في 24 ساعة فقط، ربع مدينة ليبية اختفى، بيوت سُحقت ومقابر جماعية حُفرت لسكان لم تمهلهم المياه المندفعة من سدين متهالكين تصدعا من شدة الأمطار. ما خلفته "دانيال" في درنة ليس بفعل عاصفة عادية، بل ظاهرة "هجينة نادرة" دمرت كل شيء. فما السر وراء كل هذا الموت والدمار؟
يقول خبراء إن سر القوة العاتية المفاجئة التي دمرت درنة يكمن في التحول الكبير الذي حدث على شواطئ ليبيا، فهناك تغيرت خصائص العاصفة، لتصبح "ميديكين"، وهي "ظاهرة هجينة" كما تصفها المنظمة العالمية للأرصاد الجوية.
ماذا يعني "ميديكين"؟
يطلق على العاصفة اسم "ميديكين" (medicane) عندما تجمع خصائص ومؤشرات بين "الأعاصير المدارية، والعواصف التي تدور عكس اتجاه عقارب الساعة"، والتي تنشط فوق البحر المتوسط خلال أشهر سبتمبر، وحتى يناير من كل عام، وهو مصطلح ظهر في الثمانينيات من القرن الماضي، يدمج كلمتي "المتوسط" (mediterranean) و"إعصار" (hurricane) بالإنكليزية.
والعاصفة التي بدأت في الخامس من سبتمبر، ووصفها الخبراء بأنها "ظاهرة نادرة" من حيث كمية المياه التي هطلت، أوقعت عشرات الوفيات في دول أوروبية وتركيا قبل أن تصل إلى سواحل ليبيا.
Full timelapse of Storm #Daniel ⛈️
— Zoom Earth (@zoom_earth) September 10, 2023
Daniel brought devastating flooding to central Greece as the system stalled in the Mediterranean Sea.
When the system finally moved south, it strengthened into a Medicane tropical-like system before landfalling near Benghazi, Libya. pic.twitter.com/nCs0icxua3
الرئيس التنفيذي لمركز طقس العرب، محمد الشاكر، يقول إن "دانيال عاصفة متوسطية نشأت في البحر الأبيض المتوسط نتيجة لارتفاع درجات حرارة سطح البحر عن معدلاته والتي تصطدم بهواء بارد في طبقات الجو العليا، وهو ما يتسبب بمنخفض جوي وبتعمقه يكتسب خصائص شبه استوائية، ما يحوله إلى نظام جوي مغلق على شكل عاصفة أو إعصار".
وأشار في حديث لموقع "الحرة" إلى أن مثل هذه العواصف التي أصبحت تتواتر وتعرف باسم "ميديكين"، وظهرت منذ عشرات السنوات، لكن مع تغيرات المناخ الحاصلة أصبحت تظهر بشكل أكبر خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة".
وتعتبر "دانيال" من أسوأ الظواهر الجوية منذ بداية العام في منطقة حوض المتوسط نتيجة للاحتباس الحراري، والتي جاءت بعد صيف شديد الجفاف تسبب في انخفاض مخزون المياه في عدة دول، بحسب تقرير لوكالة فرانس برس.
وأشار تقرير الوكالة إلى أنه مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، يحتوي الغلاف الجوي على مزيد من بخار الماء بنحو 7 في المئة لكل درجة إضافية، مما يزيد من خطر هطول الأمطار الغزيرة، خاصة مع تضافر ذلك مع عوامل حاسمة أخرى مثل التحضر والتوسع العمراني، إذ تسهم هذه العوامل في تهيئة الظروف المناسبة لهطول الأمطار الغزيرة التي تخلف كوارث باهظة الثمن.
بداية العاصفة
بداية العاصفة كانت في اليونان والتي تشكلت في الرابع من سبتمبر، حيث أطلق اسم "دانيال" من قبل هيئة الأرصاد الجوية الوطنية اليونانية.
ضربت العاصفة، في الخامس والسادس من سبتمبر، اليونان، حيث سجل سقوط 750 ملم خلال 24 ساعة في قرية زاكورة، وهو ما يعادل هطول الأمطار في 18 شهرا.
كما سجلت مدينة بورتاريا أيضا رقما قياسيا في هطول الأمطار فيها بلغ معدله 884 ملم، وتبعها أيضا فيضان نهر كرافسيدوناس ليدمر جسرا ويخلف خسائر مادية على ضفتيه.
Unreal, heartbreaking footage from Greece during this unprecedented storm. I was caught up in it briefly & it felt biblical. Can’t imagine losing everything like this. Greece has been through several hells this year, emergency services must be exhausted pic.twitter.com/pdfYSzRplw
— Bel Trew (@Beltrew) September 8, 2023
واستمرت العاصفة يومي السابع والثامن من سبتمبر حيث ارتفعت مناسيب المياه في نهر بينيوس ووداي تيمبي في اليونان.
وبموازاة ما كان يحصل في اليونان، كانت العاصفة تضرب مناطق في تركيا حيث تأثرت مدينة إجنيدا بمقاطعة كيركلاريلي، وحتى غمرت المياه مناطق أرناؤوط كوي وباشاك شهير وكوتشوك شكمجة في إسطنبول.
وفي بلغاريا أخلت السلطات بعض القرى التي تأثرت بقدوم الإعصار في شرقي البلاد، حيث تم تسجيل معدلات هطول للأمطار مرتفعة في منطقة كوستي بلغت 311 ملم، وفي أهتوبول بلغت 196 ملم، وفي تساريفو بلغت 330 ملم خلال فترة 20 ساعة.
وصول العاصفة إلى ليبيا
وصل الإعصار إلى شرقي ليبيا، في العاشر من سبتمبر، و"ضرب بشدة قبل الفجر والناس نيام عدة في بنغازي ومنطقة الجبل الأخضر"، بحسب وكالة الأنباء الليبية "وال".
وخلال الساعات الأولى وصل الطقس السيء لغالبية مدن الجبل الأخضر، مثل شحات والمرج والبيضاء وسوسة ودرنة وهي المدينة الأكثر تضررا.
مع بداية الأمطار سجلت معدل هطول بلغ 170 ملم من المياه في برقة الواقعة في شمال شرقي البلاد حيث الأمطار نادرة جدا في هذا الموسم، فيما بدأ المركز الوطني للأرصاد الجوية الليبي في رصد فيديوهات لفيضانات في مدينة تاكنس التابعة للجبل الأخضر شمال شرقي البلاد.
وأعلنت السلطات المحلية في بنغازي حظر تجول وإغلاق للمدارس لأيام، فيما نشرت فرق الإنقاذ في درنة الواقعة على بعد نحو 900 كلم شرق العاصمة طرابلس.
ووصلت العاصفة إلى ذروتها، في العاشر من سبتمبر، إذ بلغت سرعة الرياح بين 70 إلى 80 كلم في الساعة، ما أدى إلى انقطاع الاتصالات وسقوط أبراج الكهرباء والأشجار، بحسب رصد المركز الوطني للأرصاد الجوية في ليبيا وفق بيان نشرته المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة.
وتقع مدينة درنة في شمال شرقي ليبيا على ساحل البحر المتوسط، فيما تحدها من الجنوب سلسلة من الجبال تعرف باسم "الجبل الأخضر".
وتنقسم المدينة إلى قسمين، حيث يعبرها مجرى واد سُمّيت المدينة تيمنا به، "وادي درنة"، ويسكنها نحو 100 ألف نسمة.
وملأت الأمطار وادي درنة الذي عادة ما يكون جافا جنوبي المدينة، لكن ضغط منسوب المياه كان أكبر من قدرة سد درنة الذي بُني لحماية المدينة من الفيضانات.
يتكون سد درنة من قسم علوي وآخر سفلي، السد العلوي يحمل اسم "سد البلاد"، بسعة تخزين تبلغ 1.5 مليون متر مكعب من المياه ويبعد عن قلب المدينة حوالي كلم واحد، بينما يتسع سد "بو منصور" (السفلي)، لـ 23 مليون متر مكعب وهو يبعد حوالي 13 كلم جنوبي السد الأول.
البداية كانت في انهيار السد الأول، ما أطلق العنان لسيل هائل وصل للسد الثاني، ليتجمع في مجرى الوادي نحو 30 مليون متر مكعب من المياه، أو ما يعادل 12 ألف حمام سباحة أولمبي.
ومع استمرار هطول الأمطار وانهيار السدود أصبحت المياه تجري بسرعة قُدّرَت بـ12 كلم في الساعة ضمن مسار طوله 13 كلم، والتي اجتاحت الجسور والمدينة وخرجت الأمور عن السيطرة وأصبح الوضع كارثيا، حيث تعززت سرعة نزول التيار المائي بسبب الاختلاف في الارتفاع بين السدين الأول والثاني.
وبسبب فيضان المياه والطمي عن مجرى الوادي جُرِفت أحياء بأكملها أو غمرتها بالطين، لتتحول الشوارع الرئيسية التي كانت سوقا تجاريا بفضل المحلات المصطفة على جانبيه إلى منطقة مهجورة إلى حد كبير، بحسب رويترز.
وعلى الواجهة البحرية للمدينة تدمرت الحواجز الأسمنتية لتصطدم بها السيارات والأشجار التي جرفتها المياه، كما تناثرت ملابس أطفال وألعابهم وقطع أثاث وأحذية وممتلكات أخرى على الشاطئ بسبب السيول.
Drone footage from #Derna, Libya 🇱🇾. So much destruction, so many deaths, and so many tears. This place needs massive help. Not tomorrow, but now. #LibyaFloods
— Annett Grimm (@_AGrimm) September 13, 2023
(via: @akhbar) pic.twitter.com/4TstccGpDh
ويوضح الشاكر أن "العاصفة دانيال اكتسبت قوة كبيرة قبل دخولها لليابسة في ليبيا، والتي ترافقت مع كميات كبيرة من الأمطار والرياح العاتية".
ويبين أن معدلات الأمطار التي هطلت في مناطق محاذية لدرنة بلغت "حوالي 500 ملم، أي ما يعادل 500 لتر في المتر المربع الواحد وكل ذلك خلال 24 ساعة فقط"، ولمعرفة تأثير هذه المعدلات فهي تمثل "الأمطار التي تهطل على العاصمة البريطانية لندن في سنة كاملة، أو الكميات التي تهطل في الرياض في ست سنوات، أو معدل ما ينزل على العاصمة الأردنية، عمّان، في ثمانية أشهر" وهي تعادل ما يهطل على حوض درنة خلال حوالي 18 شهرا، إذ يبلغ المتوسط السنوي للهطول أكثر من 300 ملم بحسب بيانات 1960-2000، وفق دراسة عن المنطقة.
وأضاف أن كميات الأمطار الهائلة خاصة في المناطق الجبلية المحاذية لدرنة، بدأت بالنزول على شكل سيول مسببة فيضانات هائلة في المدينة والمناطق المجاورة لها، والتي تدفقت بطبيعة الحال عبر مجرى وادي درنة ما تسبب في امتلاء السدين وفيضانهما وتدميرهما، ما تسبب في فيضانات أصبحت ارتفاعها بالأمتار".
واستطرد أن المياه ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة في مجرى الوادي، حيث اجتاحت مدينة درنة وشوارعها "كالطوفان متجهة باتجاه البحر، لتأخذ في طريقها نحو 25 في المئة من المدينة وشوارعها ومنازلها، ليصبح عرض الوادي كبيرا جدا".
وتصف صحيفة نيويوك تايمز في تقرير لها ما حصل في درنة "أن المدينة تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، في نهاية وادٍ طبيعي طويل وضيق، وهو جاف في معظم أيام السنة.. وعمل الوادي كقُمع، مما دفع المياه المتدفقة إلى وسط المدينة. وفاضت ضفاف النهر، وجرفت الجسور، وانفجر سدان في أعلى الوادي، مما أدى إلى زيادة مياههما في الطوفان".
عالمة المناخ، جينيفر فرانسيس، قالت إن "المياه الدافئة غذت هطول الأمطار في عاصفة دانيال"، مشيرة إلى أن هذه "ظاهرة استثنائية يتم ملاحظتها في جميع أنحاء العالم".
وأضافت لوكالة أسوشتيد برس "لا يوجد أي مكان محصن ضد العواصف المدمّرة مثل دانيال".
قتلى ومفقودون ونازحون
ويظهر حجم الدمار واضحا من المناطق المرتفعة فوق درنة. وأصبح وسط المدينة المكتظ بالسكان والمشيد على طول مجرى نهر موسمي على شكل هلال واسع ومسطح تغمره مياه موحلة بعدما جرفت السيول المباني، وفق رويترز.
وتضم مدينة درنة أكثر من 6 آلاف مبنى، تضرر منها 1500 مبنى بينها 891 منزلا دُمّرت بالكامل و398 مبنى طُمرت بالوحل، بحسب إحصائية أولية أعدها الفريق المكلف من حكومة الوحدة الوطنية بحسب تقرير لوكالة "وال".
أعلن مسؤولون من السلطات في شرقي البلاد تقديرات مختلفة لعدد الضحايا. إذ تحدث وزير الصحة في حكومة شرق ليبيا، عثمان عبد الجليل، ليل الجمعة السبت، عن تسجيل 3166 قتيلا.
وتم الإبلاغ عن مقتل أكثر من 11300 شخص في درنة وفقا للهلال الأحمر الليبي، وهي إحصائية أكدتها، السبت أيضا، منظمة الصحة العالمية.
كما أعلنت منظمة الصحة العالمية في بيان، السبت، العثور على جثث 3958 شخصا والتعرف على هوياتهم، وقالت إن "أكثر من 9 آلاف شخص في عداد المفقودين"، بدون أن تحدد مصدر هذه الأرقام.
وفي أكبر تقدير للحصيلة حتى الآن، قال رئيس بلدية درنة، عبد المنعم الغيثي، لقناة العربية إن عدد القتلى قد يتراوح بين 18 ألفا و20 ألفا بالنظر لعدد الأحياء التي ضربتها الكارثة.
والأربعاء، قال المتحدث باسم وزارة الداخلية في الحكومة التابعة للسلطات في شرقي البلاد، طارق الخراز، إن هناك على الأقل 400 ضحية أجنبية "غالبيتهم من المصريين والسودانيين".
وتضرر 884 ألف شخص بشكل مباشر من الكارثة، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة.
سدود درنة
وبسبب مشكلة الفيضانات في حوض درنة منذ السبعينيات، توصلوا حينها إلى قرار بإنشاء سد وادي درنة، الذي يضم سدين من النوع الركامي "بو منصور" و"البلاد".
تم تشييد السد كاملا بواسطة شركة "هيدرو بروجيكت" Hidroprojekt في يوغوسلافيا بتكليف من وزارة الزراعة في ليبيا.
جرى البناء على مدى أربعة سنوات من 1973 إلى عام 1977.
ويبلغ طول مساحة حوض درنة حوالي 70 كلم وبمساحة إجمالية تبلغ 570 كلم، بمتوسط عرض يبلغ ثمانية كلم، بحسب دراسة نشرتها جامعة سبها في عام 2022.
وتعرض حوض وسد درنة إلى خمسة فيضانات كبيرة في القرن العشرين، بحسب تقرير حول الأخطار المحتملة لفيضانات وادي درنة:
الأول، في أكتوبر من عام 1942، حدث فيضان ضخم، لا يتواجد توثيق للخسائر التي تسبب فيها بسبب الحرب العالمية الثانية.
الثاني، في أكتوبر من عام 1959، حدث فيضان ضخم تسبب في خسائر بالأرواح، ووصلت كميات الأمطار التي هطلت لنحو 146 ملم.
الثالث، في أكتوبر من عام 1968، وقع فيضان متوسط، لم يحدث الكثير من الأضرار.
الرابع، في نوفمبر من عام 1986، وقع فيضان ضخم بعد إنشاء السد ما تسبب في أضرار مادية، حيث تمكن من احتجاز مياه قُدّرت بـ13 مليون متر مكعب جراء هطول الأمطار.
الخامس، في سبتمبر من عام 2011، حيث وصلت المياه إلى مستويات مرتفعة في السدين.
وقال وكيل بلدية درنة، طارق سلامة، إن تأثير انهيار السدين على السيول والفيضانات التي حصلت كان كبيرا، موضحا في حديث لموقع "الحرة" أنه "منذ عام 2002 لم تتم صيانة السدود، وسبب الانهيار هو تجمع كميات كبيرة من مياه الأمطار".
وأضاف "أن جميع مجاري الأودية تتجمع في مجرى وادي درنة، وكانت المسافة الطولية للمياه في المجرى تقارب 12 كلم، مما أدى لانهيار السدين وتدفق المياه بكميات ضخمة وحصول الكارثة".
السدان اللذان انهارا كانت تظهر عليهما تشققات، منذ عام 1998، وفق ما أعلن المدعي العام الليبي، الصديق الصور، الذي فتح تحقيقا لكشف الملابسات.
وكانت شركة تركية قد باشرت أشغالا بعد تأخير استمر سنوات، لكن الأشغال توقفت مع بدء الانتفاضة الليبية، في عام 2011، ومذاك الحين لم تُستأنَف.
سد درنة قبل الكارثة وبعد
ناجون من كارثة درنة
ويقول أحد الناجين من الكارثة، أحمد حسن، لوكالة "وال" إنه "كان نائما عندما سمع صوتا قويا اتضح فيما بعد أن صوت انهيار السد القريب من المدينة في حوالي الساعة 2:30 صباحا، مؤكدا وفاة معظم جيرانه في الحي الملاصق لنادي رياضي أصبح هو الآخر أثرا بعد أن دمرته مياه الفيضان الجارفة".
وأشار إلى أنه تمكن من إنقاذ 11 من أطفاله وزوجته باللجوء إلى سطح العمارة التي يسكن فيها والمكونة من أربعة طوابق.
مصطفى سالم (39 عاما) أحد سكان درنة قال لوكالة رويترز: "أغلب الناس كانوا نائمين. لم يكن أحد مستعدا".
وذكر رجا ساسي (39 عاما) للوكالة أنه نجا من السيول هو وزوجته وابنته الصغيرة بعد أن وصلت المياه إلى الطابق العلوي من المنزل، لكن بقية أفراد أسرته لقوا حتفهم.
وقال: "في البداية اعتقدنا أنها أمطار غزيرة ولكن في منتصف الليل سمعنا انفجارا هائلا وكان السد هو الذي ينفجر".
وذكرت صالحة أبو بكر، وهي محامية تبلغ من العمر 46 عاما، أنها نجت مع شقيقتيها من الكارثة، لكن والدتهن لقيت حتفها. وأضافت أن المياه سرعان ما غمرت المبنى ووصلت إلى الطابق الثالث.
وأوضحت أن المياه اندفعت إلى شقتهم حتى بلغت السقف تقريبا، ولمدة قالت إنها شعرت بأنها ثلاث ساعات تشبثت خلالها بقطعة أثاث حتى تظل طافية.
وقالت: "أستطيع السباحة، لكن عندما حاولتُ إنقاذ عائلتي لم أتمكن من فعل أي شيء".
وانحسرت مياه الفيضان وتمكنت مع شقيقتيها من مغادرة المبنى قبل وقت قصير من انهياره، لكن والدتهن كانت بداخله.
وقال ناج أصيب بجروح: "ارتفع منسوب المياه فجأة في غضون ثوان"، مشيرا إلى أن المياه جرفته مع والدته عندما وقعت الفيضانات ليلا قبل أن يتمكنا من التشبث بمبنى خال والاحتماء فيه.
وتابع الرجل الذي لم يتم التعريف عن هويته وفق الشهادة التي نشرها مركز بنغازي الطبي في حديث لوكالة فرانس "ارتفع منسوب المياه إلى أن وصلنا للطابق الرابع، كانت المياه بارتفاع الطابق الثاني".
وأضاف "سمعنا أشخاصا يصرخون. رأيتُ من النافذة سيارات وجثثا تجرفها المياه. استمر الوضع هكذا مدة ساعة أو ساعة ونصف ساعة بدت بالنسبة إلينا كأنها سنة".
تحذيرات سابقة
وفي ورقة بحثية نشرت، في عام 2022، حذر عبد الونيس عاشور، الخبير في علوم المياه بجامعة عمر المختار، من أن تكرار السيول في الوادي يشكل تهديدا لدرنة، ودلل على ذلك بوقوع خمسة سيول، منذ عام 1942، ودعا لاتخاذ خطوات عاجلة لضمان الصيانة الدورية للسدين.
وقال حينها إن "تكرار الفيضانات يهدد السدود المبنية في الوادي"، داعيا إلى إجراء أعمال الصيانة بشكل فوري، مستطردا أن حوض درنة له "تأثير واضح على المدينة التي يشطرها إلى نصفين وصولا إلى البحر، ولهذا دراسة الجريان السطحي وخطورة الفياضانات أمر مهم لحماية المدينة ومرافقها الحيوية من الأخطار".
The flood disaster in the city of #Derna was triggered by the dramatic collapse of the valley dam, viedo show’s aftermath the Dam collapse #Libya pic.twitter.com/qJqwfvqPNk
— Mahmud Mohammed (@MahmudM27830556) September 16, 2023
وكتب عاشور في بحثه الذي جاء بعنوان "تقدير عمق الجريان السطحي لحوض وادي درنة" أنه "إذا حدث فيضان ضخم، ستكون النتيجة كارثية على سكان الوادي والمدينة"، إضافة إلى ضرورة "إيجاد وسيلة لزيادة الغطاء النباتي بحيث لا يكون ضعيفا ويسمح للتربة بالانجراف".
وفي تقرير كتبه المتخصص بعلم الهيدروجيولوجيا، عبدالجواد أبوبكر بوبيضه، في عام 2011، كان قد دعا إلى "تشكيل لجنة طوارئ دائمة للحماية من أخطار الفيضانات بوادي درنة"، والتأكيد على ضمان سلامة سد درنة وإجراء المعاينات، ومراقبة معدلات الهبوط السنوي للسد.
وشدد على أهمية "تنبيه الأشخاص والقاطنين على ضفتي الوادي بإخلاء هذه الأماكن وأخذ الاحتياطات اللازمة عند حدوث فيضانات مباغتة.
الحاجة لنظام "إنذار مبكر"
الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، البروفيسور بيتيري تالاس، قال، الخميس، إنه كان من الممكن تجنب سقوط ضحايا في فيضانات ليبيا، لو كان لدى الدولة المنقسمة هيئة أرصاد جوية قادرة على إصدار التحذيرات.
وأشار في بيان إلى أن "المأساة في ليبيا تسلّط الضوء على العواقب المدمرة والمتتالية للطقس المتطرف على الدول الهشة، وتظهر الحاجة إلى إنذارات مبكرة بشأن المخاطر المتعددة تشمل جميع المستويات الرسمية وغير الرسمية".
ووصف وزير الخارجية في الحكومة التابعة لبرلمان شرقي ليبيا، عبد الهادي الحويج، أن حديث منظمات دولية أنه "كان من الممكن تفادي سقوط معظم قتلى السيول في ليبيا" بأنه كلام "مجاف للحقيقة".
وأوضح في مقابلة مع قناة "الحرة" أن ما حدث في درنة "كارثة طبيعية وإنسانية، ولا مسؤولية للسلطات فيها".
وأضاف الحويج أن "ما حصل في ليبيا يمكن أن يحصل في أي دولة بما فيها الولايات المتحدة، حيث تحصل الأعاصير والفيضانات والزلازل، وما وقع كارثة طبيعية تفوق التوقعات وكل ما يتصوره العقل على مدى تاريخ ليبيا".
وأشار إلى أن الكارثة "حصيلتها ثقيلة من الضحايا والبنية التحتية وكل المستويات"، مؤكدا أن "الحكومة الليبية تقوم بدورها على أكمل وجه، وتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. إذ تم تشكيل خلية للتعامل مع الأزمة".
وأشارت المنظمة الأممية أن المركز الوطني للأرصاد الجوية في ليبيا أصدر إنذارات مبكرة لهذه الظاهرة الجوية قبل 72 ساعة من وقوعها، وأخطر جميع الجهات الحكومية بضرورة أخذ المزيد من الحيطة والحذر واتخاذ إجراءات وقائية، وأعلنت حالة الطوارئ في المناطق الشرقية.
واستدرك أن المركز يواجه "ثغرات كبيرة في أنظمة الرصد وتكنولوجيا المعلومات الخاصة به، والتي لا تعمل بشكل جيد، ناهيك عن نقص مزمن في الموظفين، وهو ما يجعل قدرته محدودة" على التعامل مع الكوارث.
وقال خبراء في المناخ لوكالة رويترز إن إن تأثير العواصف على البلدان المحيطة بالبحر المتوسط يكون متفاوتا وأكثر تدميرا بالنسبة للدول التي تفتقر إلى وسائل الاستعداد.
لكن حتى اليونان، التي تتمتع بموارد أفضل، واجهت ظروفا صعبة للتعامل مع قوة العاصفة "دانيال" التي جرفت منازل وأدت لانهيار جسور وتدمير طرق وسقوط خطوط للكهرباء وتدمير المحاصيل في سهل ثيساليا الخصب.
وليبيا معرضة للخطر بشكل خاص بعد معاناتها من الفوضى والصراع على مدى يزيد على عشر سنوات ومن عدم تواجد حكومة مركزية فيها يمكنها الوصول إلى جميع أنحاء البلاد.
إدارة أزمة درنة
رئيس مجلس إدارة الهيئة الليبية للإغاثة، عبدالله الخفيفي، قال إن "البلاد تحتاج إلى تكاتف جميع الجهات في ليبيا والمجتمع الدولي من أجل مساعدة المنكوبين في مدينة درنة"، مشيرا إلى أنه من الصعوبة تحديد أعداد الوفيات بدقة ولكنها بـ"الآلاف".
وقال الخفيفي في اتصال هاتفي مع موقع "الحرة" إن درنة تضم 13 شارعا حيويا رئيسيا، وفيها أكثر من ألف منزل ومبانٍ تضم العديد من الشقق، وهو ما يجعل من عمليات البحث والإنقاذ صعبة أمام الفرق المختلفة، أكانت المحلية أو تلك التي جاءت من دول أخرى.
ورفض تحميل أي جهة مسؤولية ما حصل في البلاد، مشيرا إلى أنها "كارثة طبيعية، تسببت بها ظروف جوية ترافقت مع جغرافيا مدينة درنة".
ويرى الخفيفي أن "النقطة المضيئة الوحيدة في الأزمة، توحد عمل جميع مؤسسات من الجهات السياسية المختلفة، حيث اتفق الجميع على أهمية مساعدة سكان المدينة المنكوبة".
ويقدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن حوالي 884 ألف شخص في مدن ليبية تأثروا بالعاصفة والفيضانات، مشيرا إلى تأثر مناطق يعاني سكانها أصلا من تحديات اقتصادية واجتماعية يقدر عددهم بنحو 300 ألف شخص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية وفقا لآخر مراجعة أجريت في عام 2023.
بين الشرق والغرب
وبعد عام 2014، انقسمت البلاد بين إدارتين متنافستين إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب. ولا تزال ليبيا منقسمة سياسيا رغم وقف إطلاق النار منذ عام 2020، ورغم بعض الجهود المبذولة لتوحيد البلاد.
المحلل السياسي الليبي، عادل عبدالكافي يرى أن الحديث عن التقارب بين الجهات السياسية المختلفة في ليبيا ليس صحيحا "إذ تم منع مسؤولين من دخول درنة، وإجبارهم على العودة لطرابلس".
وأضاف في حديث لموقع "الحرة" أنه حتى الكارثة الإنسانية "ما زالت الصراعات هي التي تسيطر على مجريات الأحداث فيها".
وحمّل عبدالكافي الحكومة في الجهة الشرقية مسؤولية ما حدث، مشيرا إلى أن "الكثير من المبالغ كانت تُنفَق ولكن لم يتم توجيهها لصيانة السدود"، مؤكدا أن تلافي الخسائر البشرية "كان يمكن أن يحدث لو تم إخلاء المدينة منذ قدوم الإعصار من البحر المتوسط".
وقال ليزلي مابون، المحاضر في مجال النظم البيئية بكلية لندن للأبحاث التابعة للجامعة المفتوحة في بريطانيا، لوكالة رويترز إن "الوضع السياسي المعقد وتاريخ الصراع الذي طال أمده في ليبيا يشكلان تحديات أمام تطوير استراتيجيات التواصل بشأن المخاطر وتقييم المخاطر، وتنسيق عمليات الإنقاذ، وربما كذلك فيما يتعلق بصيانة البنية التحتية الحيوية مثل السدود".
الخبير السياسي الليبي، أحمد المهدوي، أطلق على ما حصل في درنة اسم "الأحد الأسود"، في إشارة إلى يوم العاصفة التي ضربت المدينة.
وقال في رد على استفسارات موقع "الحرة" إن "السدود كانت بحاجة إلى الصيانة، ولكن كميات المياه الكبيرة التي نزلت في ذلك اليوم كانت أكبر من قدرتها على الاحتمال، إذ أنها بنيت لحماية المدينة من الأمطار الموسمية، وليس لديها سعة تخزينة كبيرة لحبس المياه".
وأكد المهدوي أن الانقسام السياسي في البلاد بنهاية المطاف له تأثيرات لا يمكن إنكارها على "عدم التنسيق والاستعداد والجاهزية" في التعامل مع الكارثة، محمّلا الجميع المسؤولية في عدم حماية المواطنين وتوعيتهم من مخاطر ما قد يحصل.
ماذا بعد دانيال؟
ظاهرة الاحتباس الحراري تعني أن المنطقة قد تضطر في المستقبل إلى الاستعداد لعواصف متزايدة القوة من هذا النوع، الذي يوازي ما يعرف بإعصار البحر المتوسط "ميديكين".
ونقلت سوزان غراي من قسم الأرصاد الجوية بجامعة ريدينغ البريطانية عن تقرير للجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أن "هناك أدلة ثابتة على أن تواتر ميديكين يتناقص مع في ظل الاحتباس الحراري، لكن قوته تشتد"، بحسب وكالة رويترز.
وقال خبير المناخ خريستوس زيريفوس، الأمين العام لأكاديمية أثينا، إن بيانات العواصف لم يتم جمعها بالكامل بعد، لكنه قدّر أن منسوب مياه الأمطار التي تهطل على ليبيا يبلغ مترا، أي ما يعادل ما سقط على ثيساليا بوسط اليونان خلال يومين، بحسب رويترز.
وأضاف أن ذلك كان "حدثا لم يسبق له مثيل" وأن كمية الأمطار التي غمرت المنطقة كانت أكبر من أي وقت مضى منذ بدء التسجيل في منتصف القرن التاسع عشر.
وقال: "نتوقع تكرار مثل هذه الظواهر كثيرا".
مساعدات دولية
بدأت المساعدات الدولية تصل إلى ليبيا بعيد الكارثة. وحطت في بنغازي طائرتان محملتان مساعدات وصلتا من الإمارات وإيران، وفق وكالة فرانس برس.
وأعلنت منظمة الصحة العالمية وصول 29 طنا من المعدات الطبية إلى بنغازي التي تبعد نحو 300 كلم عن درنة.
كذلك أرسلت فنلندا وألمانيا ورومانيا مساعدات. ووصلت طائرات محملة بمساعدات أرسلتها مصر والأردن والكويت.
وعرضت الجزائر وفرنسا وإيطاليا وقطر وتونس والولايات المتحدة تقديم مساعدات.
وأطلق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة نداء لجمع أموال تزيد عن 71 مليون دولار لتأمين مساعدة فورية إلى حوالي 250 ألف شخص هم الأكثر تضررا جراء الفيضانات التي نتجت من العاصفة "دانيال"، محذرا من وضع "كارثي".