القتال دار حول قرية قنيص وبلدة الروصيرص
القتال دار حول قرية قنيص وبلدة الروصيرص

في غياب أمني واضح، اندلعت اشتباكات قبلية في ولاية النيل الأزرق الحدودية مع إثيوبيا، في جنوب السودان، لتتخذ السلطات المحلية إجراءات أمنية، لكن يستمر مسلسل سقوط الضحايا ليصل عدد القتلى إلى أكثر من 60 شخصا حتى الآن. 

وتشير التقارير إلى أن التوتر بدأ في مناطق قيسان والرصيرص وود الماحي، بين الهوسا ومجموعة من القبائل بعد مقتل مزارع في منطقة اداسي التابعة لمحلية قيسان، في اليوم الأول لعيد الأضحى.

وانتقل النزاع القبلي من أداسي إلى قنيص، التي قُتل فيها 13 تاجرًا وأحرقت متاجر في السوق، كما انتقلت الاشتباكات إلى مناطق بكوري وأم درفا بولاية النيل الأزرق.

يوضح مدير معهد التحليل السياسي والعسكري بالخرطوم، الرشيد إبراهيم، في حديثه مع موقع "الحرة" أن الاشتباكات تجري بين فريقين، قبيلتي البرتا والفونج من جانب، وقبيلتي الهوسا والفلاتة من جانب آخر. 

"فراغ أمني" 

تتجدد هذه الاشتباكات بين المزارعين والرعاة في فترات الخريف ونزول الأمطار حيث تعد خلافات على قضايا الزراعة، بحسب إبراهيم، الذي يشير إلى أن من أسباب اندلاع مثل هذه الاشتباكات أيضا، إلى "حالة الانقسام في المشهد السياسي السوداني، والتي أدت إلى ضعف قبضة الحكومة على مفاصل الدولة، وأصبحت تتسم بقدر كبير من الهشاشة والسيولة، وهذا يغري بعض الجماعات المتفلتة باستغلال الوضع وتنفيذ ما ترى أنه القانون، بيدها". 

وأضاف "هناك فراغ واضح جدا لأنه لو كان هناك قوات وحضور أمني وتدخل مباشر، لم نكن سنرى كل هذه الخسائر ولا عدد القتلى الذي بلغ أكثر من 60 شخصا حتى الآن، وهو رقم مرشح للزيادة، في ظل عدم استقرار الوضع نهائيا حتى الآن، وربما يتجدد في أي لحظة". 

وليست الحال في ولاية النيل الأزرق مثلما يحدث في إقليم دارفور في السودان، حيث تدور اشتباكات تتجدد من حين لآخر، بين قبائل عربية وأخرى أفريقية، "لكن كل القبائل التي تسكن ولاية النيل الأزرق أصلها أفريقي"، بحسب إبراهيم. 

يوضح إبراهيم أنه "في الفترة الانتقالية ظهرت فرص سياسية جديدة وأصبحت القبيلة كحاضنة اجتماعية ووحدة مهمة جدا في إطار التنافس حول المواقع السياسية، مثل الإدارة الأهلية، وتعيين بعض الأمراء القبليين من قبليتي الهوسا والفلاتة في منطقة هي تاريخيا محسوبة على قبائل البرتا، مما يثير حفيظة القبائل". 

وقال قيادي من قبائل الهوسا "طالبنا بأن تكون لنا إدارة أهلية، ورفضت (قبائل) البرتا ذلك وتحرشوا بنا".

في المقابل، رد قيادي من البرتا أن "الادارة الاهلية تعطى لصاحب الأرض وهذه أرضنا (..) كيف إذن نعطي الادارة للهوسا".

وتعتبر قبائل البرتا نفسها أصلية، وتعتبر الفلاتة والهوسا قبائل وافدة، حيث نزحت هاتان القبيلتان من نيجيريا وغرب أفريقيا وسكنا المنطقة منذ نحو مئتي إلى 300 عام، بحسب إبراهيم، الذي يضيف أنه "في الأعوام الأخيرة، أصبحت الفرص السياسية واحدة من محفزات الصراع"، بحسب إبراهيم. 

والإدارة الأهلية نظام قبلي معترف به بقانون الإدارة الأهلية، وبموجبه تتولى هذه الإدارة التي تتضمن العمدة والناظر والشيوخ، شئون القبيلة، "وعندما يتم تشكيل إدارة أهلية خاصة بقبيلة الهوسا، يعطيها ذلم مزيدا من النفوذ داخل الولاية مستقبلا، ولذلك ترفض قبيلة البرتا تشكيل الهوسا إدارة أهلية خاصة بها". 

"الحركة الشعبية مسؤولة"

واعتبر إبراهيم أن الفصيل الذي تولى السيطرة على المنطقة، بقيادة مالك عقار، "ليس بعيدا عن التقصير باعتبار أن الحركة الشعبية قطاع الشمال هي مسؤولة عن المنطقة حاليا". 

وأوضح أن مالك عقار عضو في المجلس السيادي، وهو أحد أطراف اتفاق السلام الذي تم توقيعه في جوبا في أكتوبر 2020، وأعطي بموجبه حكم ذاتي لولاية النيل الأزرق موقع الصراع الحالي، "وبالتالي هو جزء من الأزمة، لأنه لم يقم بواجبه كما ينبغي، لأن الوالي الحالي ينتمي للحركة الشعبية قطاع الشمال، لكن يبدو أن هناك ضعفا في الحركة". 

وأضاف: "بعد أن كانت الحركة ترفع قضايا التهميش والمظالم لولاية النيل الأزرق وقادت التمرد ضد الحكومة طيلة السنوات السابقة في عهد الرئيس السابق عمر البشير، فإنها عندما تولت زمام الأمور، لم تفعل ما يخفف هذه النزاعات وما يؤدي إلى إمكانية التعايش السلمي". 

وقالت حركة التمرد السابقة الموقعة على اتفاق سلام مع الحكومة السودانية في جوبا عام 2020 في بيان "نرفض محاولة تشويه صورة الحركة الشعبية وقيادتها وسوف تواجه الحركة ذلك التشويه بكل قوة سياسياً وإعلامياً  وقانونيا".

وكان النزاع الأهلي تجدد في ولايتي جنوب كردفان والنيل الازرق في 2011. وقد تضرر بسببه نحو مليون شخص بعد تاريخ طويل من القتال بين 1983 و2005.

ومنذ انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على شركائه المدنيين في السلطة في 25 نوفمبر، يشهد السودان نوعًا من الفراغ الأمني، خصوصا بعد إنهاء مهمة قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الإقليم، إثر توقيع اتفاق سلام بين الفصائل المسلحة والحكومة المركزية عام 2020.

ويشهد السودان اضطرابات سياسية واقتصادية، ويخرج للتظاهر بشكل منتظم آلاف السودانيين في العاصمة، ومدن أخرى، للمطالبة بعودة الحكم المدني.

ووضع المتظاهرون الأحد، في مقدمّة شعاراتهم ولاية النيل الأزرق حيث خلّفت الاشتباكات عشرات القتلى منذ بداية الأسبوع، بحسب آخر احصاء لوزارة الصحة بالولاية.

وفي كسلا شرق البلاد، أغلق عشرات من قبيلة الهوسا المدخل الغربي للمدينة وقاموا بوضع الحجارة وحرق إطارات السيارات القديمة تضامنا مع مواطنيهم في النيل الأزرق.

"الإجراءات الأمنية لا تكفي"

ومساء الأحد، أصدرت اللجنة الفنية لمجلس الأمن والدفاع برئاسة رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الفريق، عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن بيانا بشأن الأحداث بإقليم النيل الأزرق، التي وصفتها بـ"المؤسفة" والتي "راح ضحيتها نفر كريم من المواطنين وتضررت جراءها بعض الممتلكات الخاصة والعامة". 

وقررت اللجنة، التأمين على الإجراءات التي اتخذتها لجنة أمن الإقليم لمنع تفاقم الصراع بين مكونات المنطقة، وتوجيه النائب العام بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق تمهيدا للمحاسبة، مطالبة السلطات المحلية باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد مثيري الفتنة، والمحرضين على أعمال العنف، وتعزيز القوات الأمنية الموجودة بالمنطقة، والاستمرار في التعامل الحازم والفوري مع كل حالات التفلت والاعتداءات على الأفراد والممتلكات الخاصة والعامة". 

وكانت السلطات الأمنية في الولاية فرضت حظر تجول بمنطقة الرصيرص من الساعة السادسة مساء إلى السادسة صباحا بالتوقيت المحلي.

كما أصدر حاكم النيل الأزرق أحمد العمدة قرارا "بحظر التجمعات والمواكب لمدة شهر" اعتبارا من الجمعة.

ويرى مدير معهد التحليل السياسي والعسكري بالخرطوم، الرشيد إبراهيم، أن مجلس الأمن والدفاع "يسير في اتجاه وقف الاشتباكات الحالية"، متوقعا أن التدابير الأمنية ستفصل بين القبائل المتخاصمة، لكنها لا تمنع تجددها في المستقبل. 

ويصف إبراهيم هذه الخطوات بأنها "أولية"، مضيفا أن الإجراءات العسكرية والأمنية لن تحل الأزمة، "تبقى المعالجات السياسية والتنموية والخدمات والمقاضاة وفرض القانون مهمة، من أجل تدابير لسياسات طويلة الأمد، وإلا ستتجدد الاشتباكات ويستمر مسلسل الدماء". 

الحرب في السودان

تتفاقم آثار الكارثة الإنسانية في جميع أنحاء السودان، دون أن تظهر أي علامات على إمكانية تراجعها، جراء الحرب المستمرة في البلاد منذ نحو عامين.

لا يزال آلاف السودانيين يُقتلون ويُجوعون ويُغتصبون بوتيرة يومية، ويجبر العنف ملايين الأشخاص على ترك منازلهم والنزوح داخليا أو عبر الحدود إلى الدول المجاورة. 

تسبب  الصراع بـ"أسوأ حالة طوارئ إنسانية في العالم" وفق توصيف الأمم المتحدة، إذ تصدر السودان دول العالم في عدد النازحين داخليا بسبب الاقتتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، شبه الحكومية.

وتجاوز عدد النازحين قسرا داخل البلاد 9 ملايين شخص، بالإضافة إلى أكثر من 3.8 مليون لاجئ إلى الدول المجاورة، ما يعني أن نحو 13 مليون شخص قد فروا من العنف خلال العامين الماضيين، بحسب تقارير الأمم المتحدة.

وتحذر منظمات دولية، بينها اليونيسيف، من أن الموت يشكل "تهديدا مستمرا" لحياة الأطفال في السودان.

وفي محيط مدينة الفاشر، غربي البلاد، وحدها، يحاصر الموت ما يقرب من 825 ألف طفل، يواجهون قصفا مستمرا ونقصا حادا في أبسط مقومات البقاء على قيد الحياة.

وحذرت هيئة تابعة للأمم المتحدة من انتشار حالات الاغتصاب مع استمرار الحرب التي تفجرت بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه الحكومية منذ سنتين في السودان.

وقالت آنا موتافاتي، المديرة الإقليمية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة في شرق وجنوب إفريقيا: "بدأنا نشهد استخداما ممنهجا للاغتصاب والعنف الجنسي كسلاح حرب".

وشددت على أن "ما خفي كان أعظم، فهناك كثيرات لا يبلغن عن هذه الجرائم خوفا من العار وتحميل المسؤولية للضحايا، الذي يُلازم كل امرأة تتعرض للاغتصاب".

وأكد نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، مالك عقار، إن "الحكومة عازمة على تنفيذ كافة الاتفاقيات الخاصة بحماية النساء من العنف الجنسى والقضاء على التمييز، وانفاذ القانون وضمان عدم الإفلات من العقاب لمرتكبي جرائم العنف الجنسي ضد النساء والفتيات والأطفال".

وأشار عقار لدى لقائه، في بورتسودان، مع الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للعنف الجنسي في مناطق النزاعات، براميلا باتن، إلى أن "السودان ومنذ الشرارة الأولى أرسل العديد من التقارير المصورة والموثوقة لعدد من الهيئات والمنظمات الدولية والاقليمية ومنظمات حقوق الإنسان، توضح العنف الذي مارسته قوات الدعم السريع في حق النساء والفتيات والأطفال في السودان إلا أن الاستجابة كانت بطيئة مما فاقم الأوضاع لاسيما في المناطق التي كانت تسيطر عليها".

ونفت الدعم السريع في يوليو الماضي عن الانتهاكات التي تقع أثناء الحرب، إنها ستتخذ تدابير وقائية لمنع انتهاكات حقوق الإنسان.

خطر آخر يهدد المدنيين وعمليات الإغاثة يتمثل في الذخائر غير المنفجرة ومخلفات الحرب. وحذر رئيس برنامج الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في السودان، صديق راشد، من أن المناطق التي كانت آمنة أصبحت الآن ملوثة بشكل عشوائي بهذه الأسلحة القاتلة، بما فيها الخرطوم وولاية الجزيرة.

وقد تجسدت هذه المخاوف في حوادث مأساوية، حيث لقي مدنيون، بينهم أطفال ونساء، مصرعهم وأصيب آخرون بسبب انفجار هذه الذخائر.

وناشد صديق راشد الأطراف المتحاربة تجنب استخدام الأسلحة في المناطق المأهولة، وتسجيل المناطق الملوثة لتسهيل عملية التطهير، ودعا المجتمع الدولي لتقديم الدعم اللازم لجعل المناطق آمنة قبل عودة المدنيين.

وفي خضم هذه الكارثة الإنسانية المتفاقمة، توجه كليمنتاين نكويتا سلامي، منسقة الأمم المتحدة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية في السودان نداء عاجلا إلى المجتمع الدولي: الناس في وضع يائس.

وقالت: "نناشد المجتمع الدولي ألا ينسى السودان وألا ينسى الرجال والنساء والأطفال في السودان الذين وجدوا أنفسهم في هذا الوضع الصعب للغاية في هذه اللحظة الحرجة".

ووجه المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، رسالة إلى العالم حول السودان: "يجب أن يكون مرور عامين على هذا الصراع الوحشي الذي لا معنى له بمثابة جرس إنذار للأطراف لإلقاء أسلحتها وألا يستمر السودان في هذا المسار المدمر".