قبل عيد الأضحى كل عام، يصطحب السودانيون أطفالهم لشراء الملابس الجديدة واختيار الأضحية، وتبدأ الأسر في الاستعداد للاحتفال بتجهيز المنازل بمشروبات وستائر وحتى طلاء جديد.
يؤدون صلاة العيد وبعد ذبح الأضاحي، تبدأ الزيارات واللقاءات العائلية، حيث يجتمع الأطفال ويستمتعون في الحدائق والمتنزهات العامة بملابسهم الجديدة، فيما يجهز الكبار الوجبات التي قد يجتمع عليها شارع أو حي بأسره.
يقول سودانيون إنهم لا يشعرون بعيد الأضحى إلا بإعدادهم لمشروب محلي اسمه "الشربوت"، يتم تجهيزه قبل أيام من العيد وهو مصنوع من التمر المخمّر ويشبهونه بالنبيذ لكن درجة تخميره ليست عالية، ويصفونه بأنه مساعد جيد على الهضم.
لكن هذه الأجواء تلاشت في ظل قتال متواصل بدأ منتصف أبريل الماضي قبل أيام قليلة من عيد الفطر، حيث قضى السودانيون ليالي العيد وسط القصف وأصوات الرصاص محاولين الخروج بعد اندلاع المعارك بين قوات الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
ويقضي قرابة 500 ألف سوداني، وفق رويترز، عيد الأضحى الذي يبدأ يوم 28 يونيو الجاري بعيدًا وطنهم ومنازلهم وعائلاتهم، بعد مغادرتهم البلاد.
وذكرت الوكالة أن أكثر من 2.5 مليون شخص اضطروا إلى النزوح سواء داخليًا أو اللجوء إلى دول أخرى منذ اندلاع القتال، الذي شهد مقتل أكثر من 2000 شخص بحسب منظمة "أكليد" غير الحكومية.
حنين للوطن والعادات
يعيش المواطن السوداني، خالد خضر، في منطقة فيصل بمحافظة الجيزة المصرية، بعدما نزح وأسرته المكونة من زوجته وثلاثة أبناء، بعد اندلاع القتال في بلاده.
وقال الأب لموقع "الحرة"، إن هناك شعور بأنهم "في بلد غريب ولم ننس بلدنا وشكل العيد فيه وكيف كنا نقضيه. هنا البلد مختلف والأوضاع مختلفة في ظل مشاعر فراق الأصدقاء والأصحاب والأهل، فنحن في واقع جديد ولم نغادر إليه طواعية، بل فرض علينا الرحيل".
وتابع خضر: "الكلام لا يعبر عن مزيج المشاعر بداخلنا، ففي السودان كنا نجهز للعيد بشراء الملابس للأطفال وشراء الأضحية ونعلم من أين نأتي بكل ذلك. التجهيزات والفرحة كانت تغمر البيوت والأسر بالكامل وليس الأطفال فقط".
وواصل صاحب الـ55 عامًا: "كل المناطق كانت تتزين للعيد بملاءات وستائر جديدة وطلاء البيت، الدنيا جميعها من حولك كانت تفرح وتحتفل بالعيد. كنا نعد مخبوزات ومشروبات للعيد خصيصًا".
وصف المواطن السوداني أنه يفتقد جميع التفاصيل التي لو كان في الأوضاع الطبيعية لكان بدأ التنسيق لها من الآن، حيث تكون صلاة العيد بجلباب جديد وحذاء يطلق عليه السودانيون "مركوب" ويصنع من جلد الماعز أو الأبقار "وهو من الأمور المفضلة لدينا ونتفاخر بارتدائه في العيد".
وبصوت يكسوه الحزن، تحدثت الأمين العام لشبكة حقوق الطفل في السودان، عفاف ميرغني، وقالت إنه لا يمكن وصف إحساس الألم مع اقتراب عيد الأضحى الذي كان يلم شمل العائلات في السودان، وقالت إن أدق وصف لما يعانيه السودانيون حاليًا هو بيت شعر لأبي الطيب المتنبي قال فيه "عيد بأي حال عدت يا عيد، بما مضى أم بأمر فيه تجديد. أما الأحبة فالبيداء دونهم، فليت دونك بيدا دونها بيد".
ويشير شعر المتنبي إلى تشتت الشاعر عن حبيبته، وهو ما تصفه ميرغني بأنه يشبه أوضاع السودانيين الذي يأتي عليهم العيد وهم مشتتون داخل البلاد وخارجها.
وأضافت السيدة التي وصلت القاهرة مؤخرًا، في تصريحات لموقع الحرة: "أول مرة في حياتي أرى كل العوائل مشتتة سواء في الداخل أو الخارج، نتمنى أن يجمع الله شمل الناس ويوقف الحرب ونعود لوطننا".
واستعادت عادات العيد التي ستفتقدها من نظافة المنزل والتحضير لإفطار العيد والأضحية وتجهيز "الشربوت"، وقالت "سنفتقد الإحساس بالعيد ومتعة التحضير له".
المحامي أحمد جلال، الذي وصل مصر مع أمه وخالته قبل شهر تقريبًا، بعدما قضى أيامًا مروعة داخل منزله الذي يقع قرب القيادة العامة في الخرطوم حيث تدور أكثر المعارك ضراوة.
وقال للحرة إنه كإنسان سوداني لم يتوقع أبدًا أن يمر عليه عيد الأضحى دون أن يخرج لشراء الأضحية ويدخل في جولات جدل حول الأسعار مع الباعة "الأحاسيس كلها مختلطة بسبب ما مررنا به، كأنني في غيبوبة بين النوم واليقظة".
وتابع "الشعور لا يوصف وكأنني في كابوس.. ما نمر به كارثة لأن عيد الأضحى من المناسبات الاجتماعية الأشد قدسية في السودان".
تقليد الطقوس
يحب السودانيون أن يكونوا قريبين من بعضهم البعض حينما يختارون سكنهم في مصر، في محاولة للقضاء ولو بشكل ظاهري على فكرة الغربة والحياة في وطن مختلف.
استقبلت مصر قرابة ربع مليون سوداني وهو ما يعادل 60 % من إجمالي الفارين من أعمال العنف، بالإضافة إلى 5 مليون سوداني تستضيفهم بالفعل منذ عقود طويلة، بحسب بيان لوزارة الخارجية المصرية.
غادرت عفاف ميرغني السودان بعد 15 يومًا من اندلاع القتال في الخرطوم بعد أسبوعين من انقطاع الكهرباء والمياه، والحياة على وقع أصوات القصف والرصاص.
وتابعت حديثه للحرة: "سنفتقد المعايدة بين الأهل والأصدقاء والجيران، كنا نتجمع ويلتأم شمل الأحبة ويقضون أوقاتا جميلة"، موضحة أنهم سوف يحاولون فعل ذلك في مصر خصوصًا مع وجود أقارب لها هناك.
لكنها أكدت "نحاول عمل برنامج لكن بالتأكيد سيكون بلا طعم، نحاول ترتيب وهناك ترتيبات بين السودانيين لمعايدة بعضنا البعض لكن سيكسوها الحزن والألم".
كما واصل خضر حديثه بالقول : "نحن شعب اجتماعي ونحاول في مصر الحياة بنفس الشكل الذي كنا عليه في السودان، فنعيش في تجمعات مثلما هو الحال في منطقة فيصل. لكن برغم ذلك العيد غريب علينا".
كما هو الحال في بلدان عربية كثيرة، تكثر الزيجات في السودان خلال عيدي الفطر والأضحى، وذلك في ظل التجمعات العائلية الكبيرة وعودة أفراد الأسر القاطنين خارج البلاد.
ويوضح خضر: "العيد معروف أنه موسم للأفراح في السودان"، مشيرًا إلى أن هناك بعض حالات الزواج بين السودانيين خلال عيد الأضحى في مصر، لكن "الوضع مختلف والتجمع الكبير يمكن أن يحدث لكنه لا يمكن مقارنته بالوضع في البلاد".
يسأل الأطفال آبائهم عن اختفاء الطقوس التي اعتادوا عليها خلال الاحتفال بعيد الأضحى، وبالنسبة لخضر الذي يمتلك 3 أبناء أكبرهم نوار وعمرها (19 سنة) وأكرم (15) وطلَ (11)، طالما واجه أسئلة حول الأضحية وملابس العيد الجديدة ومن أين سيشترونها.
وقال إن الأطفال لا يحتفلون بحرية وحركة كاملة مثلما كانوا في السودان حينما يخرجون للتنزه في الحدائق وغيرها، وأوضح أن العيد هنا ربما يكون "كما الأيام العادية ولن يشعر به الأطفال".
لكنه أشار إلى أن ما يخفف وطأة الأمر هو وجود بعض الأقارب وبالتحديد أشقاء زوجته في مصر، حيث يعتزمون التجمع خلال العيد.
لكن جلال لا يشعر باقتراب العيد أو قدومه، ويقول إنه لم يلحظ أي تجهيزات نهائيًا بين السودانيين "لكن بالتأكيد هناك من سيحاول عمل تجمع في العيد بحثًا عن أمل كاذب".
العيد المقبل في السودان؟
يحلم المواطنون في السودان بالعودة إلى بلادهم والاحتفال في وطنهم ومنازلهم التي غادروها آملين في العودة يومًا ما مع انتهاء القتال.
ويقول خضر للحرة إنه ينفق من المدخرات في مصر ويتحرك في الأسواق ويسأله الناس دون مضايقات عن الأحوال في السودان، لكن يظل الأمل معقود على "أن نعود لبلادنا حيث تركنا بيوتنا على ما هي عليه وقت الحرب التي لم تتركنا نخرج بأي شيء من المنزل... كل جوارحنا ترغب في العودة".
لم تتمالك ميرغني نفسها عن الحديث عن ذكريات العيد في بلادها، وقالت إنها اضطرت للخروج بسبب الأوضاع السيئة، وفي البداية تحركت إلى منطقة جنوب الخرطوم، ولكن حينما امتد القتال وتوسعت رقعته، قررت السفر إلى مصر على أمل العودة مجددًا.
وأعربت عن أملها في أن تعود إلى السودان وتنتهي الحرب الدائرة هناك، ويتمكن المواطنون من الحياة والاحتفال بالعيد بصورة طبيعية.
أما جلال فيقول إن أجواء العيد في أي بلد تكون جميلة "لكن لن تشعر بها طالما أنت مجبر على أن تكون بهذا البلد بعيدًا عن بلدك"، مضيفًا "لو كنت في السودان حاليًا لن أشعر بالعيد أيضًا بسبب العائلات المشتتة... لا فرحة في وجود الحرب".