريعها "استراتيجية وليس تكتيكية فنية مرحلية"، وذلك في سياق تعليقه على تصريحات الوزير الجدعان.
ويتابع أن "الوضوح والشفافية في الإعلانات" هي أيضا من السياسات الجديدة المعتمدة، "والهدف هو جذب واستقطاب الاستثمارات عبر شراكات متدرجة."
ويرى الخبير الإستراتيجي إلى أن هناك العديد من المؤشرات العالمية التي تؤكد على نجاح النتائج التي حققتها المملكة، "موديز أعطت السعودية تصنيف a1، ونظرة مستقبلية مستقرة، في ظل توقعات أن تكون السعودية في 2050 في المرتبة 13 أو 12 عالميا في ترتيب مجموعة الـ 20."
ويعبّر الحربي عن قناعته أن منطقة الخليج ستكون "قلب العالم الحديث، بحسب في النظريات الجيوسياسية الحديثة"، وأن السعودية مع هذه الرؤية، "تعزز من مكانتها كلاعب مؤثر استراتيجيا على مختلف الأصعدة."
البعد السياسي
الأهم من كل ذلك اليوم، بحسب الحربي، أن هناك متغيرات على مستوى العالم، "متغيرات جيوسياسية متقدمة لملامح نظام عالمي متعدد الأقطاب"، من هنا بدأت تسعى السعودية "لتحقيق التنوع والتوازن في العلاقات والشراكات، وبدأنا نلمس سياسة عدم استخدام أي سلعة استراتيجية كالنفط مثلا في أي خلافات سياسية، مع اعتماد سياسة منفتحة اقتصاديا انطلاقا من مصالحها الذاتية أولا ثم المصالح المشتركة."
من جهته يلفت الكاتب والمحلل السياسي السعودي، مبارك آل عاتي، إلى أن السياسة الخارجية للسعودية وانطلاقا من رؤية 2030، باتت "تتميز بانفتاح على كل الدول التي تريد أن تتبادل مع المملكة عملية البناء والاستثمار المتبادل"، مشيرا إلى أن المشهد السياسي السعودية "لم يعد حكرا على حليف واحد بل أصبحت السعودية تتمتع بعلاقات قوية مع كل القوة الكبرى".
ويتابع أن انتهاج السعودية للحيادية تجاه الأزمات العالمية، أهّلها لأن تقوم بدور مهم جدا لصالح السلام في الحرب الروسية الأوكرانية، كما أصبحت مؤهلة لأن تقوم بدور كبير جدا لصالح السلام في الشرق الأوسط، الذي تبذل فيه الولايات المتحدة الأميركية جهودا كبيرة، كما أن دبلوماسية السعودية ساعد بخطوات كبيرة جدا في سبيل معالجة علاقاتها مع الولايات المتحدة وإعادتها إلى إطارها التاريخية الذي تستحقه، "ولكن وفق المكتسبات الجديدة التي تتمتع بها المملكة العربية السعودية".
داخليا تميز المشهد السياسي السعودي "بوضوح أهدافه" وفق المحلل السياسي السعودي، "ونجح في ترتيب البيت السياسي السعودي بشكل واضح وجعل القرار في يد رجلين فقط الملك سلمان وولي العهد، محمد بن سلمان، ما ساهم في تحقيق الاستقرار السياسي. فضلا عن سعيها لتكون الرؤية شاملة لكل المناطق والمحافظات السعودية".
وتعتبر رؤية 2030 من أبرز ركائز استمرارية الحكم الحالي في المملكة، خاصة بالنسبة لولي العهد السعودي الشاب، الذي وبحسب تقرير لوكالة "بلومبيرغ" يواجه لعبة "توازنات معقدة" بينما يعمل على تعزيز سلطته في المملكة الخليجية الغنية بالنفط، خاصة في الفترة الماضية بالتزامن مع إعلان الديوان الملكي أن الملك سلمان، البالغ من العمر 88 عاما، يتلقى العلاج بعد إصابته بالتهاب الرئة، وهو ما أدى إلى زيادة الاهتمام بمصير قيادة بن سلمان للسعودية.
ويشير التقرير إلى أن رؤية 2030 هي إحدى العناصر الرئيسية لإدارة بن سلمان، والتي لن تكون مهمة سهلة في ظل التحديات، لا سيما انخفاض أسعار النفط، فضلا أن الكثير من المستثمرين الأجانب لا يزالون مترددين في العمل في المملكة.
وبحسب آل عاتي فإن المجتمع السعودي كان سريع التأقلم مع متطلبات الرؤية والتغييرات التي أحدثتها على الصعيد الاجتماعي، مما انعكس انفتاحا داخليا للمجتمع على نفسه، وعلى العالم من جهة أخرى، انطلاقا من شريعة إسلامية سمحة".
هذا الاستقرار الداخلي ينسحب، وفقا لآل عاتي، على المنطقة كلها، بعدما باتت السعودية "نموذجا" لدول الجوار لناحية عملية التطوير والتحديث في كافة أجهزة الدولة وفي تعاملها مع بعضها، ومحاربة الفساد وسن القوانين والأنظمة، "بل في سلوك المجتمع وفكره، ولناحية التوجه للاستثمار في الأفراد".
ويختم الكاتب والمحلل السياسي أن أهم التحديات التي تواجه الرؤية تتمثل في التحديات السياسية وتقلباتها في المنطقة وفي العالم، والتي من شأنها أن تؤثر كثيرا على الاستقرار الاقتصادي والاستثمارات وعلى انسيابية الممرات التجارية والاقتصادية في العالم، كذلك الأمر بالنسبة لأمن الدول والشعوب المجاورة.