الحرب في السودان مستمرة منذ منتصف أبريل الماضي. أرشيفية
الحرب في السودان مستمرة منذ منتصف أبريل الماضي. أرشيفية

تتغير خريطة السيطرة الميدانية مع استمرار الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل الماضي، ويزداد الجدل بشأن حقيقة الغلبة على الأرض، خاصة مع اشتداد المعارك في مدينة أم درمان.

وشهدت المدينة التي يفصلها النيل عن العاصمة السودانية، الخرطوم، اشتباكات بين الطرفين، حيث يزعم كل طرف أنه يبسط سيطرته، وأن الطرف الآخر يخسر ويتراجع.

وأشار الخبير الاستراتيجي، عبد الواحد الطيب، إلى أن "الجيش السوداني انتهج نهجا عسكريا مخالفا لما ظل يتبعه خلال الأشهر الماضية، إذ أضحى يميل إلى العمليات البرية، بعد أن كان يراهن على الطلعات الجوية في التعامل مع عناصر الدعم السريع".

وقال الطيب لموقع "الحرة" إن "الأسلوب القتالي الجديد القائم على الهجوم مكّن الجيش السوداني من استعادة مواقع حيوية، كانت تسيطر عليها الدعم السريع في أم درمان، وبخاصة منطقة السوق الشعبي والمنطقة الصناعية وما جاورها".

ولفت الخبير الاستراتيجي إلى أن "الجيش تمكن من طرد عناصر الدعم السريع من ثلاثة أبراج في أم درمان، كانت تمثل حائط صد فعلي لها، ضد أي هجوم محتمل من الجيش، لأن الأبراج كانت تضم ما لا يقل عن 150 قناصا، موزعين في اتجاهات عدة"، على حد قوله.

وتابع "هذه العملية تحديدا ساعدت الجيش على استعادة مناطق واسعة بالقرب من منطقة سلاح المهندسين وأحياء أم درمان القديمة، ومنطقة أمبدة".

من جانبه، نفى مستشار قائد قوات الدعم السريع، الباشا طبيق، طرد قواتهم من أي منطقة في أم درمان، ولفت إلى أن "الجيش نفذ هجوما خاطفا وصل من خلاله إلى مناطق لا تبعد كثيرا عن مواقع سيطرة الدعم السريع، قبل أن يتم طرده منها لاحقا".

وقال الباشا لموقع "الحرة" إن "الجيش حاول استعادة مقر الإذاعة من سيطرة قوات الدعم السريع، لكن تصدت له القوة الموجودة هناك، وألحقت به خسائر فادحة".

وتسيطر قوات الدعم السريع على مقر الإذاعة السودانية الواقع في أم درمان، منذ اليوم الأول للحرب، وتنتشر في عدد من أحياء المدينة،  كما أنها نفذت محاولات متعدد للاستيلاء على مقر سلاح المهندسين الواقع جنوبي المدينة.

بدوره، أوضح عضو غرفة الطوارئ في أم درمان القديمة، مصعب عمر، أن "الجيش نفذ هجوما وصل بموجبه إلى مناطق كانت تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، لكن لم يتمكن من طردها من مقر الإذاعة السودانية".

ولفت عمر في حديثه لموقع "الحرة" إلى أن "قوات الدعم السريع فقدت عددا من الارتكازات التي كانت تنصبها في المنطقة منذ بدء الحرب، ما يشير إلى تقدم نسبي للجيش".

أهم القواعد العسكرية

منذ اندلاع الحرب سعت قوات الدعم السريع للسيطرة على مقر سلاح المهندسين التابع للجيش السوداني في أم درمان، لكن محاولاتها فشلت.

ويلفت الطيب إلى أن "الجيش يسيطر كليا على كامل منطقة سلاح المهندسين"، وهو ما أقر به الباشا طبيق، لكنه أشار إلى أن "قوات الدعم السريع تضرب حصارا وصفه بالمحكم على الجيش في تلك المنطقة".

ويسيطر الجيش على منطقة "وداي سيدنا" التي تقع في أم درمان، وتعد من أهم القواعد العسكرية، كونها تضم قيادة سلاح الجو، وزادات أهميتها مع اندلاع المعارك الحالية في السودان.

ولعب سلاح الجو التابع للجيش دورا محوريا في العمليات القتالية الدائرة حاليا، حيث كثف طلعاته الجوية على تمركزات قوات الدعم السريع منذ الساعات الأولى لتفجر القتال بين الطرفين.

ويشير الخبير الاستراتيجي إلى أن "منطقة كرري العسكرية بعيدة تماما عن محيط الصراع، بوصفها خاضعة كليا لسيطرة وإدارة الجيش".

ومنذ اندلاع القتال، ظلت قوات الدعم السريع تحاول عبور جسر الحلفايا من ناحية الخرطوم بحري (شرقي النيل)، للوصول إلى منطقة "وادي سيدنا" العسكرية في أم درمان (غربي النيل)، لكن الترسانة العسكرية التي ينشرها الجيش صعّبت المهمة.

ومؤخرا باتت قوات الدعم السريع تستخدم راجمات صواريخ بعيدة المدى لقصف منطقة "وادي سيدنا" العسكرية، إذ أعلن الناطق باسمها في بيانات متعددة، أن القذائف تسببت في تدمير طائرات ومقتل عدد من ضباط وجنود الجيش في تلك القاعدة، حسبما يقول.

هنا يشير الباشا إلى أن "قائد قوات الدعم السريع منح الضوء الأخضر لقواته لتنفيذ عملية واسعة ضد منطقة كرري والمهندسين".

ويشير المحلل السياسي، عز الدين المنصور، إلى أن "الجيش يهدف من خلال العمليات البرية التي نفذها مؤخرا في أم درمان لطرد قوات الدعم السريع من الإذاعة، بهدف ربط منطقة كرري بمنطقة سلاح المهندسين".

جدل خريطة السيطرة

وقال المنصور لموقع "الحرة" إن "الجدل حول خريطة السيطرة مفهوم ومبرر لأن طبيعة حرب المدن تجعل من الصعوبة استمرار الارتكازات العسكرية في مواقع ثابتة لمدة طويلة".

ولفت إلى أن "الجيش أصبح يميل إلى الهجوم بعد أن كان يميل إلى الدفاع خلال الأشهر الماضية، ما قد يغير في خريطة وواقع السيطرة الميدانية".

ولا ينحصر الجدل حول خريطة السيطرة في أم درمان وحدها، إذ يدور جدل - وإن كان بدرجات أقل – عن الواقع في الخرطوم، وكذلك عدد من الولايات السودانية الأخرى.

وبالنسبة للباشا طبيق، فإن "قوات الدعم السريع تسيطر على أكثر من 90 في المئة من مناطق الخرطوم والخرطوم بحري"، مشيرا إلى أن "الجيش يسيطر على مواقع محددة، مثل القيادة العامة في وسط الخرطوم، ومناطق في الخرطوم بحري".

وفي الشهور الأولى للحرب، سيطرت قوات الدعم السريع على القصر الجمهوري وعلى مقار عدد من الوزارات، وكذلك المنطقة العسكرية الاستراتيجية في وسط الخرطوم، بجانب مقر التصنيع الحربي، ومطار الخرطوم الدولي، ومنطقة جبل الأولياء العسكرية في جنوب الخرطوم.

وقلل الخبير الاستراتيجي من فاعلية تلك المواقع، ولفت إلى أن "معظمها عبارة عن مكاتب إدارية، وأن الجيش انسحب من بعضها لعدم أهميتها العسكرية".

وتابع "أنتجت الدعم السريع حملة إعلامية ضخمة عن تلك المواقع لتحقيق نصر إعلامي زائف، مع أن معظمها بلا قيمة عسكرية حقيقية".

ويسيطر الجيش على منطقة الشجرة العسكرية في جنوب الخرطوم، بينما تحاول الدعم السريع الاستيلاء عليها، لتسهيل مهمة إحكام سيطرتها على القيادة العامة للجيش في وسط الخرطوم. 

صراع ولايات

في أكتوبر الماضي كثفت قوات الدعم السريع عملياتها العسكرية في عدد من ولايات دارفور، وتمكنت بالفعل من السيطرة على نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، تبع ذلك سيطرتها على ولاية غرب دارفور ثم وسط دارفور وشرق دارفور، لتبسط سيطرتها على أربع من أصل خمس ولايات في دارفور.

ولا يزال الجيش  يبسط سيطرته على ولاية شمال دارفور، التي تضم ملايين من ضحايا الحروب، الذين احتموا بها هربا من القتال الحالي والقتال الذي اندلع عام 2003 واستمر حتى سقوط نظام البشير عام 2019.

وفي ديسمبر الماضي، بسطت قوات الدعم السريع سيطرتها على ولاية الجزيرة بوسط السودان، بينما يسيطر الجيش على ولايات سنار، البحر الأحمر، القضارف، كسلا، نهر النيل والشمالية، في حين يندلع القتال في ولايات شمال كردفان وكذلك جنوب كردفان، وغرب كردفان، إذ يسيطر الجيش وتحاول الدعم السريع مقاسمته السيطرة.

وبالتزامن مع الجدل حول خريطة السيطرة في أم درمان، ظهر جدل آخر حول من يسيطر على مدينة بابنوسة في ولاية غرب كردفان.

هنا يشير مستشار قائد قوات الدعم السريع الباشا طبيق إلى أن "قواتهم تسيطر على عدد من أحياء المدينة مثل سكة الحديد وأبو اسماعيل، وأن الجيش يتمركز داخل مقر حاميته العسكرية".

لكن الطيب نفى وجود أي سيطرة لقوات الدعم السريع على مدينة بابنوسة، وأكد أن "الجيش صد الهجوم على المدينة، وبسط سيطرته المطلقة عليها".

وقدم الطيب تفسيرا لاستمرار سيطرة الدعم السريع على عدد من المواقع منذ الشهور الأولى للحرب وحتى الآن، وقال إن "الجيش ليس مهتما باستعادة تلك المواقع لأن أغلبها ذو طبيعة إدارية، وبلا قيمة عسكرية حقيقية، وبدلا من ذلك يكتفي بتنفيذ ضربات وصفها بالموجعة على قوات الدعم السريع".

وتابع "الجيش يرمي إلى استنزاف الدعم السريع وتفتيت القوة الصلبة لها، لأن هدفه الرئيسي ليس التحرير الجغرافي، وإنما القضاء على الدعم السريع كليا".
 
ويشير المنصور إلى أن "سيطرة قوات الدعم السريع على بعض المواقع لا تثبت فاعليتها العسكرية، أو تعني أنها الأقرب إلى حسم المعركة، فالجيش له خططه التي تجعله يتقدم ويتأخر وفق الضرورة الميدانية".

وقال "حتى وإن كان الجيش غير راغب في ذلك، فعليه أن يبادر لاستعادة المواقع ذات الطبيعة السيادية مثل القصر الجمهوري وغيرها، لأن ذلك فيه دلالة رمزية مهمة، كما أنه يزيح عن الجيش الاتهام بأن غير قادر على استعادة تلك المواقع".

ووفق أرقام الأمم المتحدة، أدى الصراع بين الجيش والدعم السريع إلى مقتل أكثر من 12 ألف شخص، وأجبر أكثر من 7 ملايين على الفرار من منازلهم، بينهم 1.5 مليون لجأوا إلى تشاد ومصر وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا.

وفي السابع من فبراير، أطلقت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، نداء لتقديم دعم دولي بقيمة 4.1 مليار دولار للمدنيين المحاصرين في السودان، وسط مؤشرات على أن البعض ربما يموتون جوعا، بعد ما يقرب من عام من الحرب.

وقالت وكالات الأمم المتحدة إن نصف سكان السودان، أي حوالي 25 مليون شخص، يحتاج إلى الدعم والحماية، وإن الأموال المطلوبة ستخصص لمساعدة ملايين المدنيين في السودان وغيرهم ممن فروا إلى الخارج.

مهاجرون سودانيون غير شرعيين، في انتظار ترحيلهم من ليبيا – مطار بن غازي 2019
مهاجرون سودانيون غير شرعيين، في انتظار ترحيلهم من ليبيا – مطار بن غازي 2019

في إحدى ليالي أبريل عام 2023، وبينما كان صوت القذائف يمزّق سكون مدينة الفاشر، شمال دارفور، احتضنت تماضر النور البكر، أطفالها.

لديها ثلاثة أطفال، احتضنتهم سوية، في محاولة لتهدئة رعشة الخوف في قلبها.

"الحرب لا ترحم، والجوع بات يهدد حياتهم"، قالت البكر لموقع "الحرة".

حاول زوجها، الذي ظل معها طوال فترة النزوح، البحث عن أي وسيلة للخروج من السودان، بعدما ضاق بهم الحال وأصبحت الفاشر ساحة معركة، لا تصلح للعيش.

لم يكن أمامهما خيار سوى الهرب. 

جمعا ما تبقى لديهما من أموال قليلة، واستعدا لرحلة محفوفة بالمخاطر نحو ليبيا، حيث قيل لهما: هناك فرصة لحياة أكثر أمانا.

بدأت الحرب في السودان منتصف أبريل عام 2023، نتيجة صراع بين القوات المسلحة بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي.

يعود أصل الخلاف إلى تنافس قديم بين المؤسستين حول السلطة والنفوذ، وتفاقم الخلاف بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019.

خلفت الحرب آثارا إنسانية تصفها تقارير دولية بـ"الكارثية"، إذ سقط آلاف الضحايا المدنيين وأجبر الملايين على النزوح داخليا وخارجيا.

رحلة الهروب إلى الكفرة

في شاحنة قديمة مكتظة بالهاربين، انطلقت البكر وزوجها وأطفالهما عبر الصحراء الكبرى في أغسطس من نفس العام.

كان الحرّ لا يُطاق، والماء شحيحا، والخوف من قطاع الطرق والميليشيات، ينهش القلوب.

كلما شعرت البكر باليأس، نظرت إلى عيون أطفالها واستمدّت منهم القوة، فيما كان زوجها يمسك بيدها ليطمئنها بأن "هذه المحنة ستمر".

بعد أيام من المعاناة، وصلوا إلى مدينة الكفرة الليبية، نقطة الدخول الرئيسية من السودان، وتبعد نحو 350 كيلومترا عن أقرب نقطة حدودية سودانية.

خلال عام 2024، تضاعف عدد اللاجئين السودانيين الباحثين عن الأمان في ليبيا، مع وصول ما يقدر بنحو 400 لاجئ إلى البلاد يوميا، وفقا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

سرعان ما اكتشفت أسرة البكر أن الكفرة تعج بالمُهربين والمسلحين، وأن اللاجئين السودانيين يُعاملون بقسوة. 

بالكاد تمكنوا من العثور على مكان يؤويهم. ناموا في مخزن صغير مشترك مع مجموعة عائلات، هربت أيضا من أماكن أخرى.

في الصباح، بدأوا مع آخرين بمساعدة مهرب، التحرك نحو العاصمة الليبية طرابلس، حيث أوقفهم مسلحون على حواجز عدة.

قالت البكر: "كانوا ينزلوننا ويهينوننا، خاصة في بوابة إجدابيا شرق ليبيا، ويطلبون أموالا إضافية حتى نمر".

دفعوا ما يعادل الـ 100 دولار أميركي لهذه الحواجز، حتى وصلوا إلى طرابلس في الغرب.

خريطة السيطرة في ليبيا

احتجاز أول

وصلت الأسرة والقافلة إلى مقر مفوضية اللاجئين. بالكاد استطاعوا تسجيل أسمائهم، ثم حصلت كل أسرة على مبلغ 500 دينار (حوالي 101 دولار أميركي)، بحسب البكر.

قالت البكر: "هذا المبلغ لا يكفي إيجار بيت لشهر واحد، لذا خصصناه للأكل والشراب".

لم يكن هناك مكان يأوي أسرتها، فباتوا أمام المفوضية مع عشرات من السودانيين الآخرين.

لم يمضِ وقت طويل حتى داهمت قوات الأمن الليبية المنطقة بعد اكتظاظها بالمهاجرين.

اعتُقل عشرات اللاجئين، من بينهم البكر وزوجها وأطفالهما الذين يبلغون من العمر سبعة وثمانية و12 عاما.

اقتيدت الأسرة مع عشرات من الأسر الأخرى إلى سجن أبو سليم.

"أجبرونا على خلع كل ملابسنا أنا وزوجي تماما حتى الأطفال الصغار، بدعوى التفتيش، وعندما جادلناهم ضربونا. لدي علامات على جسمي بسبب ضربهم" قالت البكر.

كانت الليالي في السجن تمر بطيئة ومليئة بالخوف. 

شاهدت البكر رجال الأمن يضربون بعض المحتجزين، وسمعت صرخات نساء تم استجوابهن بطرق مهينة.

حاولت أن تبقى قوية من أجل أطفالها الذين كانوا يبكون من الجوع والبرد.

في السجن، رافقتهم امرأة سودانية مع أطفالها السبعة، أكبرهم فتاة تبلغ من العمر 18 عاما.

كانت السيدة تعاني من مرض السكري، ولم تكن قادرة على تناول الطعام الذي يقدم لهم، وهو عبارة عن خبز أو أرز.

تعيش هذه السيدة الآن مع البكر وعائلتها. تعاني من مرض شديد بسبب ما حدث معها في السجن.

بعد 30 يوما من الاحتجاز والمعاناة، تم إطلاق سراحهم بعد أن تدخلت مفوضية اللاجئين التي منحتهم 900 دينار (190 دولارا أميركيا تقريبا) للبحث عن مأوى.

وبالفعل، اشتركت الأسرة مع عائلات سودانية أخرى لتأجير منزل بثلاث غرف، حوت كل واحدة، سبعة أشخاص.

قالت البكر: "أفضل من أن نبيت في الشارع ويتم اعتقالنا من جديد".

حاول زوجها البحث عن عمل دائم، لكنه لم يفلح. السبب في ذلك، عدم وجود جوازات سفر معهم.

لم يطل بقاؤهم في المنزل المستأجر أكثر من شهر، حتى جاءت قوات الأمن واعتقلتهم من جديد.

تم الاعتقال بناء على شكوى من الجيران الذين قالوا إن "المنزل فيه عدد كبير من السودانيين".

كانت هذه المرة أسوأ من الأولى، حيث أجبرتها قوات الأمن على خلع ملابسها رغم أنها كانت في فترة الحيض.

لم تفلح محاولات التوسل إليهم لإثنائهم عن هذه الإجراءات المهينة، التي تصاحبها تحرشات جنسية، على حد قولها.

داخل الحجز، لم يكن هناك طعام تقريبا. كان الأطفال يمرضون دون أي رعاية طبية.

بعد ستة أيام اتصلت السفارة السودانية وتوسطت لإخراجهم من السجن.

لا تستطيع البكر وأسرتها العودة إلى الفاشر التي تستمر فيها الحرب، حتى أن والدها قتل هناك بقصف قوات الدعم السريع قبل أربعة أشهر. 

صعوبات هائلة

وبينما تشير التقديرات إلى وصول أكثر من 210 ألف سوداني إلى ليبيا منذ بداية الحرب، تتوقع مفوضية اللاجئين أن يصل العدد إلى نحو 450 ألفا مع نهاية العام الجاري.

في أواخر ديسمبر الماضي، قالت عسير المضاعين، رئيسة بعثة مفوضية اللاجئين في ليبيا: "لقد تحمل اللاجئون في ليبيا صعوبات هائلة في رحلتهم إلى هنا. ومع دخولنا عاما جديدا، يجب أن نتحرك بسرعة لمنع المزيد من المعاناة وحماية الأرواح".

أصدرت هيئة مكافحة الهجرة غير الشرعية في ليبيا الشهر الماضي، إنذارا نهائيا للشركات في جميع أنحاء البلاد، وطالبتها بتسوية الوضع الوظيفي لعمالها المغتربين.

"استغلال"

طارق لملوم، وهو باحث في الهجرة غير الشرعية، قال خلال مقابلة مع موقع "الحرة" إن " ليبيا تعيش حالة من الفوضى في ما يتعلق بمعاملة المهاجرين غير النظاميين".

"هناك إعلانات كثيرة عن ضرورة تسوية أوضاعهم، لكن على أرض الواقع، يتورط الكثير من المسؤولين في استغلالهم بشكل غير قانوني"، قال لملوم.

قال أيضا إن "كل من يقوم بأعمال الصيانة والنظافة، حتى في السجون، هم مهاجرون غير نظاميين. حتى في الوزارات، هؤلاء العمال هم من يشغلون الوظائف، لكنهم ليسوا مسجلين بشكل قانوني".

وأشار لملوم إلى أن "هؤلاء المهاجرين، غالبا ما يجدون أنفسهم ضحايا للمتاجرة بالبشر، ويعيشون في ظروف قاسية داخل مراكز الاحتجاز، حيث يتم استغلالهم ماليا من قبل السلطات والمجموعات المسلحة".

في السجون، يتعرض المهاجرون للاحتجاز التعسفي، مع تهديدات مستمرة بأنهم سيظلون رهن الاعتقال إلى أن يدفعوا مبالغ مالية مقابل إطلاق سراحهم، بحسب لملوم.

بعضهم لا يتمكن من الخروج إلا بعد دفع مبالغ تصل إلى 1500 دولار أميركي، وهو ما يزيد من معاناتهم، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور في ليبيا.

تضاف إلى هذه المأساة، قلة الخيارات الإنسانية المتاحة لتخفيف معاناتهم، ما يعكس بشكل واضح ضعف الدولة الليبية في معالجة أزمة الهجرة بشكل قانوني وإنساني.

وبينما تخشى البكر مغادرة المنزل الذي يبيتون فيه خوفا مما يمكن أن يحدث، جاءت حملة أمنية السبت (2 فبراير) واعتقلت زوجها ومجموعة سودانيين كانوا يقفون في ساحة يتجمع فيها العمال بحثا عن عمل.

لم تعد ترى أي مخرج من هذا الكابوس الذي يزداد تعقيدا مع مرور الوقت، خاصة، أنها ترى أطفالها يكبرون أمامها دون أن يلتحقوا بالمدارس.

أصبحت البكر تحلم باليوم الذي تنتهي فيه هذه الرحلة القاسية، والعودة إلى وطن آمن، حيث لا تُعامل كالغريبة، وحيث يستطيع أطفالها أن يناموا دون خوف.