بعد 16 شهرا من القتال العنيف، تحولت الخرطوم، عاصمة السودان التي كانت يوما مركزا حيويا مهيبا على ضفاف النيل، إلى مدينة أشباح تعصف بها الحرب، وأصبحت شوارع المدينة التي كانت تعج بالحياة ساحات لمعارك ضارية.
ووصف تقرير أعدّه مراسلون لصحيفة "وول ستريت جورنال" زاروا المدينة، رائحة الموت التي تفوح من كل مكان بالعاصمة، وصور الدمار والقبور التي تنتشر في شوارعها، ناقلا أن هذا المشهد المأساوي يتكرر في أنحاء المدينة التي تحولت معظم معالمها ومبانيها الحكومية إلى أنقاض.
ومزّق الصراع الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع ثالث أكبر دولة في أفريقيا، مخلّفا وراءه أزمة إنسانية هائلة، مع نزوح ملايين السودانيين من ديارهم، وتهديد الجوع لنصف السكان، في حين بات النظام الصحي على وشك الانهيار.
مشاهد من العاصمة
ومنذ ما شهدته دمشق، قبل أكثر من عقد، في الحرب الأهلية السورية، لم تكن عاصمة وطنية خط مواجهة مستمرا في حرب كبرى، وفقا للصحيفة الأميركية.
ودمّر القتال أجزاء كبيرة مما كانت يوما واحدة من أكثر مدن أفريقيا اكتظاظا بالسكان، حيث كان يقطنها ما يقدر بتسعة ملايين شخص وتضم الوزارات والبنوك والشركات التي كانت تغذي الحياة السياسية والاقتصاد السوداني.
ويشهد السودان الآن أكبر أزمة إنسانية على وجه الأرض، بما في ذلك في منطقة دارفور الغربية، حيث أثارت الفظائع الجديدة تحذيرات من إبادة جماعية أخرى، وأكد خبراء دوليون، في وقت سابق من هذا الشهر، أول مجاعة في العالم منذ عام 2017.
ويعاني أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم 48 مليون نسمة من الجوع، بينما أُجبر واحد من كل أربعة على ترك منزله.
وحذرت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، الاثنين، من أن السودان وصل إلى "نقطة انهيار كارثية"، مع توقع تسجيل عشرات الآلاف من الوفيات التي يمكن تفاديها جراء الأزمات المتعددة.
وأشارت المنظمة إلى أنّ المجاعة والفيضانات أُضيفت إلى قائمة التحديات التي يواجهها ملايين الأشخاص في البلاد، التي تشهد أكبر أزمة نزوح في العالم.
ويعرف السودان حربا، منذ أبريل عام 2023، بين قوات الدعم السريع بقيادة، محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي" والجيش الذي يقوده، عبد الفتاح البرهان، أوقعت إلى الآن عشرات آلاف القتلى.
وفي منتصف مارس، استولى الجيش السوداني على معظم مدينة أم درمان، مقر البرلمان في البلاد وإحدى البلديات الثلاث التي تشكل منطقة العاصمة السودانية، من قوات الدعم السريع.
وعبر النهر، في الخرطوم التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، جوفت الغارات الجوية والقصف والطائرات بدون طيار ناطحات السحاب الفندقية الفاخرة والمباني المكتبية والقصر الرئاسي، حيث قطع المقاتلون السودانيون، في عام 1885، رأس الحاكم العام البريطاني.
كما لا تزال قوات الدعم السريع تحتل الجزء الثالث من العاصمة، حي بحري الشمالي، حيث تقف المصانع، التي كانت تنتج المشروبات الغازية ومنتجات استهلاكية أخرى، عاطلة أو تحولت إلى أنقاض.
ومثل العاصمة، تنقسم بقية أجزاء البلاد الآن بين الجيش وحليفه السابق، قوات الدعم السريع، اللذين يتقاتل قادتهما للسيطرة على احتياطات السودان الهائلة من الذهب، ومياه النيل الحيوية، وموقع البلاد الاستراتيجي على ممرات الشحن في البحر الأحمر، وفقا للصحيفة.
وتدخلت دول أخرى في الصراع، بما في ذلك إيران، التي باعت طائرات بدون طيار للجيش، والإمارات، التي يقول محققو الأمم المتحدة إنها تزود قوات الدعم السريع بالأسلحة ومواد أخرى، على الرغم من حظر الأسلحة الدولي على دارفور، في حين تنفي أبوظبي تلك الاتهامات.
واتهمت الولايات المتحدة طرفي النزاع بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك إساءة معاملة المعتقلين وقتلهم، وتقول إن قوات الدعم السريع مذنبة بالتطهير العرقي وجرائم ضد الإنسانية. نفى كلا الطرفين استهداف المدنيين.
وفي المناطق التي يسيطر عليها الجيش في أم درمان، لا تزال المدفعية وقذائف الهاون التي تطلقها قوات الدعم السريع تنهمر تقريبا يوميا على المباني السكنية والمساجد ذات الألوان الباستيل والمستشفيات القليلة التي لا تزال تعمل في المدينة.
وانضم الطلاب والمعلمون وغيرهم من المهنيين إلى قوات الدفاع المدنية التي تحظى بتدريب بسيط، ويقومون بحراسة نقاط التفتيش التي أقيمت لصد أي تقدم آخر للمتمردين، بحسب "وول ستريت جورنال".
"كانت الأحلام كبيرة"
"لم أتوقع أبدا أن تكون مدينتنا هكذا،" يقول مجتبى محمد نور، البالغ من العمر 26 عاما، وهو يقف بجانب سرير أخيه مازن، 20 عاما، في جناح الطوارئ المكتظ في مستشفى النو بأم درمان.
وعلى بعد أمتار قليلة، كانت جثة رجل، تظهر ملامح يديه المطويتين تحت قماش مخطط باللونين الوردي والبنفسجي، ملقاة على نقالة. تم إدخال رجل مصاب بسرعة إلى الجناح، وعلى رقبته ضمادة مشبعة بالدماء.
وكان العديد من الأطفال الرضع والصغار، أحدهم بساقين مضمدتين، وآخر بحروق في يده، يبكون أو يرقدون بخمول بجانب أمهاتهم.
ورافق ضباط الجيش السوداني فريقا من مراسلي صحيفة وول ستريت جورنال خلال الزيارة، التي تمت في يونيو الماضي، إلى أم درمان.
وقابل المراسلون المدنيين بعيدا عن مسمع الضباط، وتحققوا من ادعاءات الجيش ضد قوات الدعم السريع بشكل مستقل، من خلال مقاطع الفيديو والصور والمقابلات الإضافية مع الشهود والخبراء.
غير أنه بالمقابل، لم يكن من الممكن الوصول إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، بحسب المصدر ذاته.
"إنه يوم هادئ جدا" قال جمال الطيب محمد، وهو جراح عظام أصبح مدير مستشفى النو العام الماضي، عندما احتلت قوات الدعم السريع مستشفاه السابق في وسط أم درمان في الأيام الأولى من الحرب.
ورغم إشارة المدير إلى كون هذا اليوم أقل عنفا وفوضى من الأيام العادية في المستشفى، كان طاقم مستشفى النو لا يزال يتعامل مع المرضى الذين تم إدخالهم في اليوم السابق، عندما أصابت قذائف هاون تابعة لقوات الدعم السريع شارعا سكنيا مزدحما في شمال أم درمان، مما أسفر عن مقتل حوالي 40 شخصا وإصابة أكثر من 50 آخرين.
واخترقت شظايا إحدى القنابل ساق، مازن محمد نور، اليمنى وحوضه وقتلت على الفور اثنين من أصدقائه.
وصنع الأطباء في مستشفى النو جبيرة من صندوق كرتون لقدم مازن وملؤوا كيسا بلاستيكيا بالرمل لاستخدامه كجهاز شد لعظم الفخذ المكسور. كان الشاب المنهك من الصدمة والألم يفقد وعيه وهو ينتظر إجراء عملية جراحية لإنقاذ قدمه.
وفي اليوم الذي أصيب فيه، كان مازن على وشك التخرج من المدرسة الثانوية عندما اندلعت الحرب، وقد انضم إلى أصدقائه لبناء كشك صغير في الشارع لبيع السجائر وبطاقات "SIM" وقسائم الهاتف. قال شقيقه: "كانت لديهم الكثير من الأحلام لبداية جديدة".
"مساعدة شعبنا"
وتميز تاريخ السودان ما بعد الاستعمار بالصراعات المتتالية والمتوازية، بما في ذلك الحرب التي استمرت عقدين والتي أدت إلى الانفصال عن جنوب السودان، في عام 2011، والحرب في دارفور في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فيما تعتبره الولايات المتحدة أول إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين.
لكن الخرطوم كانت في الغالب بمنأى عن العنف. حتى عندما كان السودان خاضعا للعقوبات الأميركية لرعاية جماعات إرهابية مثل القاعدة وحماس خلال حكم عمر البشير، ازدهرت الخرطوم بفنادق الخمس نجوم والمطاعم الراقية ومشهد فني سري نابض بالحياة.
وكان شباب العاصمة هم الذين استغلوا، في ربيع عام 2019، سلسلة من احتجاجات غلاء المعيشة لبناء حركة ثورية أكبر، مما دفع في النهاية الجيش وقوات الدعم السريع إلى إنهاء حكم البشير الحديدي الذي استمر 30 عاما في انقلاب.
ومن بين المتظاهرين كان مؤمن ود زينب، البالغ من العمر 30 والذي كان يدير شركة صغيرة لإنتاج الحقائب والأحذية الجلدية.
وعاد ود زينب إلى الشوارع بعد عامين، عندما أطلق أقوى جنرالات السودان البرهان، قائد الجيش، ودقلو، قائد قوات الدعم السريع، انقلابا ثانيا ألغى الانتقال الموعود إلى الديمقراطية.
وفي 15 أبريل من العام الماضي، انهار التحالف بين البرهان ودقلو، المعروف بـ"حميدتي"، وتحول إلى حرب مفتوحة.
وفي غضون أيام، استولت قوات الدعم السريع على أجزاء كبيرة من العاصمة، واستخدم الجيش مقاتلاته لضرب أهداف على الأرض، مع اعتبار قليل للمدنيين العالقين في الوسط.
وتحول نشطاء مثل ود زينب من المشاركة بمظاهرات منادية بالديمقراطية إلى جمع الأموال للطعام والدواء للأحياء التي وجدت نفسها، غالبا لأسابيع متتالية، بدون كهرباء أو مياه جارية أو إنترنت.
واليوم، يدير ود زينب ومتطوعون آخرون، بعضهم لا يتجاوز 16 عاما، صيدلية صغيرة داخل مستشفى النو توفر أدوية مجانية، بما في ذلك المضادات الحيوية ومسكنات الألم للمرضى وغيرهم من المحتاجين.
وتستخدم المجموعة أيضا وسائل التواصل الاجتماعي لإطلاق حملات للتبرع بالدم عندما تنخفض احتياطات المستشفى وترسل متطوعين إلى الأجنحة للمساعدة في رعاية المرضى.
وقال ود زينب: "كنا بحاجة إلى مساعدة شعبنا".
وبعد أيام من زيارة مراسلي وول ستريت جورنال للمستشفى، تعرض مستشفى النو للقصف مما أسفر عن مقتل عدة أشخاص، بينهم أحد المتطوعين الشباب، وألحق أضرارا بسقف صيدلية المستشفى.