دمار خلّفته المعارك في العاصمة السودانية الخرطوم
دمار خلّفته المعارك في العاصمة السودانية الخرطوم

يشهد السودان أوقاتا عصيبة على وقع معارك دامية بين قوات الجيش بقيادة، عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، ما دفع الآلاف إلى النزوح سواء داخليًا أو مغادرة البلاد بشكل كامل بحثًا عن أي شعور بالأمان والحياة بشكل اعتيادي.

وعلى وقع المعارك وطلقات الرصاص وقصف الطائرات، يخوض السودانيون رحلة الخروج الخطيرة من الخرطوم، لكن يفرض عليهم ما وصفوا بتجار الأزمات رسومًا باهظة للسفر والتنقل.

يقول البعض إن هناك متربحين من الأزمة والكارثة التي يعيشها السودان، لكن يجب الوضع في الاعتبار مسألة شُح الوقود وانعدام الأمان.

ذكرت وزارة الصحة في السودان أن عدد ضحايا أعمال القتال الدائرة في البلاد وصل إلى 512 قتيلًا بجانب آلاف المصابين، وهو عدد مرشح للزيادة من استئناف الاشتباكات من طرفي النزاع في أعقاب انتهاء مهلة اليومين الهشة، التي تمت برعاية أميركية.

"تجار الأزمات"

يغادر السودانيون مناطق الخطر في الخرطوم، سواء شمالًا نحو الحدود المصرية، أو شرقًا نحو بورتسودان، أو جنوبًا نحو دولة جنوب السودان، أو إلى مناطق هادئة نسبيًا مثل الجزيرة أو شمال كردفان.

وقال الشاب السوداني مصطفى النعيم، لموقع "الحرة"، إنه خلال الظروف الأخيرة التي يمر بها السودان، ظهر ما يمكن وصفهم بتجار الأزمات"، مضيفًا "يعلمون أن الناس خائفة ويمكن أن تدفع كل ما تملك للخروج من مكان الخطر إلى الأمان".

وأوضح أن أسرته تعرضت لعملية استغلال خلال سفرها داخل الخرطوم، حيث دفعت لحافلة من منزلهم إلى السوق الشعبي بمنطقة أم درمان نحو 360 ألف جنيه سوداني (600 دولار)، في رحلة لا تتجاوز في المعتاد 20 ألفًا.

وقال إن سائق الحافلة "طلب في البداية حوالي 400 دولار، وفي نصف الطريق طلب 300 ألف أي أكثر من 500 دولار، وطلب مبلغ أكبر بعد ذلك لأن من معه امرأة كبيرة في السن ويدرك أن تحركها صعب، وبالتالي لن يستطيعوا النزول من السيارة، بجانب خطورة الأوضاع في الطرقات".

وأكد "في النهاية دفعت جدته في منتصف الستينات من العمر وعمته وعمّه الذي يعاني من إعاقة عقلية، نحو 600 دولار، قبل أن ينتقلوا إلى مدينة الأُبيّض مقابل 500 دولارا أخرى".

أما الرشيد بريمه، الذي غادر إلى ولاية الجزيرة جنوبي البلاد، فصرح للحرة، بأن "هناك من يستغلون المواطن، هم تجار أزمات من كل النواحي، وبات الخروج صعبا بسبب الرصاص وغلاء طرق النجاة من الموت".

وأوضح أنه سافر مع أسرته (9 أشخاص) على متن حافلة مقابل 40 ألف جنيه سوداني للفرد، وهي المسافة التي كانوا يقطعونها بالحافلة من قبل مقابل 5 آلاف فقط.

وصرح: "دفعت 600 ألف جنيه سوداني لي ولأسرتي، خرجنا من أم درمان إلى الجزيرة.

وواصل حديثه بالقول: "البعض يفسر الأمر لانعدام الوقود وتجار الأزمات، الكل يريد الهرب إلى مكان آمن لكن لا يستطيع الكثيرون السفر لارتفاع تكلفته وانعدام الأمان على الطرق، ولا يستطيع أحد الوصول إلى دول الجوار إلا لو كان معه مبالغ مالية ضخمة".

وبشكل عام ازدادت أسعار الحافلات عشرة أضعاف منذ بدء الأزمة، بحسب ما يقوله، كمال نور، الشاب الذي يعمل مهندسًا معماريًا، وغادر مع أهله ليلة عيد الفطر إلى ولاية الجزيرة أيضًا.

وكان نور يعيش في حي الطائف قرب مركز القيادة العامة ومطار الخرطوم، وقررت أسرته المكونة من 8 أفراد المغادرة وسط القتال الشديد الدائر.

وقال لموقع الحرة إنه استأجر لأسرته "حافلة متجهة إلى منطقة مدني بولاية الجزيرة وتبعد مسافة ساعتين أو أكثر قليلا عن الخرطوم. زادت أسعار الحافلات إلى عشرة أضعاف. وهذا في ظل علاقتي الجيدة مع سائق الحافلة التي استأجرتها".

وقال إن السفر من منزله في الخرطوم إلى مدني كانت تكلفتها للراكب نحو 5 آلاف جنيهًا سودانيًا "ولكن خرجنا بـ 20 ألف للراكب، وهذه الزيادة أكيد بسبب ندرة البنزين".

"أزمات أخرى"

ما أن يغادر المواطن السوداني إلى مناطق آمنة داخل بلاده، حتى يجد أزمات أخرى، فيقول بريمه: "يعاني الجميع من ارتفاع الأسعار، وحتى الذين هربوا من الحرب يعانون من عدم توفر الطعام، كما يشكل المسكن هاجسًا كبيرًا جدًا حيث ارتفع سعر إيجار الشقة في ولاية الجزيرة إلى مليار جنيه شهريًا، وفي ولايات أخرى أكثر من ذلك".

أما نور فعلى النقيض، وجه دعوة للسودانيين إلى البقاء في بلادهم والتوجه إلى الولايات الآمنة بدلا من التوجه إلى دول الجوار، وقال: "الوضع في الجزيرة هادئ جدًا، الناس يتحملون بعضهم البعض، هناك أزمة شقق لكن ربما لا تجد شقة لكن ستجد ألف بيت أمامك ليستضيفك أهله".

بينما اشتكى النعيم، الموجود في مصر قبل شهر تقريبًا، من وجود مشاكل في شراء أدوية مرضى السكري والضغط "ربما تكون موجودة لكن الصيدليات مغلقة والطرق غير آمنة".

وأضاف: "جدتي كانت تمتلك أدوية تكفيها لفترة، لكنها خرجت إلى الأُبيضَ والوضع مستقر هناك".

وكان المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، قال في مؤتمر صحفي أمس الأربعاء، إن 61% من المنشآت الصحية في الخرطوم مغلقة، و16% منها فقط تعمل بصورة عادية.

وحذّر من أن هناك المزيد من الوفيات في السودان في ظل القتال الدائر، ومن تفشي الأمراض بين المواطنين في ظل النقص في الخدمات الصحية الضرورية.

مهاجرون سودانيون غير شرعيين، في انتظار ترحيلهم من ليبيا – مطار بن غازي 2019
مهاجرون سودانيون غير شرعيين، في انتظار ترحيلهم من ليبيا – مطار بن غازي 2019

في إحدى ليالي أبريل عام 2023، وبينما كان صوت القذائف يمزّق سكون مدينة الفاشر، شمال دارفور، احتضنت تماضر النور البكر، أطفالها.

لديها ثلاثة أطفال، احتضنتهم سوية، في محاولة لتهدئة رعشة الخوف في قلبها.

"الحرب لا ترحم، والجوع بات يهدد حياتهم"، قالت البكر لموقع "الحرة".

حاول زوجها، الذي ظل معها طوال فترة النزوح، البحث عن أي وسيلة للخروج من السودان، بعدما ضاق بهم الحال وأصبحت الفاشر ساحة معركة، لا تصلح للعيش.

لم يكن أمامهما خيار سوى الهرب. 

جمعا ما تبقى لديهما من أموال قليلة، واستعدا لرحلة محفوفة بالمخاطر نحو ليبيا، حيث قيل لهما: هناك فرصة لحياة أكثر أمانا.

بدأت الحرب في السودان منتصف أبريل عام 2023، نتيجة صراع بين القوات المسلحة بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي.

يعود أصل الخلاف إلى تنافس قديم بين المؤسستين حول السلطة والنفوذ، وتفاقم الخلاف بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019.

خلفت الحرب آثارا إنسانية تصفها تقارير دولية بـ"الكارثية"، إذ سقط آلاف الضحايا المدنيين وأجبر الملايين على النزوح داخليا وخارجيا.

رحلة الهروب إلى الكفرة

في شاحنة قديمة مكتظة بالهاربين، انطلقت البكر وزوجها وأطفالهما عبر الصحراء الكبرى في أغسطس من نفس العام.

كان الحرّ لا يُطاق، والماء شحيحا، والخوف من قطاع الطرق والميليشيات، ينهش القلوب.

كلما شعرت البكر باليأس، نظرت إلى عيون أطفالها واستمدّت منهم القوة، فيما كان زوجها يمسك بيدها ليطمئنها بأن "هذه المحنة ستمر".

بعد أيام من المعاناة، وصلوا إلى مدينة الكفرة الليبية، نقطة الدخول الرئيسية من السودان، وتبعد نحو 350 كيلومترا عن أقرب نقطة حدودية سودانية.

خلال عام 2024، تضاعف عدد اللاجئين السودانيين الباحثين عن الأمان في ليبيا، مع وصول ما يقدر بنحو 400 لاجئ إلى البلاد يوميا، وفقا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

سرعان ما اكتشفت أسرة البكر أن الكفرة تعج بالمُهربين والمسلحين، وأن اللاجئين السودانيين يُعاملون بقسوة. 

بالكاد تمكنوا من العثور على مكان يؤويهم. ناموا في مخزن صغير مشترك مع مجموعة عائلات، هربت أيضا من أماكن أخرى.

في الصباح، بدأوا مع آخرين بمساعدة مهرب، التحرك نحو العاصمة الليبية طرابلس، حيث أوقفهم مسلحون على حواجز عدة.

قالت البكر: "كانوا ينزلوننا ويهينوننا، خاصة في بوابة إجدابيا شرق ليبيا، ويطلبون أموالا إضافية حتى نمر".

دفعوا ما يعادل الـ 100 دولار أميركي لهذه الحواجز، حتى وصلوا إلى طرابلس في الغرب.

خريطة السيطرة في ليبيا

احتجاز أول

وصلت الأسرة والقافلة إلى مقر مفوضية اللاجئين. بالكاد استطاعوا تسجيل أسمائهم، ثم حصلت كل أسرة على مبلغ 500 دينار (حوالي 101 دولار أميركي)، بحسب البكر.

قالت البكر: "هذا المبلغ لا يكفي إيجار بيت لشهر واحد، لذا خصصناه للأكل والشراب".

لم يكن هناك مكان يأوي أسرتها، فباتوا أمام المفوضية مع عشرات من السودانيين الآخرين.

لم يمضِ وقت طويل حتى داهمت قوات الأمن الليبية المنطقة بعد اكتظاظها بالمهاجرين.

اعتُقل عشرات اللاجئين، من بينهم البكر وزوجها وأطفالهما الذين يبلغون من العمر سبعة وثمانية و12 عاما.

اقتيدت الأسرة مع عشرات من الأسر الأخرى إلى سجن أبو سليم.

"أجبرونا على خلع كل ملابسنا أنا وزوجي تماما حتى الأطفال الصغار، بدعوى التفتيش، وعندما جادلناهم ضربونا. لدي علامات على جسمي بسبب ضربهم" قالت البكر.

كانت الليالي في السجن تمر بطيئة ومليئة بالخوف. 

شاهدت البكر رجال الأمن يضربون بعض المحتجزين، وسمعت صرخات نساء تم استجوابهن بطرق مهينة.

حاولت أن تبقى قوية من أجل أطفالها الذين كانوا يبكون من الجوع والبرد.

في السجن، رافقتهم امرأة سودانية مع أطفالها السبعة، أكبرهم فتاة تبلغ من العمر 18 عاما.

كانت السيدة تعاني من مرض السكري، ولم تكن قادرة على تناول الطعام الذي يقدم لهم، وهو عبارة عن خبز أو أرز.

تعيش هذه السيدة الآن مع البكر وعائلتها. تعاني من مرض شديد بسبب ما حدث معها في السجن.

بعد 30 يوما من الاحتجاز والمعاناة، تم إطلاق سراحهم بعد أن تدخلت مفوضية اللاجئين التي منحتهم 900 دينار (190 دولارا أميركيا تقريبا) للبحث عن مأوى.

وبالفعل، اشتركت الأسرة مع عائلات سودانية أخرى لتأجير منزل بثلاث غرف، حوت كل واحدة، سبعة أشخاص.

قالت البكر: "أفضل من أن نبيت في الشارع ويتم اعتقالنا من جديد".

حاول زوجها البحث عن عمل دائم، لكنه لم يفلح. السبب في ذلك، عدم وجود جوازات سفر معهم.

لم يطل بقاؤهم في المنزل المستأجر أكثر من شهر، حتى جاءت قوات الأمن واعتقلتهم من جديد.

تم الاعتقال بناء على شكوى من الجيران الذين قالوا إن "المنزل فيه عدد كبير من السودانيين".

كانت هذه المرة أسوأ من الأولى، حيث أجبرتها قوات الأمن على خلع ملابسها رغم أنها كانت في فترة الحيض.

لم تفلح محاولات التوسل إليهم لإثنائهم عن هذه الإجراءات المهينة، التي تصاحبها تحرشات جنسية، على حد قولها.

داخل الحجز، لم يكن هناك طعام تقريبا. كان الأطفال يمرضون دون أي رعاية طبية.

بعد ستة أيام اتصلت السفارة السودانية وتوسطت لإخراجهم من السجن.

لا تستطيع البكر وأسرتها العودة إلى الفاشر التي تستمر فيها الحرب، حتى أن والدها قتل هناك بقصف قوات الدعم السريع قبل أربعة أشهر. 

صعوبات هائلة

وبينما تشير التقديرات إلى وصول أكثر من 210 ألف سوداني إلى ليبيا منذ بداية الحرب، تتوقع مفوضية اللاجئين أن يصل العدد إلى نحو 450 ألفا مع نهاية العام الجاري.

في أواخر ديسمبر الماضي، قالت عسير المضاعين، رئيسة بعثة مفوضية اللاجئين في ليبيا: "لقد تحمل اللاجئون في ليبيا صعوبات هائلة في رحلتهم إلى هنا. ومع دخولنا عاما جديدا، يجب أن نتحرك بسرعة لمنع المزيد من المعاناة وحماية الأرواح".

أصدرت هيئة مكافحة الهجرة غير الشرعية في ليبيا الشهر الماضي، إنذارا نهائيا للشركات في جميع أنحاء البلاد، وطالبتها بتسوية الوضع الوظيفي لعمالها المغتربين.

"استغلال"

طارق لملوم، وهو باحث في الهجرة غير الشرعية، قال خلال مقابلة مع موقع "الحرة" إن " ليبيا تعيش حالة من الفوضى في ما يتعلق بمعاملة المهاجرين غير النظاميين".

"هناك إعلانات كثيرة عن ضرورة تسوية أوضاعهم، لكن على أرض الواقع، يتورط الكثير من المسؤولين في استغلالهم بشكل غير قانوني"، قال لملوم.

قال أيضا إن "كل من يقوم بأعمال الصيانة والنظافة، حتى في السجون، هم مهاجرون غير نظاميين. حتى في الوزارات، هؤلاء العمال هم من يشغلون الوظائف، لكنهم ليسوا مسجلين بشكل قانوني".

وأشار لملوم إلى أن "هؤلاء المهاجرين، غالبا ما يجدون أنفسهم ضحايا للمتاجرة بالبشر، ويعيشون في ظروف قاسية داخل مراكز الاحتجاز، حيث يتم استغلالهم ماليا من قبل السلطات والمجموعات المسلحة".

في السجون، يتعرض المهاجرون للاحتجاز التعسفي، مع تهديدات مستمرة بأنهم سيظلون رهن الاعتقال إلى أن يدفعوا مبالغ مالية مقابل إطلاق سراحهم، بحسب لملوم.

بعضهم لا يتمكن من الخروج إلا بعد دفع مبالغ تصل إلى 1500 دولار أميركي، وهو ما يزيد من معاناتهم، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور في ليبيا.

تضاف إلى هذه المأساة، قلة الخيارات الإنسانية المتاحة لتخفيف معاناتهم، ما يعكس بشكل واضح ضعف الدولة الليبية في معالجة أزمة الهجرة بشكل قانوني وإنساني.

وبينما تخشى البكر مغادرة المنزل الذي يبيتون فيه خوفا مما يمكن أن يحدث، جاءت حملة أمنية السبت (2 فبراير) واعتقلت زوجها ومجموعة سودانيين كانوا يقفون في ساحة يتجمع فيها العمال بحثا عن عمل.

لم تعد ترى أي مخرج من هذا الكابوس الذي يزداد تعقيدا مع مرور الوقت، خاصة، أنها ترى أطفالها يكبرون أمامها دون أن يلتحقوا بالمدارس.

أصبحت البكر تحلم باليوم الذي تنتهي فيه هذه الرحلة القاسية، والعودة إلى وطن آمن، حيث لا تُعامل كالغريبة، وحيث يستطيع أطفالها أن يناموا دون خوف.