سيارات ومبان متضررة في السوق المركزي بالخرطوم بحري
سيارات ومبان متضررة في السوق المركزي بالخرطوم بحري

عادت المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى مدينة الخرطوم بحري، بعد أن شهدت المدينة حالة من الهدوء خلال الأيام الماضية، إذ تجددت الاشتباكات بين الطرفين في عدد من المحاور القتالية بالمدينة التي يفصلها النيل الأزرق عن العاصمة السودانية الخرطوم.

وتصنف الخرطوم بحري، كضلع ثالث في العاصمة السودانية المثلثة، التي تضم الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري. وبها عدد من المقرات العسكرية التابعة للجيش، مثل سلاح الإشارة وسلاح الأسلحة، بجانب معسكر حطاب.

ونفذت قوات الدعم السريع أكثر من 30 موجة هجومية على مقر سلاح الإشارة في الخرطوم بحري، "بهدف الاستيلاء على المقر"، بحسب منصات إعلامية تابعة لقوات الدعم السريع.

وفي المقابل، أشارت منصات إعلامية تابعة للجيش، إلى أن "قوات سلاح الإشارة صدت هجوم الدعم السريع على المقر، الذي يفصله النيل الأزرق عن القيادة العامة للجيش في الخرطوم، مما أعطاه أهمية جغرافية وعسكرية.

وبحسب تلك المنصات، تمكن الجيش من تدمير عدد من الآليات العسكرية التابعة لقوات الدعم السريع، حاولت الهجوم على مقر سلاح الإشارة.

وفي توقيت متزامن، شنّت قوات الدعم السريع هجوما على مقر سلاح الأسلحة الذي يقع في منطقة الكدرو بالخرطوم بحري، كما نفذت قوة منها هجوما آخر على معسكر خطاب شمال الخرطوم بحري.

وتضم الخرطوم بحري أكثر من ألفي مصنع، في مجالات متعددة من الصناعات الخفيفة والثقيلة، تمثل موردا أساسيا لتوفير المواد الغذائية، في وقت تضرر معظم المصانع كليا أو جزئيا من جراء الحرب، وفق اتحاد الغرف الصناعية في السودان.

أهمية جغرافية وعسكرية

يرى الخبير العسكري عبد العظيم الطيب، أن "قوات الدعم السريع جددت الهجوم على المقرات العسكرية في الخرطوم بحري، بهدف البحث عن نصر جديد، تعوّض به خسارتها مقر الإذاعة والتلفزيون في أم درمان".

وقال الطيب، وهو ضابط سابق بالجيش السوداني، لموقع الحرة، إن "الروح المعنوية لعناصر مليشيا الدعم السريع تدهورت بعد فقدان مقر الإذاعة والتلفزيون، ولذلك سعت إلى تجديد هجومها على المقرات العسكرية في الخرطوم بحري".

وأضاف "هذه محاولات انتحارية، ستجعل المليشيا تفقد مزيدا من المسلحين والعتاد الحربي، لكونها نفذت عشرات المحاولات منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل الماضي، لاستلام تلك المقرات، ولم تتمكن من تحقيق ما تخطط له".

ومع اندلاع الحرب سيطرت قوات الدعم السريع على معظم مناطق وأحياء الخرطوم بحري، وأضحت تنتشر بكثافة في المدينة، وسط غياب الجيش الذي ظل يتمركز داخل مقراته العسكرية.

ووضعت قوات الدعم السريع يدها على مصفاة الجيلي للبترول، الواقعة في الخرطوم بحري، مما مكنها من الحصول على امداد إضافي من الوقود.

وفي يناير الماضي، نفذ الجيش عملية برية في الخرطوم بحري، مكنته من استعادة عدد من المناطق من قبضة الدعم السريع، كما أفلح في انتزاع كوبري (جسر) الجوفة الذي يربط منطقة الكدرو بمصفاة الجيلي.

في المقابل، يرى الأكاديمي والباحث السياسي، عبد الله حمدان، أن "قوات الدعم السريع تسعى للاستيلاء على سلاح الإشارة لأهميه العسكرية والجغرافية، وليس لأنها تبحث عن نصر بعد فقدان مقر الإذاعة والتلفزيون".

وقال حمدان لموقع الحرة، إن "سلاح الإشارة له أهمية عسكرية كبيرة، كونه يعتبر أهم موقع معلوماتي للجيش، ولأنه رأس الرمح في عملية التواصل بين الوحدات العسكرية، ولذلك ظلت قوات الدعم السريع تهاجمه باستمرار".

ولفت إلى أن "استيلاء قوات الدعم السريع على مقر سلاح الإشارة، سيمكنها من السيطرة على كوبري النيل الأزرق، والعبور مباشرة للسيطرة على مقر القيادة العامة للجيش في العاصمة الخرطوم".

شوهدت حشود وهي تغادر المدينة بعد تقارير عن احتداد النزاع في ود مدني
دعوات لحكم ذاتي وتحذير من "انفصال".. الجزيرة تتحرك بمواجهة الدعم السريع
على نحوٍ، عدّه مراقبون أنه "يتقاطع مع النزعة القومية التي عُرفت بها ولاية الجزيرة بوسط السودان"، تصاعدت دعوات بصورة مكثفة إلى "ضرورة تكوين قوة عسكرية شعبية، تعمل على طرد قوات الدعم السريع، ثم تخطط لحكم الولاية ذاتيا".

ويلفت خبراء عسكريون إلى أن "وجود سلاح الإشارة في قبضة الجيش يمثل حائط صد أمام هجمات الدعم السريع التي يمكن أن تنطلق من الخرطوم بحري ناحية القيادة الرئيسية للجيش في الخرطوم".

ويسيطر الجيش على كوبري النيل الأزرق الرابط بين العاصمة الخرطوم ومدينة الخرطوم بحري، ويتقاسم السيطرة مع الدعم السريع على كوبري كوبر الذي يربط المدينتين أيضا. إذ يسيطر الجيش على كوبري كوبر من الناحية الجنوبية، بينما تسيطر قوات الدعم السريع على الناحية الشمالية منه.

ويشير أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، عز الدين المنصور، إلى أن "استيلاء قوات الدعم السريع على مقر سلاح الإشارة سيمكنها من عبور النيل والهجوم على مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم".

ولفت إلى أن "فقدان الجيش لمقر قيادته العامة سيكون أكبر ضربة يتلقاها، بسبب الأهمية والرمزية الكبيرة لذلك المقر، لأنه يضم وزارة الدفاع، وكل إدارات الجيش العليا، وكل وحداته العسكرية المهمة مثل قيادة العمليات البرية والجوية والبحرية".

وأضاف "لذلك عزز الجيش قدراته في سلاح الإشارة بالخرطوم بحري، مما أفشل كل الهجمات التي شنتها قوات الدعم السريع على مدى 11 شهرا للاستيلاء على المقر".

ويتفق المنصور مع الطيب، بخصوص الهدف من الهجوم المتكرر والمكثف لقوات الدعم السريع على المقرات العسكرية في الخرطوم بحري، ويشير إلى أن "الهدف من الهجوم فيه جوانب معنوية، بجانب الأهمية الجغرافية والعسكرية".

ونوّه إلى أن "الهجوم المتكرر على مقر سلاح الإشارة، سيجعل قوات الدعم السريع تفقد كثيرا من مقاتليها وعتادها الحربي، لكن الطرف الآخر "الجيش" يكون في وضع دفاعي، يجعله يقاتل من وراء ستار، مما يقلل خسائره، إلا في حالة فقدانه المقر كليا".

ويشير حمدان إلى أن "قوات الدعم السريع لا تنفذ عمليات انتحارية كما يصورها البعض، "بل تقوم بعمليات هجومية مدروسة ومخطط لها بعناية، يقف وراءها قادة كبار مثل عثمان عمليات".

وأشار إلى أن "قوات الدعم السريع تملك غرفا لإدارة الطائرات المسيرة، ودائما ما تسخدمها كظهير قتالي جوي، في أي هجوم تنفذه على مقرات الجيش، مما ساعدها في الاستيلاء على عدد من المقرات".

وأضاف "استخدام الطائرات المسيرة في مواقع ثابتة مثل مقرات الجيش يكون تأثيره أكبر من استخدمها في الهجوم على مجموعات متحركة وليست مستقرة في مكان واحد، على نحو ما يفعله الجيش مع قوات الدعم السريع التي تميل إلى الانتشار بدلا من الارتكاز في مواقع بعينها".

ويشرف على العمليات في قوات الدعم السريع، اللواء عثمان محمد حامد المعروف باسم "عثمان عمليات"، وهو ضابط بالجيش السوداني تم انتدابه منذ أكثر من 10 أعوام، ضمن عشرات الضباط من الجيش، للعمل على تأهيل قوات الدعم السريع.

وحينما اندلعت الحرب في 15 أبريل وجه القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان ضباط الجيش المنتدبين إلى قوات الدعم السريع، بالعودة إلى صفوف الجيش، فاختار عثمان البقاء في الدعم السريع، رفقة ثلاثة آخرين. بينما استجاب عشرات الضباط للتوجيه.

المسار التفاوضي

اشتعال المعارك في الخرطوم بحري تزامن مع تحركات يقودها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان، رمطان لعمامرة، والمبعوث الأميركي الخاص للسودان، توم بيرييلو، بهدف إنعاش عملية التفاوض بين الجيش وقوات الدعم السريع، وهو ما يثير تساؤلات بشأن التأثيرات المحتملة للتصعيد على المسار السلمي.

يقول الطيب، إن "الجيش حسم أمره، وقرر المضي قدما في إنهاء الحرب عبر الحسم العسكري والقضاء على قوات الدعم السريع، بعد سلسلة الانتهاكات التي تورطت فيها ضد المدنيين".

وأضاف "لم يعد المسار التفاوضي مقبولا لدى قادة الجيش، خاصة بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها في أم درمان، بما في ذلك استعادة مقر الإذاعة والتلفزيون من قبضة الدعم السريع".

ولفت إلى أن "الجيش أعلن أنه ماض في القضاء على قوات الدعم السريع، للوصول إلى فترة انتقالية يرأسها البرهان، وفق ما أعلنه مساعده ياسر العطا، مما يعني أنه لا مجال لأي عملية سياسية على نحو ما تسعى له المبادرات الرامية لإنهاء الحرب في السودان".

كان مساعد القائد العام للجيش السوداني، الفريق ياسر العطا، قال خلال مخاطبته مجموعات سياسية موالية للجيش، إن "البرهان سيرأس حكومة الفترة الانتقالية بعد الحرب، وإن الجيش لن يسلم السلطة للمدنيين إلا عبر الانتخابات".

بدوره، يرى حمدان أن "قرار التفاوض ليس بيد الجيش، وإنما بيد عناصر نظام الرئيس السابق عمر البشير، الذين يديرون العمليات القتالية حاليا، ويرفضون التفاوض".

وأضاف "لا اتوقع أن يسمح قادة النظام السابق لقادة الجيش، بأن يذهبوا إلى التفاوض، لأنهم مدركون أن أي عملية سياسية تنتج عن التفاوض ستنص على إبعادهم من المعادلة السياسية في الفترة الانتقالية، لأن ثورة ديسمبر قضت بإبعادهم من السلطة".

من جانبه، يشير المنصور إلى أن  "فرص التفاوض تراجعت كثيرا بعد التقدم الذي حققه الجيش في أم درمان، مع أن واقع الحال السوداني يحتم ضرورة اللجوء إلى التفاوض لوضع حد لمعاناة السودانيين".

ولفت إلى أن "أوضاع السودانيين المعيشية تدهورت بشكل غير مسبوق، كما أن انتهاكات قوات الدعم السريع تصاعدت بحدة تجاه المدنيين، وكل ذلك ينبغي أن يحفز قادة الجيش للاتجاه إلى إنهاء هذه المعاناة عبر التفاوض، بعد أن فشل خيار الحسم العسكري في القضاء على الدعم السريع".
 
ووفق أرقام الأمم المتحدة، أدى الصراع بين الجيش والدعم السريع إلى مقتل أكثر من 13 ألف شخص، وأجبر أكثر من 7 ملايين على الفرار من منازلهم، بينهم 1.5 مليون لجأوا إلى تشاد ومصر وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا.

وقالت وكالات الأمم المتحدة إن نصف سكان السودان، أي حوالي 25 مليون شخص، يحتاجون إلى الدعم والحماية، من جراء تداعيات الحرب التي تدور بعدد من أنحاء البلاد.

وحذر منسق المساعدات الإنسانية بالأمم المتحدة، مارتن غريفيث، في مذكرة لمجلس الأمن، الجمعة، من أن "ما يقرب من 5 ملايين شخص قد يعانون من جوع كارثي في بعض مناطق السودان خلال الأشهر المقبلة"، بحسب رويترز.

الحرب في السودان

تتفاقم آثار الكارثة الإنسانية في جميع أنحاء السودان، دون أن تظهر أي علامات على إمكانية تراجعها، جراء الحرب المستمرة في البلاد منذ نحو عامين.

لا يزال آلاف السودانيين يُقتلون ويُجوعون ويُغتصبون بوتيرة يومية، ويجبر العنف ملايين الأشخاص على ترك منازلهم والنزوح داخليا أو عبر الحدود إلى الدول المجاورة. 

تسبب  الصراع بـ"أسوأ حالة طوارئ إنسانية في العالم" وفق توصيف الأمم المتحدة، إذ تصدر السودان دول العالم في عدد النازحين داخليا بسبب الاقتتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، شبه الحكومية.

وتجاوز عدد النازحين قسرا داخل البلاد 9 ملايين شخص، بالإضافة إلى أكثر من 3.8 مليون لاجئ إلى الدول المجاورة، ما يعني أن نحو 13 مليون شخص قد فروا من العنف خلال العامين الماضيين، بحسب تقارير الأمم المتحدة.

وتحذر منظمات دولية، بينها اليونيسيف، من أن الموت يشكل "تهديدا مستمرا" لحياة الأطفال في السودان.

وفي محيط مدينة الفاشر، غربي البلاد، وحدها، يحاصر الموت ما يقرب من 825 ألف طفل، يواجهون قصفا مستمرا ونقصا حادا في أبسط مقومات البقاء على قيد الحياة.

وحذرت هيئة تابعة للأمم المتحدة من انتشار حالات الاغتصاب مع استمرار الحرب التي تفجرت بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه الحكومية منذ سنتين في السودان.

وقالت آنا موتافاتي، المديرة الإقليمية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة في شرق وجنوب إفريقيا: "بدأنا نشهد استخداما ممنهجا للاغتصاب والعنف الجنسي كسلاح حرب".

وشددت على أن "ما خفي كان أعظم، فهناك كثيرات لا يبلغن عن هذه الجرائم خوفا من العار وتحميل المسؤولية للضحايا، الذي يُلازم كل امرأة تتعرض للاغتصاب".

وأكد نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، مالك عقار، إن "الحكومة عازمة على تنفيذ كافة الاتفاقيات الخاصة بحماية النساء من العنف الجنسى والقضاء على التمييز، وانفاذ القانون وضمان عدم الإفلات من العقاب لمرتكبي جرائم العنف الجنسي ضد النساء والفتيات والأطفال".

وأشار عقار لدى لقائه، في بورتسودان، مع الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للعنف الجنسي في مناطق النزاعات، براميلا باتن، إلى أن "السودان ومنذ الشرارة الأولى أرسل العديد من التقارير المصورة والموثوقة لعدد من الهيئات والمنظمات الدولية والاقليمية ومنظمات حقوق الإنسان، توضح العنف الذي مارسته قوات الدعم السريع في حق النساء والفتيات والأطفال في السودان إلا أن الاستجابة كانت بطيئة مما فاقم الأوضاع لاسيما في المناطق التي كانت تسيطر عليها".

ونفت الدعم السريع في يوليو الماضي عن الانتهاكات التي تقع أثناء الحرب، إنها ستتخذ تدابير وقائية لمنع انتهاكات حقوق الإنسان.

خطر آخر يهدد المدنيين وعمليات الإغاثة يتمثل في الذخائر غير المنفجرة ومخلفات الحرب. وحذر رئيس برنامج الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في السودان، صديق راشد، من أن المناطق التي كانت آمنة أصبحت الآن ملوثة بشكل عشوائي بهذه الأسلحة القاتلة، بما فيها الخرطوم وولاية الجزيرة.

وقد تجسدت هذه المخاوف في حوادث مأساوية، حيث لقي مدنيون، بينهم أطفال ونساء، مصرعهم وأصيب آخرون بسبب انفجار هذه الذخائر.

وناشد صديق راشد الأطراف المتحاربة تجنب استخدام الأسلحة في المناطق المأهولة، وتسجيل المناطق الملوثة لتسهيل عملية التطهير، ودعا المجتمع الدولي لتقديم الدعم اللازم لجعل المناطق آمنة قبل عودة المدنيين.

وفي خضم هذه الكارثة الإنسانية المتفاقمة، توجه كليمنتاين نكويتا سلامي، منسقة الأمم المتحدة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية في السودان نداء عاجلا إلى المجتمع الدولي: الناس في وضع يائس.

وقالت: "نناشد المجتمع الدولي ألا ينسى السودان وألا ينسى الرجال والنساء والأطفال في السودان الذين وجدوا أنفسهم في هذا الوضع الصعب للغاية في هذه اللحظة الحرجة".

ووجه المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، رسالة إلى العالم حول السودان: "يجب أن يكون مرور عامين على هذا الصراع الوحشي الذي لا معنى له بمثابة جرس إنذار للأطراف لإلقاء أسلحتها وألا يستمر السودان في هذا المسار المدمر".