من معارك الخرطوم
من معارك الخرطوم

بينما تسابق العديد من الدول الزمن لإجلاء رعاياها من السودان، يعيش عشرات آلاف السوريين هناك حالة من التيه الكامل.

"الكثير منهم لا يعرف أين يذهب"، وآخرون "ينتظرون الأوكي من السفارة السورية في الخرطوم"، حسب ما كشف أحد الشبان العالقين في مناطق الاشتباك في حديثه لموقع "الحرة".

وتشير معظم المعطيات، بعد مرور أكثر من أسبوع على القتال الدائر بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع"، على أن البلاد تتجه إلى حالة متصاعدة من المعارك، مما دفع دول عربية وغربية للبدء بعمليات الإجلاء، فيما اتجهت أخرى لإغلاق سفاراتها بالكامل حتى إشعار آخر.

وفي حين تتركز الأنظار حاليا على نحو أكبر تجاه عمليات الإجلاء، وتفاصيلها المتسارعة، يترقب السوريين، وهم أكبر الجاليات في السودان، "مصيرا مجهولا"، في ظل غياب أي إعلان رسمي من السلطات السورية لبحث مصيرهم، وما إذا كانت هناك إمكانية أو استعدادات لعملية إجلائهم في الأيام المقبلة.

ويشوب وضع اللاجئين السوريين في السودان الكثير من العقبات والحواجز، حسب ما يشير البعض منهم، ترتبط بالطريقة التي وصلوا إليها إلى السودان في السنوات الماضية، والأسباب التي دفعتهم إلى ذلك.

وهناك الكثير من الشبان المطلوبين أمنيا لسلطات النظام السوري، وآخرون ممن تخلفوا عن الخدمة العسكرية، وبذلك وفي حال أعلنت سفارة النظام في الخرطوم استعدادها لعملية الإجلاء، لن يسلك الكثير منهم هذا الطريق، رغم أن الطرق الأخرى وفي معظمها "مغلقة".

ويعيش أكثر من 90 ألف لاجئ سوري في العاصمة الخرطوم، وأجزاء أخرى من السودان، وفقا لأرقام الأمم المتحدة لعام 2021، ومنذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" لا تعرف الظروف التي يعيشونها، وإن كان من بينهم ضحايا أو مصابون.

ويشير تقرير لـ"المرصد السوري لحقوق الإنسان"، نشر الاثنين، إلى أن "المصير المجهول يلاحق نحو 90 ألف سوري من السودان، وسط تقاعس النظام السوري عن التدخل لنقلهم".

وجاء في التقرير: "النظام السوري قتل شعبه داخل وطنهم فكيف يحميهم خارج أسوارها"، ونقل المرصد نداء استغاثة من لاجئين، نتيجة تعرضهم للخطر، بسبب القصف وعمليات السلب والنهب.

كما نقل مطالب بإنقاذ العائلات السورية في العاصمة السودانية الخرطوم، والتدخل السريع لحماية السوريين وإجلائهم، ولاسيما بأن "الكثير منهم مطلوبين للنظام، ولا يستطيعون العودة إلى بلادهم، وقلة قليلة من الدول التي قد تستقبلهم لمجرد أنهم سوريون".

"الأوضاع كارثية"

وعلى مدى الأيام الماضية، وبينما كانت الكثير من العوائل تحاول الخروج من العاصمة السودانية الخرطوم، لم يتمكن الشاب السوري محمود البكار، وعائلته، من سلوك ذات الطريق، ويقول لموقع "الحرة" بينما تصل رسائله بشكل متقطع على تطبيق المراسلة "واتساب": "لا يوجد أحد قادر على إخراجنا من هنا".

ويضيف أن عوائل سورية تمكنت من الخروج إلى ولايات سودانية أخرى أكثر أمانا "بعد دفعها مبالغ طائلة"، ومع ذلك "هناك الكثير من العالقين، دون وضوح المصير الذي سيكونون عليه".

وينتشر غالبية السوريين المسجلين، وغير المسجلين، لدى مكاتب الأمم المتحدة في العاصمة الخرطوم، ويعيش هؤلاء في ظروف صعبة، في ظل صعوبة التنقل للوصول إلى منطقة آمنة، وإغلاق المجال الجوي في مطار الخرطوم الدولي.

ويوضح مدير "المرصد السوري"، رامي عبد الرحمن لموقع "الحرة" أنهم وجهوا نداء خلال الأيام الماضية للأمم المتحدة ومفوضية اللاجئين "من أجل تحمل مسؤولياتها بخصوص أكثر من 65 ألف سوري، بحسب التوثيقات الرسمية".

ويقول عبد الرحمن: "السوريون الآن يتعرضون للضغط من قبل المقاتلين في السودان، وعلى أنهم عبء. الأوضاع كارثية إلى أبعد الحدود. لدينا عائلات انقطع التواصل معها، وبعضها كان يعيش على التمر والماء في الأيام الأولى من المعارك".

"النظام فاشل ولا يستطيع القيام بأي شيء. حتى لو أراد البدء بعملية الإجلاء من سيعود من السوريين الذين دفعوا مبالغ طائلة للخروج من مناطق سيطرته؟"، حسب ما أضاف مدير "المرصد السوري".

وتواصل موقع "الحرة" مع مكتب مفوضية اللاجئين في السودان للحصول على إجابات بخصوص وضع اللاجئين السوريين في أماكن القتال، إلا أنه لم يتلق ردا حتى ساعة إعداد هذا التقرير.

من جانبه، وبينما لم يصدر أي بيان رسمي من جانب وزارة الخارجية السورية، نقلت وسائل إعلام شبه رسمية عن مصدر لم تسمه قوله إن "دمشق تتابع بقلق الأحداث الجارية في السودان الشقيق وتتمنى للشعب السوداني الأمن والاستقرار".

وأضاف المصدر: "كما تتابع سوريا باهتمام كبير أوضاع الجالية السورية والبعثة الدبلوماسية في السودان الشقيق"، وأن "السفارة السورية في الخرطوم وجهت إلى تسجيل أسماء الجالية السورية الراغبين بالإجلاء، وفق الإمكانات المتاحة وفي إطار الحفاظ على حياة السوريين بعيدا عن الأخطار المحتملة".

"ننتظر الموافقة"

وتسببت الاشتباكات المستمرة حتى الآن بمقتل أكثر من 420 شخصا وإصابة 3700 بجروح، ودفعت عشرات الآلاف للنزوح من مناطق الاشتباكات نحو ولايات أخرى، أو في اتجاه تشاد ومصر.

غير أن التقديرات ترجح أن يكون العدد الفعلي للقتلى أعلى بكثير، مع عدم تمكن الأطباء والعاملين في المجال الإنساني من الوصول إلى المحتاجين.

وكان للسوريين نصيب من حوادث القتل، سواء عبر العصابات أو بعد تعرضهم للقذائف والرصاص الطائس، ومع غياب إحصائية رسمية عن عددهم، نقلت مواقع محلية سورية عن مصادر من "أبناء الجالية السورية" قولها إن عدد الضحايا ارتفع إلى 11 شخصا.

وتحدث موقع "أثر" المحلي ومقره دمشق عن "مباحثات دبلوماسية بين السفارة السورية في الخرطوم ووزارة الخارجية والمغتربين، بهدف البحث في أوضاع أبناء الجالية السورية".

"ومن المتوقع أن يصدر شيء رسمي بهذا الخصوص قريبا"، فيما أشار الموقع إلى أن "المسألة تحتاج إلى وجود قرار رسمي عال المستوى، خاصة أنّ إجلاء أبناء الجالية، البالغ عددهم نحو 30 ألف سوري يحتاج إلى إمكانيات كبيرة جدا".

ومنذ أسبوع ينتظر الشاب السوري إياد "ردا من السفارة مع سوريين آخرين، لكي ترشدهم عن طرق الإجلاء وكيفية التنسيق"، ويقول لموقع "الحرة" إن غالبية العوائل السورية "لا تعرف أين تذهب بحالها".

"السوري يحتاج في أي مكان فيزا للسفر"، ويضيف الشاب، الذي فضل عدم ذكر اسمه لاعتبارات أمنية: "هناك بعض السوريين تواصلوا مع السفارة، لكن تم إبلاغهم بأن الأمر يحتاج لرد من الخارجية في دمشق".

ويشير إلى أنهم "تلقوا الوعود بأن السفارة ستصدر بيانا بشأن طريقة الإجلاء في الساعات المقبلة"، وأنهم "يتمنون أن يكون هناك استعجالا في هذا الخصوص". ويتابع: "ما ننتظره في الوقت الحالي هو (الأوكي) من جانبها".

وتحدث الصحفي السوداني، مصعب خليل الحاج، عن "استنجاد ونداءات استغاثة" عبر المجموعات الإخبارية السودانية من قبل السوريين، ويوضح أن كثيرون "يسألون عن إخواتهم وأصدقائهم المفقودين".

ويقول الصحفي لموقع "الحرة": "الكثير من أبناء الجالية السورية يقيمون وسط الخرطوم، وفي المناطق التي تشهد حدة الاشتباكات".

"لا أحد ينظر إلينا"

ولسنوات طويلة كان السودان وجهة الكثير من السوريين، سواء الذين قرروا الفرار من داخل البلاد، أو من دول مجاورة ارتفعت فيها أصداء العنصرية اتجاههم، لكن وبعد سلسلة القرارات التي أصدرتها الحكومة السودانية تغيّر الحال رأسا على عقب.

ومنذ تلك الفترة، غادرت الكثير من العائلات البلاد باتجاه أوروبا، أو إلى مصر وليبيا، بينما فضلت عائلات ميسورة البقاء، كونها اعتبرت السودان البلد الآمن والملاذ الأخير لها، في ظل صعوبة الحصول على تأشيرة إلى بلدان أخرى.

لكن في الوقت الحالي، ومع اشتداد القتال داخل الأحياء والمناطق السكنية، بات من بقي من العائلات مضطرا لخوض رحلة جديدة من الغربة، تبدو معقدة على نحو كبير قياسا بالفترات السابقة من اللجوء والهجرة.

وتشرح السورية هبة المهيد، إحدى الطبيبات السوريات اللاتي قصدن السودان خلال السنوات الماضية، كيف وصل حالها مع اشتداد المعارك، حيث تقيم وسط الخرطوم، وتقول إنها تنتظر فقط مع عائلتها "رحمة رب العالمين".

وتضيف الطبيبة السورية لموقع "الحرة": "شبكة الإنترنت اليوم باتت منقطعة بنسبة 90 في المئة. لا يوجد رصيد لكي نشحن. الوضع الأمني سيء جدا".

وتتابع، بينما كانت تصل رسائلها عبر تطبيق "واتساب" بصورة متقطعة: "في أي لحظة قد تدخل العصابات المنزل وتقتل وتنهب. لا مياه ولا مواد غذائية"، و"لا يوجد أي إنسان في شوارع الخرطوم في الوقت الحالي".

وتشير المهيد إلى أنها، وسوريين آخرين، ناشدوا سفارات عدة في الخرطوم من أجل تنسيق عملية النقل إلى بورسودان أو ولاية الجزيرة، إلا أنهم "لم يتلقوا أي رد حتى الآن".

وتشرح كيف أن انقطاع الحوالات المالية زاد من كارثية الوضع لدى الكثير من العائلات السورية، في وقت باتت تكلفة تذكرة الانتقال من الخرطوم إلى الولايات الأكثر أمانا تبلغ "300 دولار للشخص الواحد".

من جانبه يضيف الشاب السوري إياد أن "الأسعار في العاصمة السودانية باتت مضاعفة إلى حد كبير، والاستغلال لا يتخيله عقل"، وفق تعبيره، مشيرا: "للأسف.. السوريون في السودان أكبر جالية ولا أحد ينظر إلينا".

تقارير رسمية سودانية ومصرية أشارت إلى عودة مئات السودانيين من مصر.
تقارير رسمية سودانية ومصرية تحدثت عن عودة مئات السودانيين من مصر.

في يوم الجمعة من كل أسبوع، وفي حي الكلاكلة القبة بالخرطوم، عاصمة السودان، اعتادت الشقيقتان، نعمات وميادة عثمان، الالتقاء بصحبة عائلتيهما (زوجيهما وأبنائهما الست)، لممارسة طقوسهما المحببة، طهي الإيدام (البطاطس باللحم على الطريقة السودانية)، ثم التحلية بمديدة التمر (دقيق-حليب- سكر ومكونات أخرى)، وأخيرا الشاي.

منذ صغرهما، تعاهدت الشقيقتان، على ألا يفرقهما شيء في الحياة، لكن كان للقدر أو بالأحرى للحرب رأي آخر.

تقول التوأم: "تواعدنا أن يكون مصيرنا واحدا وألا يفرقنا شيء في الحياة".

حاولت الشقيقتان التمسك بعهدهما هذا حتى مع اندلاع الحرب في السودان ووصول الضربات إلى العديد من المناطق السكنية في الخرطوم وغيرها من المدن، وقررتا اللجوء إلى مصر طلبا للأمان، لكنهما واجهتا صعوبات مختلفة أجبرتهما على الافتراق للمرة الأولى في حياتهما.

قررت إحداهما (ميادة) العودة إلى الخرطوم، في ديسمبر الماضي، مثل آلاف السودانيين، رغم عدم إعلان انتهاء الحرب رسميا، واستمرار المخاطر الأمنية، والتردي الاقتصادي، ونقص الخدمات الصحية.

أدى اندلاع الحرب في السودان بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، شبه العسكرية، بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، منذ أبريل 2023، إلى نزوح أكثر من 11 مليونا داخليا، بينما لجأ 3,1 ملايين إلى الدول المجاورة، وعلى رأسها مصر، وفق الأمم المتحدة.

ومؤخرا، أشارت تقارير رسمية سودانية ومصرية إلى عودة مئات السودانيين من مصر، في أعقاب العملية العسكرية التي بدأها الجيش اعتبارًا من 26 سبتمبر الماضي، واستعاد خلالها مواقع عديدة في أم درمان والخرطوم وولاية سنار.

وأرجع عدد من النشطاء والمتخصصين في حديثهم لموقع "الحرة" سبب هذه العودة إلى الصعوبة التي يواجهها السودانيون في مصر نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار، وكذلك بسبب بعض العداء وحملات التحريض الشعبية ضد اللاجئين في مصر، والتي يظهر صداها في بعض المواقع الإعلامية وعلى منصات التواصل الاجتماعي، رغم تأكيد وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، في يوليو الماضي، رفض أيِ تحريض ضد السودانيين في بلاده، ونوه إلى أنهم ضيوف مصر.

وتقدر مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أعداد السودانيين المسجلين رسميا لديها والذين تستضيفهم مصر بأكثر من نصف مليون شخص، بينما تشير البيانات الأخيرة الصادرة عن الحكومة المصرية إلى أن أكثر من 1,2 مليون سوداني سعوا للحصول على الحماية الدولية في مصر.

معاناة تقنين الأوضاع

"لم أكن أتوقع أن أترك أختي في بلد ثاني، لكن الحقيقة الأوضاع في مصر سيئة بالنسبة للسودانيين بشكل أكبر مما تخيلته بكثير"، هكذا بدأت ميادة الحديث عن تجربتها في مصر لموقع "الحرة"، مضيفة "مع بداية الحرب في الخرطوم، خفت أنا وأختي على أولادنا، فقررنا اللجوء إلى مصر، على أن يحصلنا زوجينا في غضون أسابيع".

عادت ميادة بذكرياتها إلى تفاصيل رحلتها مع شقيقتها إلى مصر، قائلة "قطعنا طريقا طويلا وشاقا للوصول إلى الحدود، وعبرنا بطريقة غير نظامية، في يوليو 2023، وقضينا أسبوعا بأكمله في الصحراء، حتى وصلنا إلى المعبر، ودفع كل شخص مننا نحو 500 ألف جنيه سوداني (830 دولارا) للسفر في شاحنة صغيرة مع آخرين".

وأضافت "عندما وصلنا بصعوبة إلى معبر اشكيت البري بوادي حلفا على الحدود بين مصر والسودان، تخيلت أننا وصلنا بر الأمان، لكن الحقيقة كانت عكس ذلك، فما واجهناه داخل القاهرة كان أصعب بكثير".

وتطرقت ميادة إلي مشكلة التوثيق بمفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة للتسجيل كطالبي لجوء والحصول على البطاقة الصفراء (بطاقة طالبي اللجوء)، قائلة إنه فور وصولهم إلى مصر في نهاية يوليو 2023، توجهوا جميعا إلى المفوضية، وتمكنت شقيقتها نعمات واثنان من أبنائها فقط من التسجيل في فبراير 2024، بينما حصل الباقون على مواعيد متفاوتة بعد عدة أشهر.

ظلوا ينتظرون بقلق بالغ موعد تسجيلهم كطالبي لجوء، وفي أغسطس الماضي، بعد قرار رسمي مصري، أمهل الأجانب والمقيمين في البلاد بشكل غير شرعي مهلة حتى سبتمبر 2024 لتسوية أوضاعهم. خلال هذه الفترة، واجهوا صعوبات في إيجاد عمل أو إلحاق أبنائهم بالمدارس أو إجراء أي تعاملات حكومية أو بنكية، وفقا لما ترويه ميادة.

تقول الناشطة السودانية في مصر وداد أحمد، في حديث لموقع "الحرة"، إن القاهرة أعفت في بداية الحرب النساء والأطفال والرجال السودانيين فوق سن الخمسين من متطلبات الحصول على تأشيرة. لكن بعد شهر من اندلاع النزاع، فرضت الحكومة المصرية الحصول على تأشيرة دخول لجميع السودانيين، ما دفع الكثير منهم إلى اللجوء إلى "معابر غير شرعية".

وتضيف: "في سبتمبر 2024، شددت مصر متطلبات الدخول، وألزمت الأشخاص الوافدين من السودان بالحصول على "موافقة أمنية مسبقة" إلى جانب تأشيرة قنصلية، وفق وزارة الداخلية المصرية".

ويلزم قرار تقنين الأوضاع أي أجنبي يقيم في مصر بشكل غير شرعي، بإيجاد مستضيف مصري وتسديد مصروفات تقدر بألف دولار، وهي الإجراءات التي يراها كثيرون "مكلفة ومعقدة"، على حد تعبيرها.

وأوضحت الناشطة السودانية أن "الحكومة المصرية ألزمت جميع السودانيين بالحصول على تأشيرة من أجل دخول البلاد، وقالت حينها إنها فرضت هذا الإجراء بعد رصد أنشطة غير مشروعة، منها إصدار تأشيرات مزورة".

أما عن المسار الذي يسلكه السودانيين فور وصولهم مصر، فقالت إنهم يتوجهون إلى المفوضية للحصول على بطاقة طالبي اللجوء، التي تعد بمثابة وثيقة قانونية للشخص، إذ توفر لهم حماية تمنع من إعادتهم قسريا للبلدان التي فروا منها، بحسب القانون الدولي، ويحصلون بموجبها على العديد من الخدمات، أبرزها الخدمات الصحية.

وأضافت أنه بعد الحصول على البطاقة الصفراء، يحصل طالبو اللجوء على موعد في إدارة الجوازات والهجرة المصرية، للتقدم بطلب إقامة رسمي في البلاد، لكن بسبب الضغط الهائل من آلاف المتقدمين، زادت مدة الانتظار للحصول على هذا الموعد لأكثر من سنة.

في المقابل، تقول مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إنها ضاعفت من قدراتها لاستيعاب أعداد طالبي اللجوء التي تتزايد يوميا.

وتقول مسؤولة التواصل بالمفوضية، كريستين بشاي، إن "عدد طالبي اللجوء المسجلة قبل بدء الحرب في السودان كان نحو 294 ألف شخص، أما اليوم فيبلغ هذا العدد 731 ألف شخص، وهو يزداد بشكل يومي، ويمثل السودانيون 61٪ من نسبة طالبي اللجوء المسجلة لدى المفوضية".

غلاء ورفض وعداء

وتتحدث ميادة عن صعوبة الأوضاع المعيشية في مصر بسبب ارتفاع الأسعار، خاصة الإيجارات، فكان من الصعب على زوجها تلبية احتياجات الأسرة بسبب تدني الأجور، ولذلك اضطروا للعيش في شقة من 3 غرف مع شقيقتها وأبنائها وزوجها، أي كان عددهم 10 أفراد في الشقة، ما تسبب في خلاف مع المالك الذي قرر رفع الإيجار بأكثر من الضعف.

"حين قررنا المجيء إلى مصر كنا نأمل أن نبدأ حياة جديدة لأن الحياة في الخرطوم انتهت، وكنتُ أفضل تسوية الوضع القانوني لنا حتى نتمكن من الحركة بأريحية، لكن المبلغ المطلوب كبير بالنسبة لشخص قادم من وسط الحرب، ألف دولار للشخص ونحن خمسة أشخاص.. هذا مبلغ كبير، لا نملكه"، تتحسر ميادة.

في حديثها، تتطرق ميادة إلى أزمة أخرى يعاني منها أغلب السودانيين في مصر، وهي صعوبة إلحاق أبناهم بالمدارس بسبب غلاء المصروفات للمدارس الخاصة والدولية، وعدم استقبال المدارس الحكومية لأطفالهم بسبب زيادة الكثافة داخل الفصول.

وفي هذا الصدد، تقول الناشطة السودانية في مصر أمينة عباس لموقع "الحرة"، إنها "شخصيا تعرف الكثير من الأسر التي قررت العودة للسودان خصيصا بسبب عدم قدرتها إلحاق أبنائها بالمدارس في مصر، خاصة بعد الحملات الحكومية لإغلاق المدارس السودانية في مصر بسبب تدريس خريطة تفيد بأن حلايب وشلاتين سودانية، وليست مصرية".

ففي يونيو 2024، أغلقت السلطات المصرية عدداً من المدارس السودانية حتى "توفر الاشتراطات القانونية لممارسة النشاط التعليمي"، حسب بيان الحكومة.

أما عن الواقعة التي دفعتها للعودة إلى السودان رغم عدم استقرار الأوضاع هناك، فتقول ميادة إن "ابنتها ذات الاثنا عشر عاما تعرضت للتحرش الجسدي واللفظي على يد مجموعة من الأشخاص في المنطقة التي يعيشون بها في حي الهرم بمحافظة الجيزة، وعندما توجهت للشرطة للإبلاغ، لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة، بل وتم الاستهزاء بنا، وبعدها أُغلق المحضر بدون أي استدعاء للمتهمين".

وتضيف "وقتها قررت الرحيل إلى بلدي، فنحن لا يتم التعامل معنا على أننا بشر".

ويقول المحامي الحقوقي المصري كامل عبده لموقع "الحرة" إنه "للأسف في الآونة الأخيرة، "تعالت الأصوات السياسية والإعلامية المناهضة للاجئين في مصر، بل وتم ربط التدهور الاقتصادي بوجودهم، وأدت هذه الحملات إلى زيادة العنصرية والتضييق على الأجانب، خاصة السودانيين باعتبارهم الجالية الأكبر حاليا في مصر، سواء من قبل الشعب أو بعض سلطات إنفاذ القانون".

ويضيف: "هذه الحملات هدفها تشتيت الانتباه عن المشاكل السياسية والاقتصادية في مصر، وتحميلها لأطراف بعيدة وخارجية، مثل الأجانب واللاجئين".

العودة أسهل.. لكنها أخطر

وتحدثت ميادة عن رحلة عودتها إلى الخرطوم، قائلة إنها كانت أسهل من القدوم إلى مصر ولم تستغرق وقتا طويلًا، فقد انتقلت بالقطار من القاهرة إلى أسوان، ومن هناك إلى مدينة أبو سمبل، حيث تتواجد عشرات الحافلات التي تسهل عملية العودة والتي تتحرك يوميًا لنقل الركاب.

في المقابل، حذرت الناشطة السودانية في مصر أمينة عباس، في تصريح لموقع "الحرة"، من "خطورة تسرع بعض السودانيين في قرار العودة إلى السودان، خاصة بسبب الأوضاع الاقتصادية والتضييق الأمني تجاههم في مصر"، موضحة أنه لا توجد أرقام رسمية مؤكدة لإجمالي من رحلوا، خاصة أن منهم من دخلوا مصر بدون وثائق رسمية، لكن الإحصاءات غير الرسمية تشير إلى أنه خلال الشهور الأربع الماضية تجاوز عدهم 300 ألف شخص.

وأكدت أن "عودة السودانيين في الفترة الحالية تحمل مخاطر أمنية وصحية ضخمة، في ظل عدم انتهاء الحرب بشكل تام، واستمرار تفشي الأمراض وانهيار البنية التحتية والوضع الاقتصادي".

"رغم الحرب والخوف، الأمر الوحيد الذي كان يشعرني بالاطمئنان هو أننا معا وسنعود أيضا معا، ولم أكن أتخيل أن هذا الطريق من الخرطوم للقاهرة ستعود عليه إحدانا بمفردها تاركة الأخرى"، هكذا تروي نعمات، شقيقة ميادة جانبها من القصة.

وتقول: "بعد أن أنفقنا كل مدخراتنا في القاهرة، فالآن أصبحنا أمام خيارين كلاهما مر، إما تحمل صعوبة الأوضاع في مصر أو العودة إلى خطر الحرب والموت في السودان".