تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
كيف تبخرت عوائد النفط العراقي؟

عرف العراقيون النفط منذ آلاف السنين، وفي العصر الحديث كان العراق من أوائل الدول التي اكتشفت فيها آبار نفطية، ومع ذلك تتذيل بلاد ما بين النهرين اليوم مؤشرات الرخاء المعيشي والنمو الاقتصادي والتطور العمراني. 

التقارير الدولية ذات الصلة ما فتئت تحذر من وضع حياتي قاتم في العراق، بالتوازي مع تدهور مستوى الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والكهرباء وفرص العمل، رغم الموارد المليارية التي أتاحتها طفرات متكررة في أسعار النفط خلال السنوات القليلة الماضية، بشكل خاص. 

خبراء ومحللون ومسؤولون سابقون وحاليون قالوا لموقع "الحرة"، في ما يشبه الإجماع، إن تردي واقع التنمية في العراق سببه الرئيسي تغلغل الفساد المالي والإداري في مفاصل الدولة منذ عقود، والذي أخذ طابعا مؤسساتيا بعد عام 2003 بفضل نظام المحاصصة الحزبية. 

خلص تقرير أصدره البنك الدولي في مايو 2021 تحت عنوان "مراجعة الإنفاق العام للتنمية البشرية في العراق"، إلى أن "الاقتصاد العراقي يعاني منذ عقود من عدم الاستقرار السياسي وتقلب أسعار النفط. ورغم ثروات البلاد، لا يزال الاقتصاد العراقي هشا، خاصة في ظل شبكة محسوبية ومحاصصة تستفيد من عوائد النفط، بدلا من استخدامها في تحسين البنية التحتية وجودة التعليم". 

في سبتمبر 2021، كشف الرئيس العراقي آنذاك، برهم صالح في تصريحات متلفزة أن أموال العراق من عوائد النفط منذ 2003 تصل لنحو ألف مليار دولار، وقال إن التقديرات تشير إلى أن الأموال المنهوبة من العراق إلى الخارج تقدر بنحو 150 مليار دولار. 

ويكرر المسؤولون العراقيون، مع كل حكومة جديدة، الحديث عن الجهود التي يبذلها العراق دوليا لاسترداد الأموال المنهوبة، لكن مسلسل نهب المال العام يتواصل، وآخر حلقاته الاستحواذ على نحو مليارين ونصف مليار دولار في ما عُرف "بسرقة القرن".  

العراق ثاني أكبر منتج للنفط الخام بين دول منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" بعد السعودية، وبمتوسط إنتاج يبلغ حاليا نحو 4.6 مليون برميل يوميا. وتقدر أرقام رسمية حجم الأموال التي دخلت العراق من عوائد العراق خلال العقدين الماضيين بأكثر من تريليون دولار.  

 

كيف خسر العراق عقودا من التنمية؟ 

يقول مظهر صالح، وهو اقتصادي عراقي ومستشار مالي لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إن "عدم استفادة العراق من عوائد النفط في التنمية الاقتصادية كان سببه الاضطرابات الأمنية، ناهيك عن الكيانات المتضخمة التي خلقتها المحاصصة في مجال التوظيف". 

ويتابع صالح، في تصريحات خاصة بموقع "الحرة"، أن "العراق أنفق خلال العقدين الماضيين حوالي 83 مليار دولار على قطاع الكهرباء، ولكن حتى الآن لا تستطيع البلاد تقديم خدمة من دون انقطاع للسكان"، مضيفا " أن "السياسات الريعية في إدارة الاقتصاد عطلت قواعد الإنتاج ليصبح البلد عبارة عن برميل نفط فقط". 

وكشف صالح أن ما أنفقته الحكومات العراقية على "التنمية خلال 2003 و2012 بلغ أكثر من 240 مليار دولار، ولكن 90 في المئة من المشاريع لا يوجد لها أساس على أرض الواقع، ولكن يا للأسف هذه النفقات ذهبت هباء" و"الموازنات منذ 2008 أدرجت نحو 7 آلاف مشروع استثماري بتكلفة 200 مليار دولار، لم يُنفذ منها سوى بضع عشرات من المشاريع". 

وكان العراق قد حقق عام 2008 إيرادات قياسية، عندما بلغ سعر برميل النفط الواحد 147 دولارا. 

ويؤكد صالح أن ما "يُنفق في أي دولة مجاورة على التنمية، نحتاج إلى إنفاق أربعة أضعافه في العراق بسبب وجود المخاطر الأمنية والرشى والفساد، ناهيك عن تقلبات النفط". 

وتلفت الباحثة الاقتصادية العراقية، سلام سميسم، إلى أن مشكلة الاقتصاد العراقي تكمن في غياب السياسة الاقتصادية الواضحة و"الإنفاق غير المنتج".  

وتقول لموقع "الحرة" لو تم توجيه جزء من عوائد النفط بشكل حقيقي نحو "الإنفاق الاستهلاكي والتشغيلي كان يمكن تحقيق عوائد تنموية عليا، ولكن كان الإنفاق العام يتجه منذ 2004 وحتى الآن بشكل كبير نحو الإنفاق العسكري، بما يشكل نحو 20 في المئة من كل موازنة". 

وتشير سميسم إلى مشكلة تضخم القطاع العام الذي يستهلك موظفوه جزءا كبيرا من العوائد المالية، فـ"إذا كان عدد موظفي القطاع العام قبل عام 2003 حوالي 1.4 مليون موظف، الآن هناك أكثر من 6.5 مليون موظف".  

المشاريع الوهمية 

يرى عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي، النائب جمال كوجر، أن علامات تأثير الفساد المالي في العراق واضحة، لا سيما على القطاعات الخدمية الحيوية، التي تجعل الحكومة عاجزة عن تقديم الخدمات". 

وتابع أن "نظرة على البنية التحتية في العراق، كافية لبيان حجم الفساد على جميع المستويات وفي كل المجالات، فالخدمات في المجالات الصحية والتعليمية والأساسية تعاني من مشاكل جمة، وكل ما ينفق من أموال لا ينعكس في النهاية على حياة المواطن العراقي". 

وتحدث النائب كوجر، لموقع "الحرة"، عن أحد أوجه الفساد المستشري في العراق، وهو "المشاريع الوهمية التي لا ترى النور"، وذكّر بقضية الموازنات التي تضمنت بناء ثلاثة آلاف مدرسة منذ 2014، ولكن على أرض الواقع لم يتم بناء سوى 300 مدرسة، وفي بعضها تم شراء الأرض فقط من دون وجود مبنى". 

تقرير أصدره البنك الدولي في أكتوبر 2021 خلص إلى "مستويات التعلم في العراق من بين أدنى المستويات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، ورجح التقرير أن يتدنى مستوى التعليم أكثر بسبب تأثير جائحة فيروس كورونا على التعليم. 

وفي أبريل 2021، تحدثت رئيسة هيئة الاستثمار الوطنية سهى النجار عن استعادة أكثر من 400 ألف دونم من أراضي الدولة، كانت محجوزة تحت مظلة "المشاريع الاستثمارية الوهمية وغير المنجزة"، وقدرت قيمة الأراضي المستعادة بـ 90 تريليون دينار عراقي (نحو 62 مليار دولار). 

ووفقا لأرقام رسمية نشرت عام 2020، فإن سوء الإدارة في العراق كان السبب وراء اختفاء أكثر من 400 مليار يورو خلال قرابة 20 عاما، ذهب ثلثها الى خارج البلاد، بحسب تقرير لوكالة فرانس برس. 

غياب المحاسبة 

يقول النائب جمال كوجر إن محاكمات قضايا الفساد في العراق إن حصلت "فهي تستهدف مسؤولين في مراكز ثانوية"، وتابع "لم نشهد إقالة وزراء ومسؤولين، ولكن تم الكشف عن بعض القضايا خلال السنوات الأخيرة من دون اتخاذ إجراءات بحق كبار المسؤولين المتورطين". 

وعزا كوجر عدم القدرة على محاسبة المتورطين في الفساد إلى أسباب أهمها "عدم وجود أرقام دقيقة عن قضايا الفساد، وذلك لعدم وجود مؤسسات رقابية بشكل حقيقي، ناهيك عن وجود المحاصصة التي تجعل من غير الممكن تنفيذ الرقابة والتدقيق في موازنات الوزارات". 

وفي تقريرها السنوي لعام 2021، كشفت هيئة النزاهة الاتحادية عن تورط أكثر من 11 ألف مسؤول حكومي في قضايا فساد، بينهم 54 وزيرا، وأضافت الهيئة أنها وجهت إليهم أكثر من 15 ألف تهمة. 

وأفاد التقرير بأن التحقيقات أسفرت عن إصدار 632 حكم إدانة للمتهمين، من بينها حكم واحد بحق وزير، و42 حكما بحق 23 من ذوي الدرجات الخاصة والمديرين العامين ومن هم بدرجتهم، مع استمرار التحقيق في بقية القضايا. 

ومطلع أكتوبر، قالت مبعوثة الأمم المتحدة في العراق، جنين بلاسخارت، إن الفساد المستشري يشكل سببا جذريا رئيسا للاختلال الوظيفي في العراق، مضيفة "بصراحة، لا يمكن لأي زعيم أن يدعي أنه محمي منه".

وشددت بلاسخارت في إفادة أمام مجلس الأمن الدولي أن "الفساد سمة أساسية في الاقتصاد السياسي في العراق، وهو جزء من المعاملات اليومية، ولست أنا من يقول هذا فقط، إن ذلك أمر معترف به". 

وتحدثت عن قطاع حكومي غير فاعل متضخم يخدم الساسة لا الناس، وقالت "إن المصالح الحزبية والخاصة تبعد الموارد عن استثمارات مهمة في التنمية الوطنية". 

وفي أكتوبر، بعد تكليفه بتشكيله الحكومة، أعلن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، أن مكافحة الفساد في مقدمة أوليات حكومته. وأعلنت هيئة النزاهة في 16 نوفمبر عن تشكيل هيئة عليا للتحقيق بقضايا الفساد "الكبرى"، لكن العراقيين فقدوا الثقة بالوعود الحكومية، كما أن تشكيل لجان التحقيق لم يفض في الغالب إلى نتائج ملموسة في  القضايا الحساسة في مجالات الفساد واغتيالات النشطاء المدنيين وأصحاب الرأي.  

من المسؤول عن الفساد؟  

يقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية في بغداد، عبد الرحمن المشهداني، "كل حكومة تضع محاربة الفساد على جدولها"، ولكن في النهاية "يتم إقرار موازنات تصل لنحو 100 مليار دولار في بعض السنوات من دون القدرة على توفير أبسط الخدمات". 

وأشار المشهداني، في حديث خاص مع موقع "الحرة"، إلى أن مؤشر مدركات الفساد يظهر "تراجع مرتبة العراق بشكل دائم، ما يعني أن الفساد إلى ازدياد". 

ويشرح أن العديد من المشاريع الحكومية "غير المنجزة يتم صرف الأموال عليها، ناهيك عن المشاريع الوهمية، أو حتى المشاريع قيد الإنجاز التي تنفذ من دون مواصفات". 

ويحمل المشهداني "الكتل السياسية المختلفة، بغض النظر عن مكوناتها أكانت سنية أو شيعية أو كردية" المسؤولية عن انتشار وتفاقم مشكلة الفساد في العراق، موضحا أن "المحاصصة لها دور أساسي بالفساد لأنها جاءت بأشخاص لا يصلحون لتسلم مؤسسات الدولة". 

ويتابع المشهداني أن المناصب في العراق "أصبحت تباع وتشترى، بما يشمل المناصب الوزارية أو الوكلاء العامين أو مدراء المؤسسات"، مشيرا إلى وجود كل أنواع الفساد في البلاد وعلى جميع المستويات. 

ويشير المشهداني إلى عدم وجود إحصاء دقيق يكشف حجم الأموال المهربة ومستوى الفساد في العراق، لكن ثمة "تقديرات بأن الفساد كبد العراق خسارة 350 مليار دولار حتى عام 2018، ويُعتقد أن الرقم الآن قد يكون تجاوز 500 مليار دولار". 

الفقر في العراق 

يسجل الفقر في العراق مستويات مرتفعة مقارنة بدول المنطقة. وبحسب تصريحات المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية في أبريل 2022 اعتمادا على أرقام رسمية، بلغت نسبة الفقر 22.5 في المئة في البلاد في 2019. 

وتتوقع وزارة التخطيط العراقية أن نسبة الفقر ارتفعت إلى 25 في المئة بين السكان، وعددهم 40 مليون نسمة، بسبب جائحة كورونا، فيما تبلغ نسبة الفقر المدقع في العراق حوالي 1 في المئة من السكان، وهم مهددون بالجوع. وهي أرقام تدعمها أيضا توقعات سابقة للبنك الدولي.

ويعتمد قياس مؤشرات الفقر على عدة عوامل بينها الصحة والسكن والتعليم والدخل والحاجة إلى الغذاء، بحسب وزارة التخطيط العراقية.  

ويختلف مفهوم "الفقر" عن "الفقر المدقع" أو "الفقر المطلق"، إذ إن الأخير تعرفه الأمم المتحدة بأنه "حالة تتسم بالحرمان الشديد من الاحتياجات الإنسانية الأساسية، بما في ذلك الغذاء ومياه الشرب المأمونة ومرافق الصرف الصحي والصحة والمأوى والتعليم والمعلومات، وذلك يعتمد ليس فقط على الدخل ولكن أيضا على الحصول على الخدمات". 

وطرح العراق استراتيجية وطنية لخفض نسبة الفقر للسنوات 2018-2022 إلى 16 في المئة، ولكن الاستراتيجية لم تنجح في تحقيق ذلك. 

وفشلت أيضا استراتيجية أطلقها العراق عام 2010 لخفض نسبة الفقر إلى 15 بالمئة بحلول عام 2013، وبسبب أزمات عانتها البلاد عام 2014 عادت النسبة إلى الارتفاع مجددا لتصل إلى 22.5 في المئة. 

وزير التخطيط، خالد بتال النجم قال في تصريحات في أغسطس 2020 إن "تداعيات فيروس كورونا، تسببت بإضافة 1.4 مليون عراقي جديد إلى إجمالي أعداد الفقراء"، مشيرا إلى أن "عدد الفقراء بموجب هذا الارتفاع، بلغ 11 مليونا و400 ألف فرد، بعدما كان قبل الأزمة حوالي 10 ملايين فرد، كما أن "نسبة الفقر ارتفعت إلى 31.7 في المئة، والتي كانت 20 في المئة في عام 2018". 

المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية، عبد الزهرة الهنداوي، قال لموقع "الحرة"، إن الفقر في العراق يبلغ 23 في المئة، اعتمادا على آخر مسح اقتصادي للسكان أجري في 2018. وأشار إلى النية لإجراء مسح جديد لتحديد نسب الفقر بشكل أدق خلال الفترة المقبلة. 

وأضاف أن نسبة الفقر في بعض المناطق تتجاوز نصف عدد السكان، مثل منطقة المثنى التي يبلغ فيها الفقر حوالي 52 في المئة، تليها محافظات الجنوب ونينوى. 

وأشار الهنداوي إلى أن عوائد النفط لم تنعكس على متطلبات التنمية في العراق "خاصة وأن الجانب الأكثر من هذه العوائد يذهب للجانب التشغيلي، بالإنفاق على رواتب العاملين في الدولة، وشبكة الحماية الاجتماعية والبطاقة التموينية. أما الجانب الاستثماري فلم يلب متطلبات التنمية على مر السنوات الماضية".

البطالة في العراق 

وتبلغ معدلات البطالة في العراق، بحسب المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية، 16.5 في المئة، وذلك بموجب مسوحات نفذتها الجهات الرسمية بالتعاون مع منظمة العمل الدولية في 2021، من بين من تتجاوز أعمارهم 15 فأكثر. 

ارتفعت نسبة البطالة بين فئة الشباب العراقيين بين 15-24 عاما من 17.1 بالمئة عام 2003، إلى 27.20 عام 2021، بحسب الجدول أعلاه. 

البطالة تنتشر بين "فئة الشباب الذين يشكلون الشريحة الأكبر بين السكان في العراق
بحسب الهنداوي

معللا الأسباب بأن "الشباب أصبحوا يبحثون عن العمل في وظيفة حكومية، وبسبب غياب المزايا الاجتماعية لدى القطاع الخاص". 

وزاد أن "القطاع الخاص ليس ناشطا بما يكفي لسد حاجة فرص العمل في السوق العراقية"، مشيرا إلى أن "تحسن الأوضاع الاقتصادية في العراق رهن تحسن أسعار النفط". 

ووفق تقديرات البنك الدولي، ارتفعت نسبة البطالة في العراق لتصبح 23 في المئة في 2021 بعدما كانت 12 في المئة في 2020، إذ تآكل دخل العراقيين بنسبة 16 في المئة. 

الأرقام والفساد 

الخبير الاقتصادي العراقي، عبدالحسين الهنين، شكك "بجميع البيانات التي تصدر من وزارة التخطيط حول معدلات الفقر أو البطالة، وكذلك بقية المؤشرات الاقتصادية". 

وأضاف، في حديث خاص مع موقع "الحرة"، أن هناك سببين لهذا التشكيك "الأول أن أجهزة الوزارة لا تمتلك أية أدوات علمية للقياس، وتعتمد على مسوحات يجريها موظفون كسالى يضعون بياناتهم معتمدين على انطباعات الشخصية المتأثرة بما يسمعونه من التقارير الموجهة، والتي تعتمد المبالغة في بيان سوداوية الحياة في العراق بهدف زيادة المتابعين". 

وتابع الهنين، وهو مستشار لعدة رؤساء وزراء سابقين، أن السبب الثاني "مرتبط بالفساد، حيث كلما زاد عدد الفقراء في الأوراق الرسمية زادت التخصيصات المالية التي تمنح عبر مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وتذهب الأموال المخصصة لأسماء وهمية لتمويل حزب الوزارة المعنية بحسب عرف المحاصصة السائد". 

"من الناحية العملية"، يقول الهنين، "هناك فقراء في العراق لكن في المقابل هناك زيادة كبيرة في معدل دخل الفرد العراقي، تترافق مع عدم وجود عدالة في التوزيع، فمثلا هناك حوالي 50 مليار دولار سنويا توزع رواتب لملايين من الموظفين بما يشبه نوع من الرعايا الاجتماعية غير العادلة". 

ويوضح الهنين أن هناك أنواعا من البطالة في العراق "البطالة الكبرى" للباحثين عن عمل ولا يجدونه، و"البطالة الاختيارية أو المقنعة" والتي تسود القطاع الحكومي الذي يستنزف الجزء الأكبر من واردات النفط، إذ يحجم الشباب عن العمل في القطاع الخاص ويبقى بانتظار الوظيفة الحكومية. 

وتابع أن "وجود النفط ساهم في إدامة ثقافة الكسل والاعتماد على أبوية الدولة، مما زاد من عمر سيطرة طبقة غير مؤهلة على السلطة في العراق اعتمدت في بقائها على استخدام ثروة النفط كرشى انتخابية لغالبية غير واعية من الشعب، لتمثل هذه الثروة الريعية السبب الرئيس في إيقاف عجلة التنمية بشكل تام مما جعل البلاد أمام مستقبل مجهول في حالة تحقق افتراض تراجع أسعار النفط". 

الناتج المحلي الإجمالي 

رغم أن مصدر هذه البيانات هو صندوق النقد الدولي، ترى دراسة نشرها مركز صنع السياسات بعنوان "الاقتصاد العراقي: التحديات والخيارات"، أن هذه التقديرات قد تكون "غير دقيقة" كونها استندات إلى "تنبؤات غير دقيقة لأسعار النفط".

وتظهر هذه البيانات وجود تذبذب في الأرقام طيلة السنوات الماضية. وفيما يبلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي حوالي 157 مليار دولار، بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 4540 دولار. 

رئيس المجلس الاقتصادي العراقي، إبراهيم البغدادي، قال إن رغم هذه المؤشرات، تعد مشكلة "الفقر والبطالة في العراق إحدى التحديات الرئيسية التي تواجه صناع القرار، خاصة وأن معدل نمو السكان والأعداد الهائلة من الخريجين سنويا تضيف باستمرار الآلاف لجيوش البطالة، والتي تترافق مع ازدياد معدلات الفقر". 

ويرى البغدادي في حديث لموقع "الحرة" أن الحكومات المتعاقبة منذ 2003 وإلى اليوم عجزت عن حل هذه المشكلة بسبب عوامل متعددة لعل أبرزها تفشي الفساد الإداري والمالي في معظم مفاصل الدولة العراقية، وانتهاج نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي عرقل تسخير قدرات البلد وامكانياته المالية نحو تبني سياسة اقتصادية إصلاحية تعالج الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها اقتصاد العراق منذ عقود". 

وأضاف أن "دوائر الدولة تعاني من التخمة بالموظفين الحكوميين إذ فاق العدد الإجمالي خمسة ملايين موظف، في حين تشير بعض الدراسات إلى إمكانية توظيف أقل من 500 ألف موظف فقط من دون أن تتأثر مخرجات المؤسسات الحكومية وخدماتها". 

النمو الاقتصادي 

يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي في العراق بنسبة 8 في المئة خلال العام 2022، وذلك يعود إلى زيادة الإنتاج النفطي المتوقعة بنسبة 12 في المئة.

ولكن في الوقت ذاته يحذر من آفاق مخاطر سلبية تلوح في الأفق، ترتبط بتراجع أسعار النفط عالميا. 

وتكشف دراسة "الاقتصاد العراقي: التحديات والخيارات" أن أرقام النمو المتحققة ما هي إلا انعكاس للنشاط التصديري للنفط، وسط غياب كامل لأي نمو حقيقي ناتج عن الاستثمار المحلي أو الأجنبي. 

وتضيف أن لهذا الأمر "دلالات اقتصادية عميقة أبرزها أن الاقتصاد العراقي بات دالة لسوق النفط. وبتراجع الأسعار يدخل العراق في أزمة مالية، خاصة في ظل غياب موارد مالية لتمويل الاقتصاد بكل نشاطاته وفعالياته باستثناء النفط". 

وانتقدت الدراسة غياب "استراتيجية التنويع الاقتصادي سواء في الإنتاج أو التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي". 

ويصف الاقتصادي الهنين النمو الوحيد المتحقق في العراق من النفط بـ"النمو السرطاني" إذ إنه " ينشط في تعطيل الدولة على حساب الحريات الفردية"، خاصة وأنه ناتج عن "ثنائية النفط والديمقراطية المستحيلة". 

ويشرح أنه هناك "علاقة طردية بين الاعتماد الكلي للدولة في إيراداتها على النفط وضعف القاعدة الاقتصادية التي تجمع الأفراد للمطالبة بحقوقهم السياسية، فمن لا يساهم في الدخل ليس له الحق في اتخاذ القرار والمشاركة السياسية الفعلية، لتتحول الغالبية العظمى من المجتمع إلى مجرد أتباع لحاكم أو حزب معين ورعايا يسعون وراء منافع فئوية وشخصية تتأثر بما تقوم به الدولة من إعادة تدوير العائد النفطي على هيئة إنفاق حكومي موسع هدفه الأساسي تكريس الوضع القائم". 

ويشير رئيس المجلس الاقتصادي العراقي، إبراهيم البغدادي، إلى أن "عوائد النفط، للأسف، لا يتم توزيعها بشكل عادل بين أفراد المجتمع، إذ استأثرت فئة بها، واتخمت بالأموال فيما ظلت الفئات الفقيرة والمهمشة تعاني من ظروف عيش صعبة بل وازدادت أعدادها، وذلك يعود إلى أن الحكومات المتعاقبة سخرت العائدات النفطية لمصالحها الحزبية والشخصية الضيقة وراحت تغدق الأموال على أتباعها وتغض النظر عن الهدر في موارد الدولة وموازناتها التشغيلية والاستثمارية على حد سواء". 

مؤشرات التنمية البشرية 

وفق تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة، يعتبر العراق ضمن تصنيف "الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة"، والتي تتراوح فيها قيمة المؤشر بين (0.500-0.799). 

ورغم أن عدة دول عربية ضمن تصنيف "الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة" إلا أن قيمة المؤشر في العراق أقل مما هي عليه في مجمل الدول العربية والذي يبلغ (0.708) في عام 2021. 

ويتكون مؤشر التنمية البشرية، من عدة متغيرات فرعية تتعلق بالعمر المتوقع والصحة والتعليم والناتج القومي الإجمالي للفرد وعوامل أخرى. 

وبحسب المتغيرات الفرعية للتقرير الأخير في عام 2021، يبلغ متوسط العمر أكثر من 70 عاما، فيما يبلغ معدل سنوات الدراسة 12 عاما متوقعا، في حين يبلغ المعدل الحقيقي 7 أعوام، والناتج القومي الإجمالي للفرد 9977 دولار. 

السعادة والرخاء 

يعتبر العراق، وفق مؤشر السعادة العالمي، الذي بدأت الأمم المتحدة إصداره في 2013، من الدول "الأكثر حزنا"، إذ يحل في ذيل المؤشر الذي يرصد علامات السعادة في 146 دولة. 

عرفت الأمم المتحدة في عام 2012 السعادة بأنها "مدى رضا الشخص عن حياته" بالاعتماد على 6 معايير: نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومتوسط عمر الفرد، وحرية اتخاذ القرارات، بالإضافة إلى جودة الخدمات الصحية والتعليمية، وانعدام الفساد، وانتشار العدل. 

ما الذي يجعل العراقيين تعساء؟ 

يعزو أستاذ علم الاجتماع في جامعة الموصل، موفق الويسي، أحساس العراقيين بالتعاسة على نطاق واسع إلى أسباب منها: "معاناة الشعب العراقي من حروب وحصار على مدى الأربعين عاما الماضية، وحروب دمرت البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن التدخلات المستمرة من جهات إقليمية ودولية". 

لا يمكن الحديث عن أي شيء يتعلق بالعراق، يتابع الويسي، من دون ذكر "الفساد العميق المستشري في كل المؤسسات، وتدهور الخدمات والمؤسسات الاقتصادية والصحية والتعليمية، والتمزقات التي أنتجت مبدأ المحاصصة السياسية على أساس طائفي". 

ولا ترتبط أسباب تراجع العراق في مؤشرات السعادة، وفقا لشيماء عبد العزيز، أستاذة علم النفس في جامعة بغداد، بما حصل بعد 2003 فقط، إذ كان العراقيون ولا يزالون يعانون من "تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الذي تنعكس على جودة حياة أفراد المجتمع وشعورهم بالأمان والاستقرار والسعادة والرضى". 

"من المستحيل أن يشعر العراقي بالسعادة وهو غير قادر على الحصول على أبسط حقوقه، ناهيك عن الأزمات المتلاحقة التي تفرض نفسها على الواقع العراقي"، تقول المتخصصة في علم النفس. 

وتتفق عبدالعزيز مع الآراء الواردة في سياق هذا التقرير بأن "الفساد في مؤسسات الدولة له دور كبير جدا" في تعزيز عدم الشعور بالسعادة خاصة في ظل تأثيره الذي أدى إلى ندرة الفرص الاقتصادية المتاحة للشباب خصوصا.