في قلب دارفور، تئن مدينة الفاشر وما حولها تحت وطأة الهجمات العنيفة التي تشنها قوات الدعم السريع، وسط مشهد دموي يعيد للأذهان فصولا مأساوية من تاريخ الصراع السوداني.
فخلال الأيام الأخيرة، شهدت محلية دار السلام التابعة لولاية شمال دارفور اجتياحا واسعا أسفر عن مقتل عشرات المدنيين، بينهم نساء وأطفال، وإجبار الآلاف على النزوح نحو مخيم زمزم للنازحين.
شهود عيان أفادوا لمراسل الحرة بأن قوات الدعم السريع اجتاحت أكثر من 52 قرية، مستخدمة عشرات السيارات المدججة بالسلاح، واستمرت في عمليات النهب والترويع، مما دفع منظمات حقوقية إلى وصف الهجمات بأنها "جرائم حرب مكتملة الأركان".
لماذا الفاشر؟
وفقا للصادق مختار، الناطق باسم تحالف أصحاب المصلحة في دارفور، في حديثه مع موقع "الحرة"، فإن الفاشر ليست مجرد مدينة، بل هي مفتاح السيطرة على إقليم دارفور بالكامل.
ويوضح أن الفاشر هي آخر معقل رئيسي للقوات المسلحة السودانية في دارفور، وسقوطها يعني بسط قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على الإقليم.
يقول مختار "المدينة تقع على مفترق طرق استراتيجي يربط شمال دارفور ببقية الإقليم، السيطرة عليها تعني إحكام القبضة على الإقليم بأكمله، وفتح الطريق نحو وسط السودان وولايات أخرى، بالإضافة إلى منح الدعم السريع أفضلية عسكرية وسياسية في النزاع المستمر".
ويتكون إقليم دارفور من خمس ولايات.. أربع منها سقطت في يد الدعم السريع. أما ولاية شمال دارفور فتسيطر عليها ما عدا عاصمتها مدينة الفاشر.
وبحسب مختار، فإن المدينة تعيش تحت الحصار منذ أشهر، حيث تمنع قوات الدعم السريع دخول الإمدادات الغذائية والطبية، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، وسط تحذيرات منظمات دولية من مجاعة وشيكة.
واندلعت الحرب في أبريل 2023 بسبب خلافات حول الدمج بين الجيش وقوات الدعم السريع، بعد التعاون معا في الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019.
وتسيطر قوات الدعم السريع على معظم غرب السودان، وتقوم بحملة مكثفة لتعزيز سيطرتها على دارفور بالاستيلاء على مدينة الفاشر. واستبعد قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، وقف إطلاق النار في رمضان "ما لم توقف قوات الدعم السريع تلك الحملة".
وأدى الصراع إلى واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم، مع نزوح أكثر من 12 مليون شخص وسقوط نصف السكان في براثن الجوع.
حرب بلا نهاية
المعارك في شمال دارفور تدور منذ أكثر من أربعة أيام بشكل متواصل، حيث تواجه ما تسمى بـ"القوات المشتركة"، وهي مجموعات مسلحة كانت سابقا محايدة أعلنت تأييدها للجيش، هجمات متكررة من الدعم السريع.
هذه المواجهات، كما يوضح مختار، تجعل المدنيين "جزءا من خط النار"، إذ تتساقط القذائف على رؤوسهم من الطرفين.
ويضيف "لك أن تتخيل أنه منذ بداية الحرب في أبريل 2023 وحتى الأسبوع الماضي كان هناك 108 محاولة هجوم من الدعم السريع لإسقاط مدينة الفاشر"، مشيرا إلى أن "النتيجة واحدة: المدنيون هم الضحايا".
يشير الصادق إلى أن سكان مدينة الفاشر كان يبلغ حوالي 3.5 مليون نسمة، إلى جانب نحو 800 ألف نازح يعيشون في المخيمات المحيطة بها.
ومع تصاعد القتال، شهدت المنطقة موجة نزوح جماعي، حيث لجأ البعض إلى المدن القريبة، بينما اتجه آخرون إلى ولاية جنوب دارفور (نيالا) أو إلى شمال الفاشر، في حين فر جزء من السكان إلى تشاد.
أما من تبقى داخل المدينة، وهم أقل من مليون شخص، فهم الآن محاصرون تماما، بلا منافذ للخروج، في ظل حصار تفرضه قوات الدعم السريع من جميع الجهات.
تزداد الأزمة سوءا مع استمرار المعارك التي تدور وسط الأحياء السكنية، مما يجعل المدنيين عرضة للخطر بشكل مباشر.
المأساة في مخيم زمزم
وفي ظل استمرار المعارك، تعرض مخيم زمزم لقصف مدفعي عنيف من قبل قوات الدعم السريع منذ ديسمبر الماضي. منظمة "أطباء بلا حدود" علّقت أنشطتها في المخيم بعد تصاعد الهجمات، مشيرةً إلى أنها عالجت 139 جريحا في الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر فبراير، توفي منهم 11، بينهم خمسة أطفال.
وقال رئيس البعثة، يحيى كليلة، إن فرقهم شاهدت "مستويات غير مسبوقة من العنف"، مما اضطرهم إلى إيقاف عملياتهم مؤقتا.
من جهته، أوقف برنامج الأغذية العالمي توزيع المساعدات الغذائية مؤقتا في المخيم بعد أن أجبر تصاعد العنف العاملين على إخلائه حفاظًا على سلامتهم.
وعلق لوران بوكيرا، المدير الإقليمي لشرق أفريقيا والمدير القطري بالإنابة للسودان، قائلا: "الآلاف من الأسر اليائسة قد تموت جوعا في الأسابيع المقبلة إذا لم تستأنف المساعدات فورا"، مشددا على ضرورة منح المنظمات الإنسانية ضمانات أمنية لاستئناف عملياتها.
منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان، كليمنتين نكويتا سلامي، أعربت عن قلقها إزاء تقارير تحدثت عن منع المدنيين من مغادرة مناطق الصراع، حيث يتم احتجازهم كرهائن في مناطق القتال الساخنة، مشيرة إلى أن سكان مخيم زمزم "يتعرضون لمستويات غير مسبوقة من العنف والمعاناة".
ما يزيد من تعقيد الوضع، بحسب مختار، هو فشل المجتمع الدولي في التدخل بفعالية، في ظل انسحاب العديد من المنظمات الإنسانية بسبب انعدام الأمن، وتراجع التمويل الدولي لمشروعات الإغاثة.

"مئات الآلاف من الناس محاصرين داخل الفاشر، بلا منافذ للخروج، وسط معارك يومية. الأزمة تتفاقم، لكن لا حلول واضحة في الأفق"، يحذر مختار.