في مشهد مألوف، تواصل الدول العربية غياباها بشكل كبير عن منصات التتويج في دورات الألعاب الأولمبية، وذلك منذ بدء مشاركاتها في هذا الحدث الرياضي العالمي الذي نشهد فصوله مرة كل 4 أعوام.
ورغم الإمكانات الهائلة والموارد المتاحة لدى العديد من الدول العربية، فإن الحصيلة الإجمالية للميداليات تظل قليلة ومتواضعة مقارنة بدول أخرى أصغر حجما أو أفقر اقتصاديا.
فعلى سبيل المثال، جمعت كينيا، وهي دولة أفريقية نامية، 103 ميداليات أولمبية حتى نهاية أولمبياد طوكيو 2020، بينما حققت الدول العربية مجتمعة نحو 129 ميدالية قبل بدء نسخة باريس الحالية.
وبالإضافة إلى ذلك، تبرز دول صغيرة الحجم مثل جمهورية الدومينيكان، التي حققت تقدما ملحوظا بحصدها 12 ميدالية منذ بداية مشاركاتها الأولمبية، وهو إنجاز لا يمكن التقليل من شأنه.
وهذه الفجوة الواسعة في الأداء الرياضي، تُطرح كثير من التساؤلات حول الأسباب الكامنة وراءها، فهل هو غياب التخطيط السليم والتدريب المستدام؟ أم هو نقص الاستثمار في الرياضة من قبل الحكومات؟ أم أن هناك عوامل ثقافية وسياسية تلعب دورا رئيسيا في هذه الظاهرة؟
وتشارك مصر، أكبر الدول العربية من حيث السكان، بانتظام في هذا الحدث العالمي الرياضي الضخم، وذلك منذ دورة الألعاب الأولمبية في ستوكهولم عام 1912، حيث حصدت 38 ميدالية ملونة لتتفوق على بقية الدول العربية في منصات التتويج حتى الآن.
ومع ذلك، يرى الناقد الرياضي المصري، ياسر أيوب، في حديث سابق إلى موقع "الحرة" أن بلاده لا تزال متأخرة في تطوير قدرات الرياضيين الأولمبيين، موضحا: "في عام 1984 في دورة لوس أنجلوس، فازت الصين بأول ميدالية أولمبية في تاريخها، بينما كان لدى مصر حينها أكثر من 20 ميدالية".
وزاد: "اليوم، الصين لديها أكثر من 500 ميدالية وتحصل على المراكز الأولى".
"سؤال متكرر"
وفي حديثهم إلى موقع "الحرة"، أكد محللون وإعلاميون رياضيون أنه لا توجد خطط استراتيجية واضحة لدى السلطات المختصة في الدول العربية بشأن إعداد وصناعة أبطال رياضيين تكون لهم القدرة على حصد الميداليات المتنوعة في المحافل الدولية، لاسيما الألعاب الأولمبية.
وفي هذا الصدد، قال المحلل والإعلامي الرياضي اليمني، رائد عابد، في اتصال هاتفي: "للأسف هذا السؤال أصبح يتكرر لدى الرأي العام العربي كل 4 سنوات وتحديدا قبل انطلاق أي نسخة من الألعاب الأولمبية".
وتابع: "في الحقيقة لا يوجد لدينا في الدول العربية، أي خطط استراتيجية ... كما أنه لا يوجد لدينا كادر مؤهل؛ لأننا هنا نتحدث عن (صناعة) أو بناء أبطال، والبناء يحتاج دائما إلى أساس قوي".
وتابع: "من يريد أن يبني مصنعا مزدهرا أو بناء شامخا، يجب عليه أن يبدأ أولا بوضع أساس قوي، وللأسف الشديد معظم وزارات الشباب والرياضة وجل الاتحادات واللجان الأولمبية في العالم العربي هي عبارة عن مناصب سياسية مقسمة بين أعضاء الأحزاب الحاكمة أو بين شخصيات نافذة".
ولذلك، والكلام لعابد، فإن "عدم وجود الكادر المؤهل والمدرب يأتي في مقدمة أسباب الإخفاقات العربية، وأما الأمر الثاني، فيتجلى بعدم وجود المراكز الرياضية القيمة والحديثة، وإن وجدت، فلا يتوفر لديها الدعم المادي للرياضيين الواعدين القادرين على تحقيق الإنجازات".
وضرب مثلا، فقال: "لدينا المصارع المصري، كرم جابر، الذي حصل على ذهبية وزن 96 كليوغراما في المصارعة الرومانية بأولمبياد أثنيا 2008 وفضية أولمبياد لندن 2012".
وزاد: "كان يجب على اللجنة الأولمبية المصرية أن تخصص مبلغا شهريا محترما لذلك بحيث يضمن تدريبا على على مستوى عال، بالإضافة إلى حصوله على التغذية المناسبة والرعاية الطبية الملائمة".
الاهتمام منذ الصغر
من جانبه، أوضح المحلل والإعلامي الرياضي الجزائري، محمود علاق، في حديثه إلى موقع "الحرة" أن "صناعة أبطال أولمبيين في الدول العربية لا تزال مهمة شاقة"، لافتا إلى "تلك المعضلة مستمرة منذ عقود طويلة".
وأردف: "فحتى يتم تجهيز أبطال أولمبيين، ينبغي متابعة هؤلاء الرياضيين وإعدادهم في سن صغيرة جدا تبدأ من مرحلة الطفولة".
وتابع: "فعلى سبيل المثال، هناك أمر يدعى (الرياضة المدرسية)، التي من خلالها يمكن للمعلمين أن يكتشفوا مواهب معينة في مجال العديد من الرياضات الفردية خاصة ألعاب القوى لأنها الأكثر ممارسة في المدارس".
ونوه إلى أن هناك "مسابقات مدرسية في مجال الجري تتم على المستوى الجهوي (أقاليم البلاد) أو على صعيد الجزائر، حيث يجري التركيز على سباقات 1500 متر وثلاثة آلاف متر".
وشدد على أن الكثير من المشاركين تكون أعمارهم بين 7 و9 سنوات؛ وبالتالي يمكن من خلال تلك المسابقات اكتشاف الكثير من المواهب ورعايتها وإعدادها لتسير على خطى أبطال جزائريين، مثل توفيق مخلوفي، وحسيبة بولمرقة.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الجزائر حققت 9 ميداليات ملونة في ألعاب القوى قبل انطلاقة أولمبياد باريس، بينها 4 ذهبيات و3 فضيات.
وبعد أن فازت الجزائر بذهبية جديدة في باريس عن طريق لاعبة الجمباز، كيليا نمور، فقد ارتفع رصيدها في الميداليات حتى الآن إلى 18 ميدالية ملونة، منها 6 ذهبيات.
وفي السياق ذاته، اعتبر الإعلامي الرياضي المغربي، أنس صوت الريح، في حديثه إلى موقع "الحرة" أن "تكوين وإعداد أبطال أولمبيين يقتضي انخراط كل فئات المجتمع في تلك المسألة، بحيث تجري تهيئة أرضية تساعد على نشأة هؤلاء الرياضيين".
ورأى صوت الريح "أن أبرز مشكلة تواجهنا هي على مستوى الرياضة المدرسية، فعدم رصد الإمكانيات البشرية والمادية للرياضة المدرسية يكلفنا إضاعة فرصة اكتشاف العديد من المواهب وصقلها".
ونبه إلى أنه "لا يمكن تكوين أبطال أولمبيين من المستوى العالي في ظل غياب الرياضة المدرسية، وهذا نلاحظه بشكل جلي حين نرى مثلا طريقة أميركا في تكوين الأبطال الأولمبيين".
وإلى جانب ذلك، وفقا للإعلامي المغربي، يجب على البلدان العربية وضع استراتيجيات رياضية واضحة على المدى البعيد حتى يتم استغلال الموارد المالية المرصودة بشكل عقلاني.
وبالنسبة للمغرب، يظن صوت الريح، أن بلاده أضاعت فرصة ذهبية على مستوى ألعاب القوى، موضحا: "لحدود الآن لم نستغل التاريخ الكبير الذي نتوفر عليه في هذه الرياضة والشعبية الكبيرة لها بين المغاربة".
وأضاف شارحا: "كان بالإمكان أن يتحول المغرب لقوة ضاربة في هذه الرياضة كما هو الحال لكينيا التي تحرز ميداليات عديدة بفضل هذه الرياضة رغم قلة الإمكانيات".
وخلص إلى أنه "يجب إعادة النظر في طريقة اكتشافنا ومواكبتنا لمواهب هذه الرياضة حتى نصبح قادرين في المستقبل على تكوين مجموعة من الأبطال الأولمبيين فيها".
"هدر للمال العام"
من جانبه، أشار الناقد الرياضي المصري، أيوب، إلى أنه يجري صرف أموال ضخمة على رياضات يعلم المسؤولون أنه لا يمكن تحقيق نتائج مبهرة فيها، على حد تعبيره.
وفي حديثه، قال أيوب إنه "عندما تصرف 20 مليون جنيه (414 ألف دولار) على رياضة الفروسية من أجل مشاركة فارس واحد تحت اسم مصر، و8.5 مليون جنيه (175 ألف دولار) فقط على رياضة القوس والسهم التي خرج لاعبوها من المنافسة في أول يوم (من أولمبياد باريس)، فماذا تتوقع؟ هذا إهدار للمال العام".
وبدوره، يرى الناقد الرياضي المصري المعروف، حسن المستكاوي، أن "هناك فروقات علمية وعملية كبيرة بين الرياضيين المصريين والعرب على حد سواء، والرياضيين من دول أخرى خلال دورات الألعاب الأولمبية، حيث يفتقر الرياضي المصري إلى التدريب استنادا إلى الأسس العلمية والتقنية ويعتمد كل شيء على عقليات التدريب القديمة".
ويضيف في حديث سابق لموقع "الحرة" أن "الفروقات كانت واضحة في دورة الألعاب الأولمبية الماضية في طوكيو، حيث حققت البعثات العربية مجتمعة نحو 18 ميدالية فقط، فيما لو نظرنا على الولايات المتحدة سنجدها حققت منفردة 113 ميدالية".
لهذا "نحن أمام وضع رياضي، لا يحتاج فقط إلى تغيير العقلية؛ بل تغيير المنظومة بأكملها وإعادة بنائها مرة أخرى"، وفق المستكاوي.
ويضيف: "منذ 90 عاما وتلقي الاتحادات الرياضية في مصر باللوم على عوامل خارجية في إخفاقاتها الدولية، وهذا الحديث يتكرر كل منافسة، حيث مرة نلوم الحكام أو الطقس، أو حتى اللياقة البدنية. لقد حان الوقت لنفهم أن الأمور أعمق بكثير".
وأكد أن بلاده "في حاجة إلى التركيز على الألعاب التي تناسب القدرات والجينات، في سبيل تحقيق نتائج ملموسة بالأولمبياد".
ويقول: "إذا كنا نريد أن ننافس على مستوى عالمي، علينا أن نفهم ونتعلم من الآخرين، وأن نتوقف عن تكرار نفس الأعذار والانتقادات التي لا تغير شيئا".
هل الحل في التجنيس؟
وفي المقابل، تلجأ بعض الدول العربية التي لا يوجد فيها كثافة سكانية كبيرة مثل البحرين وقطر، إلى سياسة تجنيس بعض الرياضيين الأجانب لتحقيق إنجازات تاريخية.
وخلال النسخة الماضية في طوكيو التي أقيمت عام 2021 بسبب وباء كوفيد، حازت قطر على ميداليتها الأولمبية الذهبية الأولى في تاريخها بفضل بطل رفع الأثقال الرباع، فارس حسونة، الذي ينحدر من عائلة رياضية مصرية، فوالده إبراهيم مثّل مصر في أولمبياد 1984 و1988 و1992، وبدأ ممارسة هذه الرياضة بعمر التاسعة بإشراف والده.
كما أن العداء القطري من أصول سودانية، معتز برشم، حقق ذهبية تاريخية في أولمبياد طوكيو ذاتها بالفوز بمسابقة الوثب العالي بألعاب القوى.
وأما البحرين، التي بدأت مشاركاتها الأولمبية في لوس أنجلوس عام 1984، ففي سجلها 4 ميداليات حققتها كلها عن طريق رياضيين مجنسين، إذ كانت البداية في أولمبياد لندن 2012 عن طريق العداءة، مريم جمال، التي نالت ذهبية سباق 1500 متر.
وفي هذا الصدد، رأى المحلل والرياضي الجزائري، إدريس حواس، في حديث سابق لموقع "الحرة": "نرى ظاهرة التجنيس الرياضي أمرا واضحا في دول الخليج، لا سيما قطر والبحرين والإمارات، وهذا أمر يعود للقيادات في تلك الدول، ولا يحق لأحد الاعتراض عليه".
ويضيف: "من حق تلك الدول التي لديها إمكانيات مادية كبيرة وتعاني نقصا في أعداد السكان، أن تسعى لإثبات وجودها في الساحات الرياضيات القارية والدولية عن طريق الاستثمار في لاعبين أجانب، وهذا أيضا يؤدي إلى تعزيز المنافسة وطرح مزيد من التشويق، بحيث لا تبقى المنافسة محصورة بين عدد قليل من الدول".
وفي السياق ذاته، قال الناقد عابد لموقع "الحرة" إنه "بالنسبة لي التجنيس ليس عيبا، ولكن حتى هذا الحل يكلف أموالا طائلة في تدريب وتأهيل ومكافآت أولئك الرياضيين".
وأضاف متسائلا: "لماذا لا تصرف تلك المبالغ على الرياضيين من أبناء البلد الأصليين، ولكن لا يمكن أن نلوم الدول التي تعاني قلة السكان، خاصة إذا كان لديها الإمكانات المادية للاستفادة من مواهب أجنبية تبحث عمن يرعاها".
وأردف: "وللعلم التجنيس ليس قاصرا على الدول العربية، فمثلا في بطولة أمم أوروبا الأخيرة لكرة القدم شاهدنا الكثير من الاعبين الأفارقة المجنسين الذين شاركوا مع العديد من منتخبات القارة العجوز".
وشدد على أن ظاهرة التجنيس موجودة حتى في دولة عظمى مثل الولايات المتحدة، "ولكنه يبقى أمرا غريبا بالنسبة لنا نحن العرب".
وختم بالقول: "باختصار مشكلتنا في صناعة أبطال أولمبيين لها أبعاد سياسية واقتصادية وفكرية، حيث يجب أن تتغير العقليات المسؤولة عن قطاع الرياضة في الدول العربية ومن أعلى الهرم ... فالإنسان العربي لا يقل في إمكانياته عن غيره في أوروبا وأميركا وغيرها، ولكن بشرط توفر الأسس اللازمة".