بعد محاولات الشعب السوداني لاستعادة السيطرة على بلادهم من خلال مسار ديمقراطي، وجدوا أنفسهم وسط معارك طاحنة بين جنرالين يتقاتلان للتفرد بالسلطة.
المعارك التي طالت غالبية المدن في السودان، تُفاقم الأزمة التي يعيشها المواطنون السودانيون، في وقت تحذر فيه الأمم المتحدة من أن طرفي الصراع يرتكبان انتهاكات "ترقى لجرائم حرب"، حيث يعاني فيه ملايين السودانيين من أوضاع إنسانية صعبة.
مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أصدر تقريرا، الجمعة، يرصد الانتهاكات التي تشمل "هجمات عشوائية" على مواقع مدنية مثل المستشفيات والأسواق وحتى مخيمات النازحين.
قبل الحرب، كان سوداني واحد من كل ثلاثة يعاني من الجوع، كما غاب سبعة ملايين طفل عن الالتحاق بالتعليم خصوصا في المناطق الريفية حيث يعيش أكثر من ثلثي السكان، بحسب فرانس برس.
وجاءت الحرب لتضيف إلى المشاكل التي يعاني منها السودان، ثالث منتج للذهب في أفريقيا، بفعل سنوات من النزاعات المتكررة وحيث أنهت ثورة شعبية، في عام 2019، ثلاثين عاما من الحكم العسكري الدكتاتوري.
ويتصارع الجنرالان الأقوى في السودان على السلطة، قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، المعروف بـ "حميدتي"، بعد فترة تحالف بينهما حين تلاقت مصالحهما بعد الإطاحة بالرئيس السابق، عمر البشير، عام 2019.
وتقاسم الجيش وقوات الدعم السريع السلطة مع المدنيين بعد انتفاضة شعبية، عام 2019، ثم نفذا انقلابا معا، في عام 2021، قبل أن يدب الخلاف بينهما بشأن وضعهما في المرحلة الانتقالية التي تفضي إلى الانتخابات.
انتهاكات بالجملة
المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، دعا في بيان صحفي، الجمعة، إلى ضرورة إجراء "تحقيقات سريعة وشاملة وفعالة وشفافة ومستقلة ومحايدة في جميع الادعاءات بشأن الانتهاكات والتجاوزات للقانون الدولي لحقوق الإنسان وانتهاكات القانون الدولي الإنساني، ويجب تقديم المسؤولين عنها للعدالة".
وقال إن الروايات الواردة من السودان منذ ما يقرب من عام هي روايات "موت ومعاناة ويأس"، فيما تستمر الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان "دون نهاية تلوح في الأفق".
وأضاف تورك أن التقرير "يقدم قراءة مؤلمة للغاية للمأساة التي لحقت بالشعب السوداني دون داع منذ أبريل عام 2023، ويؤكد من جديد الحاجة الماسّة لإنهاء القتال وكسر دائرة الإفلات من العقاب التي أدت إلى نشوب هذا الصراع في المقام الأول. يجب إسكات البنادق في السودان وتوفير الحماية للمدنيين، كما أن هناك حاجة ماسة لاستئناف المحادثات الشاملة بجدية لاستعادة الحكومة المدنية من أجل فتح الطريق إلى الأمام".
وتحققت مفوضية حقوق الإنسان مؤخرا من مقطع فيديو موثوق به يشير إلى احتمال قطع رؤوس أربعة طلاب على يد رجال يرتدون زي القوات المسلحة السودانية في مدينة الأبيض أثناء سفرهم عبر ولاية شمال كردفان إذ اعتبروهم أنصارا لقوات الدعم السريع بناء على انتمائهم العرقي المفترض.
ويظهر الفيديو، الذي تم نشره على وسائل التواصل الاجتماعي في 15 فبراير، رجالا يرتدون ملابس للجيش يستعرضون رؤوسا مقطوعة في الشارع ويرددون إهانات عرقية، وتبادل طرفا النزاع الاتهامات بالضلوع فيما حدث.
ويستند التقرير إلى مقابلات أجرتها المفوضية مع 303 من الضحايا والشهود، بما في ذلك عشرات المقابلات التي أجريت في إثيوبيا وشرق تشاد، فضلا عن تحليل الصور ومقاطع الفيديو وصور الأقمار الاصطناعية ومعلومات من مصادر مفتوحة أخرى.
تطهير عرقي
ويكشف التقرير أن حملات الهجمات العشوائية شنتها كلا من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على مناطق مكتظة بالسكان أثناء القتال منذ بداية النزاع في 15 أبريل وحتى نهاية عام 2023، خاصة في العاصمة الخرطوم وأم درمان وكردفان ودارفور.
ويسلط التقرير الضوء على حادثتين منفصلتين، في أبريل الماضي، بالعاصمة، الخرطوم، عندما قتلت ثمانية صواريخ أطلقتها القوات المسلحة السودانية ما لا يقل عن 45 مدنيا، وفي أم درمان، في يونيو الماضي، أصابت قذائف أطلقتها قوات الدعم السريع سوقا ما أسفر عن مقتل 15 شخصا مدنيا، كما ذكر أنه في سبتمبر الماضي قتل 10 مدنيين بعدما انفجرت قذائف قوات الدعم السريع في محطة للحافلات.
وفي إحدى الحوادث، قتل عشرات النازحين عندما تعرض مخيمهم في زالنجي بدارفور للقصف من قبل قوات الدعم السريع في الفترة من 14 إلى 17 سبتمبر. وقتل نحو 26 مدنيا، معظمهم من النساء والأطفال في 22 أغسطس بقذائف قيل إن القوات المسلحة السودانية أطلقتها بينما كانوا يحتمون تحت أحد الجسور.
وبين مايو ونوفمبر الماضي نفذت قوات الدعم السريع والمليشيات العربية المتحالفة معها ما لا يقل عن 10 هجمات ضد المدنيين في الجنينة في دارفور، ما أسفر عن مقتل الآلاف غالبيتهم من قبيلة المساليت الأفريقية.
كما وقعت عمليات قتل على يد قوات الدعم السريع لمدنيين في بلدة مورني وأردمتا، حيث دفن ما لا يقل عن 87 مدنيا في مقبرة جماعية.
ويقول التقرير أيضا إن قوات الدعم السريع اعتمدت استراتيجية عسكرية تتمثل في استخدام الدروع البشرية، مستشهدا بشهادات الضحايا المعنيين.
وأسفرت الحرب، التي اندلعت في 15 أبريل، عن مقتل آلاف المدنيين، بمن فيهم ما بين 10 و15 ألف شخص في مدينة واحدة في دارفور، وفقا لخبراء الأمم المتحدة.
عنف جنسي
يؤكد تقرير الأمم المتحدة أنه بحلول 15 ديسمبر، تعرض ما لا يقل عن 118 شخصا للعنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي ومحاولة الاغتصاب، من بينهم 19 طفلا.
ويذكر التقرير أن العديد من عمليات الاغتصاب ارتكبت في المنازل والشوارع من قبل أفراد ينتمون لقوات الدعم السريع.
وأشار التقرير إلى أن امرأة احتُجِزت في أحد المباني وتعرضت للاغتصاب الجماعي بشكل متكرر على مدار 35 يوما.
وفي نوفمبر، حذر حوالي 12 خبيرا في الأمم المتحدة من انتشار العنف الجنسي على نطاق واسع، بدوافع عرقية في بعض الأحيان بينما يُستخدم "كأداة حرب" في السودان.
"تجنيد أطفال" و"اختفاء قسري"
ووجد التقرير أن قوات الدعم السريع قامت أيضا بتجنيد الأطفال من القبائل العربية في دارفور وكردفان.
وعلى الجهة المقابلة استجابت القبائل الأفريقية، بما في ذلك قبائل الفور والمساليت والزغاوة، لحملات التجنيد التي أطلقتها القوات المسلحة السودانية.
وقالت الهيئة الشعبية لدعم القوات المسلحة السودانية أنه سلح "255 ألف شاب في معسكرات في جميع أنحاء السودان".
وتتلقى مفوضية حقوق الإنسان تقارير بشكل دائم عن أشخاص مفقودين، فيما سجلت مبادرة مجتمعية أسماء أكثر من 715 شخصا في عداد المفقودين حتى منتصف أكتوبر، بينهم 650 رجلا والباقي من النساء والأطفال. ويعتقد أن العديد منهم محتجزون في مناطق خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع.
أزمة إنسانية منسية
وحتى منتصف ديسمبر الماضي سجلت منظمة الصحة العالمية 60 هجوما على المرافق الصحية، بما في ذلك إخلاء مستشفيات، في أواخر أبريل، من قبل قوات الدعم السريع.
وفي منتصف مايو، نفذت القوات المسلحة غارة جوية على مستشفى تسبب في نشوب حريق أدى إلى مقتل خمسة مدنيين، بينهم أربع نساء.
برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة كشف مؤخرا أن 95 في المئة من السودانيين لا يستطيعون تأمين وجبة كاملة في اليوم.
وفر حوالي ثمانية ملايين شخص، نصفهم من الأطفال، من منازلهم بحسب تقرير لوكالة فرانس برس.
وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من نصف السودانيين البالغ عددهم أكثر من 48 مليون نسمة، أي حوالي 25 مليون شخص، باتوا يحتاجون إلى المساعدة، بمن فيهم 18 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد.
ومن بين هؤلاء "قرابة خمسة ملايين على شفا الكارثة"، وهو ثاني أسوأ تصنيف يعتمده برنامج الأغذية العالمي لحالات الطوارئ بعد تصنيف المجاعة.
وتحذر منظمات حقوقية منذ أشهر من أن شبح المجاعة يلوح في الأفق في السودان نتيجة لعرقلة وصول المساعدات الإنسانية والنقص الحاد في التمويل. لكن العوائق نفسها التي تعترض توصيل المساعدات تعيق القدرة على تحديد حجم الكارثة.
وحتى من لجأ إلى دول مجاورة من السودانيين يمضون أشهرا في الانتظار في المخيمات آملين في أن يتمكنوا في وقت قريب من العودة إلى ديارهم.
وكانت منظمة أطباء بلا حدود أفادت في بداية فبراير عن وفاة طفل واحد على الأقل كل ساعتين في مخيم زمزم في دارفور، حيث يعيش ما بين 300 ألف و500 ألف نازح.
وحذرت المنظمة غير الحكومية من أن "الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية حاد والذين لم يموتوا بعد، يواجهون خطر الموت في غضون ثلاثة إلى ستة أسابيع إذا لم يتم علاجهم".
من جهتها، تحذر منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، من أنه من دون دعم دولي إضافي، "من المرجّح أن يموت عشرات الآلاف" من الأطفال في السودان.
وكانت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان كليمنتين نكويتا سلامي، صرحت في نوفمبر بأنها "تعجز عن وصف الفظائع التي تحدث هناك".
وقالت إن "ما يحدث هو بمثابة الشر المطلق"، مشيرة إلى أطفال "علقوا في مرمى النيران" أو فتيات صغيرات تعرضن للاغتصاب أمام أمهاتهن.
بدورها، تشير أليس فيرير المسؤولة عن السودان في منظمة "بريميير أورغانس انترناشيونال" إلى أنه "عندما نرى المبالغ التي تم تخصيصها لأوكرانيا، فإننا لسنا على المستوى ذاته من حيث الحجم على الإطلاق"، مضيفة أن "الأزمة السودانية منسية تماما".
وفي فبراير، وجهت الأمم المتحدة نداء لجمع 4.1 مليارات دولار لتلبية الاحتياجات الإنسانية للسودانيين هذه السنة، في بلادهم وفي البلدان المجاورة. وفي العام 2023، لم تتلق سوى نصف التمويل المطلوب.
وأدى قطع شبكة الاتصالات في السودان مؤخرا إلى عرقلة توصيل المساعدات وترك السكان الذين تنهكهم الحرب وعددهم زهاء 50 مليون نسمة غير قادرين على سداد المدفوعات أو الاتصال بالعالم الخارجي، بحسب تقرير لوكالة رويترز.
وقالت أربعة مصادر في قطاع الاتصالات لرويترز إن قوات الدعم السريع بدأت وقف تشغيل شبكات الاتصالات في الخامس من فبراير وقطعتها تماما بعد يومين.
وباتت قوات الدعم السريع تسيطر على معظم أنحاء العاصمة الخرطوم وبعض البنى التحتية السودانية الموجودة فيها ومن بينها المقار الرئيسية لشركات الاتصالات، وذلك بعد عشرة أشهر من الصراع.