بعد أن كان السودانيون على موعد مع التوقيع على الاتفاق النهائي الذي يعيد البلاد إلى مسار الانتقال الديمقراطي، أفاقوا على صدمة معارك دامية بين الجيش وقوات الدعم السريع، ما يشير إلى تفجر الصراع على السلطة.
ووسط روايات متضاربة من الجانبين، نفى الجيش تأكيدات قوات الدعم السريع بأنها سيطرت على القصر الرئاسي، ومقر إقامة قائد الجيش، ومطارات في الخرطوم ومدينة مروي في الشمال.
قائد الجيش رئيس المجلس السيادي، عبدالفتاح البرهان، ونائبه قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، كانا على وفاق تام خلال الفترة الماضية، إلا أن الصراع على السلطة أعاد البلاد إلى المربع الأول، على حد تعبير أحد المحللين السياسيين السودانيين الذين تحدثوا لموقع "الحرة".
المشهد في السودان يطرح سؤالا، عما إذا كانت هناك قوى إقليمية ودولية تدعم البرهان وحميدتي لتحقيق مصالح تتعدى حدود هذا البلد الذي يعاني من صراعات تعيق استقرار الحياة السياسية والاقتصادية فيه.
وتأجج الخلاف إلى حد أن قالت القوات المسلحة على صفحتها على فيسبوك "لا تفاوض ولا حوار قبل حل وتفتيت ميليشيا حميدتي المتمردة"، مضيفة أنها تقاتل القوات شبه العسكرية في مواقع قالت إنها سيطرت عليها.
وقالت قوات الدعم السريع، التي يقدر محللون قوامها بنحو 100 ألف جندي، إن الجيش بدأ بمهاجمتها أولا عندما حاصر إحدى قواعدها وفتح عليها نيران أسلحته الثقيلة.
من يدعم من في السودان؟
يقول المحلل السياسي السوداني، فريد زين، إن قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي لديها ارتباطات ودعم قوي من دولة الإمارات، ولكن حليفها الأقوى الذي له ارتباطات عسكرية هي روسيا من خلال ميليشيات فاغنر إذ لديهم علاقات قوية "عسكرية واقتصادية" خاصة فيما يرتبط بمناجم الذهب أكان في السودان أو حتى في دول إفريقية مجاورة.
وأضاف أن قائد الجيش البرهان يحظى بدعم هام من القاهرة، تحديدا من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والذي قد تكون له "أهداف بعدم وجود حكم مدني سياسي مستقر في السودان"، وأن تبقى السيطرة للمؤسسة العسكرية تحديدا القوات المسلحة.
ويقع السودان في منطقة مضطربة يحدها البحر الأحمر ومنطقة الساحل والقرن الأفريقي. واستقطب موقع السودان الاستراتيجي وثرواته الزراعية قوى إقليمية، مما أدى إلى تعقيد فرص نجاح الانتقال.
الباحث السياسي السوداني، الرشيد إبراهيم، يؤكد أنه في المرحلة الحالية لا يوجد أي تدخلات "خارجية واضحة" فيما يرتبط بوجود دول تقدم الدعم بشكل مباشر.
ولم يستبعد إبراهيم في اتصال هاتفي مع موقع "الحرة" أن يكون هناك "احتمالات للدعم" من قبل بعض الأطراف للمكونات العسكرية في السودان من دون تسميتها من هي.
وأكد أن الأكثر وضوحا هو أن قوات الدعم السريع "مقربة من روسيا وقوات فاغنر حيث تربطهم مصالح وأعمال مشتركة".
وتأثر عدد من جيران السودان، مثل إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان، بالاضطرابات السياسية والصراعات. وعلاقة السودان بإثيوبيا على وجه التحديد متوترة بسبب نزاع على أراض زراعية على الحدود والصراع في إقليم تيجراي، الذي دفع بآلاف النازحين إلى السودان، وسد النهضة الإثيوبي.
ويؤكد الناشط السوداني، أيمن تابر، أن التدخل الأجنبي في السودان ليس بشيء جديد، خاصة وأن بعض الدول وجدت لها مدخلا في دعم حميدتي وقواته شبه العسكرية مثل الإمارات، ناهيك عن علاقاته مع قوات فاغنر.
وأشار إلى أن دولا أخرى مثل "السعودية ومصر وحتى إثيوبيا سعت إلى دعم بعض الأطراف داخل السودان على أمل الاستفادة من الوضع الذي ينشأ".
وتنظر السعودية والإمارات، القوتان الإقليميتان، إلى انتقال السودان على أنه وسيلة لدحر نفوذ الإسلاميين في المنطقة. وتشكل السعودية والإمارات مع الولايات المتحدة وبريطانيا "الرباعي" الذي رعى، مع الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، الوساطة في السودان، بحسب وكالة رويترز.
وتخشى قوى الغرب احتمال إنشاء قاعدة روسية على البحر الأحمر، وهو أمر أعرب قادة جيش السودان عن انفتاحهم عليه.
يقول المحلل السياسي المصري، علي رجب، إنه حتى الآن "لا يمكن القول بوجود دول أو أطراف خارجية تقدم دعمها المباشر لقائد الجيش البرهان".
وأضاف أن البرهان يتمتع "بعلاقات ممتازة مع السعودية والإمارات ومصر" منذ تسلمه زمام الأمور في 2019.
ويرى رجب في رده على استفسارات "الحرة" أن مواقف بعض الدول الإقليمية وحتى القوى الدولية مثل الولايات المتحدة أو أوروبا لا تزال ضبابية فقد تكون بانتظار معرفة ما سيحصل على الأرض خلال الساعات المقبلة.
وأضاف أن بعض التغطيات الإعلامية تكشف وجود ميل سعودي تجاه البرهان، فيما تميل قطر تجاه حميدتي، والإمارات لا يزال موقفها غير محدد.
من جانبه يرى المحلل السياسي التونسي، أنيس عكروتي، أن مصر قد تكون "أقرب حليف عربي للبرهان نظرا للانسجام الكبير في المواقف من الشراكة الاقتصادية والملفات الخارجية الساخنة خاصة مسألة سد النهضة وما يمثله من تهديد للموارد المائية للبلدين".
ويقول في حديث لموقع "الحرة" إن "حميدتي يعول على الحصول على مساندة من السعودية والإمارات، خاصة في ظل التقارير التي أكدت انخراط قوات الدعم السريع في الحرب اليمنية دعما للجهود العسكرية الإماراتية والسعودية".
ويرجح عكروتي أن "تحسم قيادة الجيش المعركة لصالحها وأن تنجح الضغوطات الإقليمية والدولية في فرض وقف لإطلاق النار مبدئيا ثم الدعوة إلى انتخابات مبكرة"، خاصة أنه لا "دول الجوار ولا القوى الدولية النافذة مستعدة لمجابهة حرب طويلة المدى بين الفرقاء السودانيين في ظل وجود أولويات كبيرة أمامهم في أوكرانيا أو تايوان على سبيل المثال".
وتدعو القوى المدنية في السودان الطرفين إلى "وقف العدائيات فورا وتجنيب البلاد شر الانزلاق لهاوية الانهيار الشامل".
وقالت في بيان "هذه اللحظة مفصلية في تاريخ بلادنا... فهذه حرب لن ينتصر فيها أحد، وسنخسر فيها بلادنا إلى الأبد".
ودعت الولايات المتحدة وروسيا ومصر والسعودية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي إلى إنهاء الأعمال القتالية في السودان والاحتكام للحولول السياسية.
صراع بسيناريوهات سيئة
القيادي في قوى الحرية والتغيير السودانية، عمار حمودة، عبر في حديث لموقع "الحرة" عن مخاوفه من أن يصبح السودان "مسرحا لحرب بالوكالة"، معربا عن أمله "آلا يحدث ذلك، فالحرب ليست نزهة، ولا نريد لها أن تستمر ولو للحظة".
وأضاف أن "لغة البنادق لم تكن حلا لأي من مشاكل السودان سابقا"، محذرا من أن هناك "أطراف خارجية قد تسعى لتعظيم مكاسبها".
ولكن تبقى "الوحدة الوطنية هي صمام الأمان الواقي من هذه التدخلات الخبيثة"ـ يقول حمودة.
وأشار حمودة إلى أن مسألة الصراع العسكري الآن "مقلقة جدا"، ولكن حل الأزمة لن يكون إلا "بالحوار وليس بالحرب".
يمثل الجيش قوة مهيمنة في السودان منذ استقلاله عام 1956 إذ خاض حروبا داخلية وقام بانقلابات متكررة ولديه حيازات اقتصادية ضخمة.
وخلال الفترة الانتقالية التي بدأت بالإطاحة بالبشير وانتهت بانقلاب عام 2021 زاد عمق هوة انعدام الثقة بين الجيش والأحزاب المدنية.
واستمد الجانب المدني شرعيته من حركة احتجاج صامدة ودعم من أطراف من المجتمع الدولي.
وحظي الجيش بدعم داخلي من فصائل متمردة استفادت من اتفاق السلام في 2020 ومن المخضرمين في حكومة البشير الذين عادوا إلى الخدمة المدنية بعد الانقلاب.
يقول المحلل السياسي السوداني، فريد زين، إن المواجهات بين "المكونين العسكريين في السودان ستجعل البلاد تنزلق في صراع قد تكون سيناريوهاته سيئة جدا".
وأضاف زين، وهو مقيم في الولايات المتحدة في حديث لموقع "الحرة"، أن هذا الصراع "أعاد البلاد إلى المربع الأول"، مرجحا "آلا يطول أمد المعارك والخلاف بين هذه المكونات العسكرية لأنها لا تحظى بدعم من الشعب السوداني، وهي مرفوضة من قبل الجميع".
وأكد أن الدخول في مواجهة طويلة في البلاد قد يدخلها في صراعات واسعة النطاق في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمات اقتصادية والعديد من المشاكل، التي قد تجعل البلاد على شفا "منعطف خطير".
وأعادت قرارات سابقة اتخذها البرهان زمام الأمور إلى الجيش، لكنه واجه احتجاجات أسبوعية وتجدد العزلة وتفاقمت المتاعب الاقتصادية.
غير أن حميدتي قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية ونائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي منذ 2019 أيد خطة الانتقال الجديدة، مما دفع بالتوترات مع البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي الحاكم والقائد الأعلى للجيش إلى السطح.
أحد الأسباب الرئيسية هو ضغط المدنيين من أجل الرقابة على الجيش ودمج قوات الدعم السريع شبه العسكرية التي لها وضع قوي في الجيش النظامي.
الأكاديمي والمحلل الجيوسياسي الأردني، عامر السبايلة، قال إن ما يحدث في السودان لم يكن مستبعدا إذ "لم نعتد أن تقوم أي سلطة عسكرية بنقل السلطة للقوى المدنية، والذي عادة ما ينتهي بخلاف داخل المكونات العسكرية ذاتها".
وأشار في حديث لموقع "الحرة" إلى أن "أزمة تتجه للمواجهة المسلحة في دول المنطقة عادة ما تجتذب العديد من القوى الدولية، حيث تسعى بعض الدول إلى كسب نفوذ تستفيد منه على المدى الطويل، وهو ما قد يهدد بأن يصبح جزءا من الصراعات الإقليمية غير المنتهية".
الناشط السوداني، أيمن تابر، قال إن "هذا التحالف العسكري منذ بدايته كان موبوءا إذ كان بحثهم الدائم عن تعظيم مصالحهم الخاصة من دون وجود رؤية مستقبلية للبلاد".
وأفاد تابر، وهو مقيم في الولايات المتحدة في رد على استفسارات موقع "الحرة"، بأنه منذ أشهر هناك "خلافات على السلطة بين المكونين العسكريين وهو ما أدى إلى تراكمات من الصراع على السلطة بينهما، ناهيك عن وجود بقايا من الداعمين للنظام السابق الذين لهم مصلحة في تأجيج حالة عدم الاستقرار".
بدأ السودان مسيرة التحول إلى الديمقراطية بعد انتفاضة شعبية أطاحت في أبريل عام 2019 بحكم عمر حسن البشير، وهو إسلامي نأى عنه الغرب وحكم البلاد لنحو ثلاثة عقود.
وبموجب اتفاق أُبرم في أغسطس 2019، وافق الجيش على تقاسم السلطة مع مدنيين ريثما يتم إجراء انتخابات. لكن ذلك الترتيب تعطل فجأة نتيجة انقلاب عسكري في أكتوبر 2021 تسبب في سلسلة من الاحتجاجات الحاشدة المطالبة بالديمقراطية في أنحاء السودان.