العنف مستمر في السودان
العنف مستمر في السودان

نفذت قوات خاصة أميركية عملية إجلاء، محفوفة بالمخاطر، لموظفي السفارة الأميركية بالسودان، بحسب ما ذكره مسؤولون أميركيون، مساء السبت.

واجتاحت القوات الخاصة العاصمة الخرطوم، بينما كانت 3 مروحيات قتالية في الانتظار لمدة أقل من ساعة، بحسب ما نقلت "أسوشيتد برس".

ولم تطلق القوات أعيرة نارية، ولم ترد أنباء عن وقوع إصابات كبيرة.

ومع خروج آخر موظف أميركي من السفارة، أغلقت واشنطن مقر بعثتها في الخرطوم إلى أجل غير مسمى.

ولا يزال هناك آلاف الأميركيين في السودان. وقال المسؤولون إن تنفيذ مهمة إجلاء أوسع نطاقا، كان سيشكل خطورة كبيرة.

وفي بيان وجه فيه الشكر للقوات الخاصة، قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنه يتلقى تقارير منتظمة من فريقه بشأن الجهود المبذولة لمساعدة الأميركيين، الذين لا زالوا في السودان ”إلى أقصى حد ممكن”.

كما دعا إلى إنهاء ”العنف غير المعقول” هناك، حيث يتنافس جنرالان على السلطة.

ودخل القتال بين الجنرالين السودانيين، الذي أودى بحياة أكثر من 400 شخص ووضع البلد الشاسع في خطر الانهيار، وقد تكون له عواقب تتجاوز حدود السودان بكثير، أسبوعه الثاني .

الصراع الدائر الآن على السلطة في السودان بين قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، جعل ملايين السودانيين يختبئون داخل منازلهم خوفا من التفجيرات وإطلاق النار وعمليات النهب.

ونفذ ما يقرب من مائة جندي أمريكي، قدموا في ثلاث مروحيات من طراز (إم إتش-47)، عملية الإجلاء.

ونقل قرابة 70 موظفا أميركيا جوا من منطقة الهبوط في السفارة إلى مكان غير معروف في إثيوبيا، بحسب مسؤولين أميركيين مطلعين.

وقالت مولي في، مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، إن إثيوبيا قدمت أيضا دعما لتحليق الطائرات وتزويدها بالوقود.

ونقلت "رويترز" عن مسؤولين أميركيين أن القوات الخاصة، التي تستخدم طائرات من بينها طائرات هليكوبتر من طراز إم إتش-47 شينوك، دخلت العاصمة السودانية بعدما انطلقت من قاعدة أميركية في جيبوتي، وقضت ساعة واحدة على الأرض.

وقال اللفتنانت جنرال دوغلاس سيمز، مدير العمليات في هيئة الأركان المشتركة الأميركية "لم نتعرض لرصاصة واحدة في الطريق وتمكنا من الدخول والخروج دون مشكلات".

وقال كريس ماير، مساعد وزير الدفاع، إن الجيش الأميركي قد يستخدم الطائرات المسيرة أو صور الأقمار الصناعية لرصد التهديدات التي يتعرض لها الأميركيون الذين يسافرون على طرق برية للخروج من السودان، أو وضع أصول بحرية في بورسودان، لمساعدة الأميركيين الذين يصلون إلى هناك.

وقال جون باس، وكيل وزارة الخارجية للشؤون الإدارية، إن بعض الأميركيين، ومواطنين آخرين نجحوا في السفر برا من الخرطوم إلى بورسودان على البحر الأحمر، مضيفا أنها رحلة صعبة على ما يبدو نظرا لنقص الوقود والغذاء والمياه المتاحة كما هو متوقع.

فخر بايدن

 

وقال بايدن في بيان "فخور بالالتزام الاستثنائي لموظفي سفارتنا الذين أدوا واجباتهم بشجاعة واحترافية وجسدوا صداقة الولايات المتحدة واتصالها بشعب السودان. ممتن للمهارة التي لا مثيل لها لجنودنا الذين نجحوا في نقلهم إلى مكان آمن".

كما شكر جيبوتي وإثيوبيا والسعودية على مساعدتهم في المهمة.

وبدوره، علق مجلس الأمن القومي الأميركي قائلا "أوضحنا للجانبين أنهما مسؤولان عن ضمان حماية المدنيين وغير المقاتلين".

وقالت الولايات المتحدة، الجمعة، إنه ليس لديها خطط لإجلاء ما يقدر بنحو 16 ألف أميركي عالقين في السودان بالتنسيق مع الحكومة.

وكانت قيادة الجيش الأميركي في أفريقيا، ورئيس الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، على اتصال بالطرفين المتحاربين قبل وأثناء العملية، لضمان حصول القوات الأميركية على ممر آمن لإجراء عملية الإجلاء.

ومع ذلك، نفى باس مزاعم قوات الدعم السريع شبه النظامية السودانية بأنها ساعدت في عملية الإجلاء الأميركية.

توصية

وأمر بايدن القوات الأميركية بإجلاء موظفي السفارة بعد أن تلقى توصية السبت من فريق الأمن القومي التابع له بعدم وجود نهاية في الأفق للقتال.

وأودى العنف الكارثي في السودان بالفعل بحياة مئات المدنيين الأبرياء، وتقول منظمة الصحة العالمية إن الاشتباكات أسفرت عن مقتل أكثر من 400 شخص حتى الآن.

وقال بايدن: "هذا أمر غير معقول، ويجب أن يتوقف. يجب على الطرفين المتحاربين تنفيذ وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، واحترام إرادة الشعب السوداني".

وأوقفت وزارة الخارجية الأميركية العمل في السفارة بسبب الوضع الأمني المتردي، ولم يتضح متى ستستأنف السفارة عملها.

وتسبب القصف والمعارك المسلحة بمناطق مكتظة بالسكان في تدمير بنى تحتية مدنية، من بينها مستشفيات عدة.

وقالت منظمة (نت بلوكس) المعنية بمراقبة أمن الشبكات وحرية الإنترنت في العالم، الأحد، إن هناك انهيارا شبه كامل في الاتصال بالإنترنت بالبلاد.

مهاجرون سودانيون غير شرعيين، في انتظار ترحيلهم من ليبيا – مطار بن غازي 2019
مهاجرون سودانيون غير شرعيين، في انتظار ترحيلهم من ليبيا – مطار بن غازي 2019

في إحدى ليالي أبريل عام 2023، وبينما كان صوت القذائف يمزّق سكون مدينة الفاشر، شمال دارفور، احتضنت تماضر النور البكر، أطفالها.

لديها ثلاثة أطفال، احتضنتهم سوية، في محاولة لتهدئة رعشة الخوف في قلبها.

"الحرب لا ترحم، والجوع بات يهدد حياتهم"، قالت البكر لموقع "الحرة".

حاول زوجها، الذي ظل معها طوال فترة النزوح، البحث عن أي وسيلة للخروج من السودان، بعدما ضاق بهم الحال وأصبحت الفاشر ساحة معركة، لا تصلح للعيش.

لم يكن أمامهما خيار سوى الهرب. 

جمعا ما تبقى لديهما من أموال قليلة، واستعدا لرحلة محفوفة بالمخاطر نحو ليبيا، حيث قيل لهما: هناك فرصة لحياة أكثر أمانا.

بدأت الحرب في السودان منتصف أبريل عام 2023، نتيجة صراع بين القوات المسلحة بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي.

يعود أصل الخلاف إلى تنافس قديم بين المؤسستين حول السلطة والنفوذ، وتفاقم الخلاف بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019.

خلفت الحرب آثارا إنسانية تصفها تقارير دولية بـ"الكارثية"، إذ سقط آلاف الضحايا المدنيين وأجبر الملايين على النزوح داخليا وخارجيا.

رحلة الهروب إلى الكفرة

في شاحنة قديمة مكتظة بالهاربين، انطلقت البكر وزوجها وأطفالهما عبر الصحراء الكبرى في أغسطس من نفس العام.

كان الحرّ لا يُطاق، والماء شحيحا، والخوف من قطاع الطرق والميليشيات، ينهش القلوب.

كلما شعرت البكر باليأس، نظرت إلى عيون أطفالها واستمدّت منهم القوة، فيما كان زوجها يمسك بيدها ليطمئنها بأن "هذه المحنة ستمر".

بعد أيام من المعاناة، وصلوا إلى مدينة الكفرة الليبية، نقطة الدخول الرئيسية من السودان، وتبعد نحو 350 كيلومترا عن أقرب نقطة حدودية سودانية.

خلال عام 2024، تضاعف عدد اللاجئين السودانيين الباحثين عن الأمان في ليبيا، مع وصول ما يقدر بنحو 400 لاجئ إلى البلاد يوميا، وفقا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

سرعان ما اكتشفت أسرة البكر أن الكفرة تعج بالمُهربين والمسلحين، وأن اللاجئين السودانيين يُعاملون بقسوة. 

بالكاد تمكنوا من العثور على مكان يؤويهم. ناموا في مخزن صغير مشترك مع مجموعة عائلات، هربت أيضا من أماكن أخرى.

في الصباح، بدأوا مع آخرين بمساعدة مهرب، التحرك نحو العاصمة الليبية طرابلس، حيث أوقفهم مسلحون على حواجز عدة.

قالت البكر: "كانوا ينزلوننا ويهينوننا، خاصة في بوابة إجدابيا شرق ليبيا، ويطلبون أموالا إضافية حتى نمر".

دفعوا ما يعادل الـ 100 دولار أميركي لهذه الحواجز، حتى وصلوا إلى طرابلس في الغرب.

خريطة السيطرة في ليبيا

احتجاز أول

وصلت الأسرة والقافلة إلى مقر مفوضية اللاجئين. بالكاد استطاعوا تسجيل أسمائهم، ثم حصلت كل أسرة على مبلغ 500 دينار (حوالي 101 دولار أميركي)، بحسب البكر.

قالت البكر: "هذا المبلغ لا يكفي إيجار بيت لشهر واحد، لذا خصصناه للأكل والشراب".

لم يكن هناك مكان يأوي أسرتها، فباتوا أمام المفوضية مع عشرات من السودانيين الآخرين.

لم يمضِ وقت طويل حتى داهمت قوات الأمن الليبية المنطقة بعد اكتظاظها بالمهاجرين.

اعتُقل عشرات اللاجئين، من بينهم البكر وزوجها وأطفالهما الذين يبلغون من العمر سبعة وثمانية و12 عاما.

اقتيدت الأسرة مع عشرات من الأسر الأخرى إلى سجن أبو سليم.

"أجبرونا على خلع كل ملابسنا أنا وزوجي تماما حتى الأطفال الصغار، بدعوى التفتيش، وعندما جادلناهم ضربونا. لدي علامات على جسمي بسبب ضربهم" قالت البكر.

كانت الليالي في السجن تمر بطيئة ومليئة بالخوف. 

شاهدت البكر رجال الأمن يضربون بعض المحتجزين، وسمعت صرخات نساء تم استجوابهن بطرق مهينة.

حاولت أن تبقى قوية من أجل أطفالها الذين كانوا يبكون من الجوع والبرد.

في السجن، رافقتهم امرأة سودانية مع أطفالها السبعة، أكبرهم فتاة تبلغ من العمر 18 عاما.

كانت السيدة تعاني من مرض السكري، ولم تكن قادرة على تناول الطعام الذي يقدم لهم، وهو عبارة عن خبز أو أرز.

تعيش هذه السيدة الآن مع البكر وعائلتها. تعاني من مرض شديد بسبب ما حدث معها في السجن.

بعد 30 يوما من الاحتجاز والمعاناة، تم إطلاق سراحهم بعد أن تدخلت مفوضية اللاجئين التي منحتهم 900 دينار (190 دولارا أميركيا تقريبا) للبحث عن مأوى.

وبالفعل، اشتركت الأسرة مع عائلات سودانية أخرى لتأجير منزل بثلاث غرف، حوت كل واحدة، سبعة أشخاص.

قالت البكر: "أفضل من أن نبيت في الشارع ويتم اعتقالنا من جديد".

حاول زوجها البحث عن عمل دائم، لكنه لم يفلح. السبب في ذلك، عدم وجود جوازات سفر معهم.

لم يطل بقاؤهم في المنزل المستأجر أكثر من شهر، حتى جاءت قوات الأمن واعتقلتهم من جديد.

تم الاعتقال بناء على شكوى من الجيران الذين قالوا إن "المنزل فيه عدد كبير من السودانيين".

كانت هذه المرة أسوأ من الأولى، حيث أجبرتها قوات الأمن على خلع ملابسها رغم أنها كانت في فترة الحيض.

لم تفلح محاولات التوسل إليهم لإثنائهم عن هذه الإجراءات المهينة، التي تصاحبها تحرشات جنسية، على حد قولها.

داخل الحجز، لم يكن هناك طعام تقريبا. كان الأطفال يمرضون دون أي رعاية طبية.

بعد ستة أيام اتصلت السفارة السودانية وتوسطت لإخراجهم من السجن.

لا تستطيع البكر وأسرتها العودة إلى الفاشر التي تستمر فيها الحرب، حتى أن والدها قتل هناك بقصف قوات الدعم السريع قبل أربعة أشهر. 

صعوبات هائلة

وبينما تشير التقديرات إلى وصول أكثر من 210 ألف سوداني إلى ليبيا منذ بداية الحرب، تتوقع مفوضية اللاجئين أن يصل العدد إلى نحو 450 ألفا مع نهاية العام الجاري.

في أواخر ديسمبر الماضي، قالت عسير المضاعين، رئيسة بعثة مفوضية اللاجئين في ليبيا: "لقد تحمل اللاجئون في ليبيا صعوبات هائلة في رحلتهم إلى هنا. ومع دخولنا عاما جديدا، يجب أن نتحرك بسرعة لمنع المزيد من المعاناة وحماية الأرواح".

أصدرت هيئة مكافحة الهجرة غير الشرعية في ليبيا الشهر الماضي، إنذارا نهائيا للشركات في جميع أنحاء البلاد، وطالبتها بتسوية الوضع الوظيفي لعمالها المغتربين.

"استغلال"

طارق لملوم، وهو باحث في الهجرة غير الشرعية، قال خلال مقابلة مع موقع "الحرة" إن " ليبيا تعيش حالة من الفوضى في ما يتعلق بمعاملة المهاجرين غير النظاميين".

"هناك إعلانات كثيرة عن ضرورة تسوية أوضاعهم، لكن على أرض الواقع، يتورط الكثير من المسؤولين في استغلالهم بشكل غير قانوني"، قال لملوم.

قال أيضا إن "كل من يقوم بأعمال الصيانة والنظافة، حتى في السجون، هم مهاجرون غير نظاميين. حتى في الوزارات، هؤلاء العمال هم من يشغلون الوظائف، لكنهم ليسوا مسجلين بشكل قانوني".

وأشار لملوم إلى أن "هؤلاء المهاجرين، غالبا ما يجدون أنفسهم ضحايا للمتاجرة بالبشر، ويعيشون في ظروف قاسية داخل مراكز الاحتجاز، حيث يتم استغلالهم ماليا من قبل السلطات والمجموعات المسلحة".

في السجون، يتعرض المهاجرون للاحتجاز التعسفي، مع تهديدات مستمرة بأنهم سيظلون رهن الاعتقال إلى أن يدفعوا مبالغ مالية مقابل إطلاق سراحهم، بحسب لملوم.

بعضهم لا يتمكن من الخروج إلا بعد دفع مبالغ تصل إلى 1500 دولار أميركي، وهو ما يزيد من معاناتهم، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور في ليبيا.

تضاف إلى هذه المأساة، قلة الخيارات الإنسانية المتاحة لتخفيف معاناتهم، ما يعكس بشكل واضح ضعف الدولة الليبية في معالجة أزمة الهجرة بشكل قانوني وإنساني.

وبينما تخشى البكر مغادرة المنزل الذي يبيتون فيه خوفا مما يمكن أن يحدث، جاءت حملة أمنية السبت (2 فبراير) واعتقلت زوجها ومجموعة سودانيين كانوا يقفون في ساحة يتجمع فيها العمال بحثا عن عمل.

لم تعد ترى أي مخرج من هذا الكابوس الذي يزداد تعقيدا مع مرور الوقت، خاصة، أنها ترى أطفالها يكبرون أمامها دون أن يلتحقوا بالمدارس.

أصبحت البكر تحلم باليوم الذي تنتهي فيه هذه الرحلة القاسية، والعودة إلى وطن آمن، حيث لا تُعامل كالغريبة، وحيث يستطيع أطفالها أن يناموا دون خوف.