السودان- مظاهرات- أرشيف
خبراء من الأمم المتحدة دعوا إلى نشر قوة "مستقلة ومحايدة من دون تأخير" في السودان

في فيلمها الوثائقي "السودان تذكرنا" (Sudan, Remember Us)، تواجه المخرجة هند مدب، مهمة صعبة، حيث سعت لسرد قصة أربع سنوات محورية في تاريخ السودان من خلال وجوه وشهادات مجموعة من الشباب.

خلال تلك الفترة، تمت الإطاحة بدكتاتورية استمرت 30 عاما عبر ثورة شعبية، لكن تم اختطاف تلك الثورة من قبل الحكام العسكريين.

من خلال التركيز على الشباب الذين كانوا في قلب الأحداث، وفرت مدب نظرة عميقة حول الطريقة التي انتعش بها الأمل الجماعي لجيل كامل من السودانيين.

يبدأ الفيلم برسائل صوتية لمدب مع الشهود خلال الأيام التي تلت اندلاع الحرب بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) في أبريل عام 2023.

ورغم أن تلك الأصوات لم تكن مألوفة لدى الجمهور، فهي نقلت مشاعر اليأس والأمل بوضوح كما يؤكد موقع "فارييتي".

استمرار الحرب في السودان بعد مرور ما يقرب من 18 شهرا جعل تلك اللحظات أكثر إيلاما، رغم أن الفيلم لا يركز على النزاع الحالي. بل يعود إلى عام 2019، عندما كان التغيير الجوهري يبدو ممكنا.

اختارت مدب ثلاثة خيوط سردية لتقديم القصة. فعوضا عن عرض كل موضوع بشكل منفصل، تقوم بتقديمها جماعيا، حيث يتم تجميع قصصهم حسب الموضوع.

أولاً، تبرز الثورة كحدث ثقافي وفني، حيث كان الشعر والفن جزءا رئيسيا من الاحتجاجات.

ثانيا، تسلط الضوء على البُعد النسوي للثورة، مع كون معظم قادتها من النساء الشابات اللاتي سعين لتحطيم قيود المجتمع الأبوي.

ثالثا، تعرض كيف تحولت المحادثات حول الأحلام الفردية المتواضعة إلى مطالب علنية صاخبة من خلال المشاركة والتضامن.

 وفي تعليقها الصوتي التمهيدي، تلفت مدب إلى أن السودان أرض الأدب، ومن هنا يأتي التقدير العميق للشعر الذي تعكسه عدستها. خلال الفيلم، يتم عرض الثوار الشباب وهم ينشدون الشعر لبعضهم البعض، ويكرمون أسلافهم من المثقفين.

شِعرُهم يعكس واقعهم المعاصر ويستمد إلهامه من قادة الانتفاضات السابقة في الستينيات والثمانينيات

بينما تلتقط الكاميرا الغضب، تسلط الضوء أيضا على عزم هؤلاء الشباب على بناء عالم أفضل لأنفسهم.

تقدم موسيقى ثورتهم، التي تشمل الطبول والصافرات وأصوات الحجارة على الأسفلت، خلفية صوتية لمظاهرتهم.

بعدها تنتقل مدب والقائمة على تركيب الفيلم، غلاديس جو جو، من اللحظات الإيقاعية إلى المحادثات العفوية في المقاهي والمنازل والشوارع، مما يضيف بُعدا آخر للسرد.

يتحول الحوار بعد ذلك إلى خيط موضوعي أكبر يتناول حقوق النساء، وسوء الممارسات الدينية، ورؤيتهم للسودان الذي يأملون في العيش فيه.

تُبرز الكاميرا أيضا خصوصية العاصمة، الخرطوم، كمكان ذو تاريخ غني كان مصدر إلهام لهؤلاء الثوار الشباب.

لكن التوقعات الكبيرة التي رافقت الحراك الشعبي في بداية الثورة السلمية، تعرضت للحصار، بل والقمع عندما قامت القوات العسكرية بتفريق اعتصام المحتجين بعنف في يونيو 2019.

لا تتردد مدب في عرض مشاهد مروعة للتعذيب والترهيب باستخدام لقطات من الهواتف المحمولة، بينما يتناول التعليق الصوتي تفاصيل القتل والاعتقالات.

ومع كل ما حدث، يتضح من خلال رسالة الفيلم، أن الأصوات التي ارتفعت من أجل سودان أفضل، تستمر في حمل حلم الغد الأفضل، مما يعكس القوة الحقيقية للفيلم كقصة عن المثابرة الجماعية التي لا يمكن كسرها، بحسب وصف "فارييتي".

رغم ذلك، وفي وقت يواجه فيه السودان أزمات الحرب والمجاعة ونزوح الملايين، يقدم الفيلم رمزًا للأمل في المستقبل، "ليمسك به الناس حتى تمر هذه الكارثة" وفق تعبير الموقع ذاته.

وأسفرت الحرب في السودان عن عشرات آلاف القتلى. 

وفي حين لم تتّضح الحصيلة الفعلية للنزاع، تفيد تقديرات بأنها تصل إلى "150 ألفا" وفقا لوكالة فرانس برس. 

ونزح أكثر من عشرة ملايين شخص داخل السودان أو لجأوا إلى البلدان المجاورة منذ اندلاع المعارك في 2023، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة. 

والجمعة دعا خبراء من الأمم المتحدة إلى نشر قوة "مستقلة ومحايدة من دون تأخير" في السودان، بهدف حماية المدنيين في مواجهة الفظائع التي يرتكبها الطرفان المتحاربان.

الجيش السوداني سيطر على مدينة ود مدني المحورية - رويترز
الجيش السوداني سيطر على مدينة ود مدني المحورية (رويترز)

في مقطع مصور أثار الكثير من الجدل والغضب، يظهر أشخاص بزي عسكري وهم يقيدون شابا سودانيا بالحبال، قبل أن يلقوه من أعلى جسر "حنتوب" فوق نهر النيل الأزرق، الذي يربط بين شرق مدينة ود مدني وغربها في ولاية الجزيرة.

الفيديو  أشعل موجة غضب لدى العديد من الأوساط السياسية والحقوقية في السودان، حيث توجهت أصابع الاتهام إلى مجموعات مسلحة مرتبطة بالجيش السوداني، بارتكاب عمليات تصفية على أساس عرقي في ود مدني وضواحيها.

وحسب وكالة رويترز فإن أحد الرجال الذين ظهروا في المقطع المصور كان يرتدي سترة عليها شعار كتيبة البراء بن مالك، وهي جماعة مسلحة متحالفة مع الجيش. 

وذكرت الوكالة أنها لم تتمكن من التأكد من تاريخ حدوث تلك الواقعة.

ويثار جدل واسع بشأن كتيبة "البراء بن مالك" التي يقودها المصباح أبو زيد، إذ يربط سياسيون وناشطون بينها وبين الحركة الإسلامية، التي تعد المرجعية الدينية لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير.

مقتل أطفال ونساء

وفي نفس السياق، قال صحفي وإعلامي سوداني لموقع "الحرة"، مفضلا عدم الكشف عن هويته لأسباب تتعلق بسلامته، إن مشاهد الفوضى والقتل سادت ود مدني منذ الساعات الأولى من دخول الجيش والقوات المقاتلة معه، السبت.

وأكد ذلك الإعلامي أنه "وفقا لمقاطع فيديو يتم تداولها بشكل واسع، وبيانات متتالية من عدد من المنظمات الحقوقية والمجموعات السياسية، فإن ود مدني ومناطق الكنابي المحيطة بها، التي يقطنها عمال زراعيون ينتمون لإثنيات دارفورية،  تشهد عمليات قتل واسعة تنفذها مجموعات تابعة للجيش".

وأشار إلى وجود "تقارير أولية" بأن حصيلة العنف بلغت منذ السبت وحتى وقت إعداد هذا التقرير، "نحو 146 مدنيا، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء وكبار السن". 

وقد أججت الأحداث الاخيرة المخاوف المستمرة من عمليات الانتقام الواسعة على أساس الانتماء السياسي والعرقي، التي ظلت تحدث ضد المدنيين العزل في العديد من مناطق السودان، منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023. 

ووفقا للإعلامي ذاته، فإنه يعتقد على نطاق واسع، أن "جزءا كبيرا من المستهدفين بعمليات التصفية الحالية، هم من إثنيات تنتمي لذات المجموعة القبلية التي ينحدر منها قائدا حركتي تحرير السودان، مني اركي مناوي، والعدل المساواة جبريل إبراهيم، المتحالفان مع الجيش". 

ونقل عن مصادر خاصة به، أن "عددا من عناصر الحركتين في الخارج هددوا بالانشقاق في حال عدم اتخاذ موقف قوي"، متهمين قياداتهم بـ"الانحناء للامتيازات الكبيرة التي يحصلون عليها من الحكومة القائمة في بورتسودان". 

وفي الجانب الآخر، أصدرت مجموعات حقوقية، مثل هيئة "محامو الطوارئ"، و"المرصد السوداني لحقوق الإنسان"، إضافة إلى كيانات سياسية، من بينها تنسيقية "تقدم" التي تضم أكثر من 100 حزب وكيان سياسي ومدني، أصدرت بيانات إدانة مطالبة بتحقيق دولي عاجل في عمليات التصفية الجارية. 

واتهمت تلك المجموعات الجيش والميليشات المساندة له، بـ"تنفيذ مجزرة" طالت قطاعا واسعا من المواطنين في ولاية الجزيرة.

وقال المرصد السوداني لحقوق الإنسان، إن "الانتهاكات الجسيمة المرتكبة تعتبر جرائم ضد الإنسانية".

وعزت المجموعات الحقوقية والسياسية سبب تلك الجرائم، إلى "انتشار خطاب الكراهية". 

"حوادث فردية"

وفي معرض تعليقه على تصاعد تلك الانتهاكات في ولاية الجزيرة، أصدر الجيش السوداني بياناً قال فيه إن عمليات القتل التي وقعت كانت تصرفات فردية قام بها أفراد دون توجيهات من القيادة العليا.

وأكد الناطق باسم الجيش، نبيل عبد الله، أن القوات المسلحة ملتزمة بالقانون الدولي في حربها على قوات الدعم السريع.

من جانبها، قالت الخارجية السودانية، الأربعاء، في بيان رسمي، إن حادثة الاعتداء وقتل عدد من المدنيين في منطقة "كمبو طيبة" بولاية الجزيرة عقب استعادة الجيش لمدينة ود مدني "ستخضع للتحقيق الدقيق، وسينال المسؤولون عن ذلك جزاءهم العادل". 

وأعلنت  الخارجية في بيانها، أن هناك "توجيهات عليا صارمة، صدرت لأجهزة حفظ الأمن باتخاذ كل ما يلزم لضمان عدم تكرار مثل هذه الحادثة، والتعامل الحاسم مع أي بوادر من هذا القبيل للقضاء عليها في مهدها".

وكان وزير الإعلام، الناطق باسم الحكومة في بورتسودان، خالد الأعيسر، قد قال في تصريحات إعلامية سابقة، إن الدولة "لا تعاقب المواطنين استناداً إلى الأقاويل والشبهات، أو من دون محاكمات عادلة".

"إعدام أمام الأطفال"

والأسبوع الماضي، أظهر مقطع فيديو تداوله ناشطون على وسائط التواصل، عملية "إعدام رميا بالرصاص" لشخص بملابس مدنية نفذها أفراد قال نشطاء حقوقيون، حسب الإعلامي الذي تحدث إلى موقع "الحرة"، إنهم يتبعون "الجيش السوداني، وذلك بعد الإمساك بالرجل في أحد أحياء مدينة أم درمان"، شمال غرب العاصمة الخرطوم.

وجرت عملية إعدام الرجل، حسب الفيديو المتداول والذي لم يتسن التأكد من صحته من مصادر مستقلة،  أمام اطفاله رغم أنه كان ينفي لجنود كانوا يمسكون به صلته بأي مجموعة مقاتلة.

لكن الجنود لم يستجيبوا لما يقوله وطلب أحدهم من زملائه تصفيته، وأطلقوا عليه بعدها عدة طلقات. 

ورصدت منظمات حقوقية خلال الفترة الأخيرة عددا من الوقائع المشابهة التي راح ضحيتها العشرات من المدنيين.

ووفقا لتقرير نشرته منظمة "أسليد" المتخصصة في رصد مواقع وبيانات الصراعات المسلحة، فقد ارتفعت معدلات العنف ضد المدنيين في السودان بنسبة 89 في المئة خلال الفترة الاخيرة.

وكشف رصد تجريه عضوة مجموعة محامو الطوارئ، رحاب مبارك، عن أكثر من ألف انتهاك ارتكب في حق مدنيين منذ اندلاع الحرب.

وشملت تلك الانتهاكات عمليات اعتقال وقتل خارج إطار القانون، إضافة لعمليات القصف الجوي والمدفعي التي تطال الأحياء المدنية، والتي يعتقد أنها السبب في مقتل أكثر من 80 في المئة من ضحايا الحرب المدنيين المقدر عددهم بعشرات الآلاف. 

المعارك تحتدم في السودان.. ماذا بعد حديث "القتال 21 عاما"؟
"سنقاتلهم 21 عاما".. هكذا توعد قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) الجيش السوداني، بعد اعترافه بخسارة مدينة ود مدني الاستراتيجية في ولاية الجزيرة.

رأي محللون أن هذه الكلمات لا تعبر سوى عن حجم الهزائم التي تتلقاها قوات دقلو خلال الأسابيع الأخيرة أمام الجيش، وخصوصا في ولاية الجزيرة وسط البلاد، وفي الخرطوم أيضًا.

وبرزت خلال الفترة الماضية العديد من الأحداث الخطيرة التي تشير إلى تحول كبير في طبيعة الحرب الحالية.

ففي يونيو الماضي، قامت مجموعة ترتدي زي الجيش بتصفية مجموعة من المدنيين في منطقة القضارف بشرق البلاد بإطلاق وابل من الأعيرة النارية على عشرات الشباب، وهم مُكبلين وملقى بهم على الأرض، وسط تهليل وصياح هستيري للقتلة في مشهد فوضوي.

وفي نوفمبر أعدم مقاتلون نحو 15 شخصا في منطقة الحلفايا بعد ساعات من دخول قوات الجيش لها، وذلك بتهمة انتمائهم لقوات الدعم السريع، لكن مجموعات شبابية في المنطقة قالت إن معظم من أعدموا كانوا مدنيين عالقين في مناطق القتال. 

وجاءت الواقعتان بعد قتل 11 شخصا في دارفور بغرب البلاد، بتهمة اصطفاف قبيلتهم إلى أحد طرفي القتال؛ وسبق تلك الحادثة قطع رؤوس 3 شبان مدنيين في مدينة الأبيض بولاية كردفان، أيضا بتهمة موالاة قوات الدعم السريع. 

كما شهدت العديد من مناطق العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة ونهر النيل والشمالية، عمليات قتل طالت عشرات الأشخاص، والتي يعتقد أنها جرت على أساس الانتماء.

من جانبه، شكك مستشار قائد قوات الدعم السريع، أيوب نهار، في الاتهامات التي تطال قواته بشكل مستمر، بالتورط في عمليات إعدام وقتل للأسرى والمحتجزين وتمثيل بالجثث.

وقال نهار، في حديث سابق لموقع "الحرة"، إن ظهور أشخاص يرتدون ملابس قوات الدعم السريع، في مقاطع فيديو توثق لانتهاكات وإعدامات، "لا يعني بالضرورة أنهم ينتمون فعلا إلى الدعم السريع".