تحركات مكثفة للقوات الروسية في شرق سوريا.
تحركات مكثفة للقوات الروسية في شرق سوريا.

على طرفي الطريق الدولي "m4" في شمال شرق سوريا ترسم عجلات العربات الروسية ترتيبات ميدانية جديدة، فمنذ أسبوعين لم تنقطع التعزيزات التي تدفع بها موسكو إلى المنطقة، في مشهدٍ استباقي لما سيكون عليه الحال مع وصول الإدارة الأمريكية الجديدة إلى البيت الأبيض، وما رافقها من تغيير جذري للشخصيات التي من المفترض أن تقود ملفات الشرق الأوسط، من بينها الملف السوري. 

المحطة الأولى للتعزيزات التي يعلن عنها بين اليوم والآخر هي مطار مدينة القامشلي، والذي كانت موسكو قد حولته إلى قاعدة رئيسية لها، في أواخر عام 2019، ومن ثم تتجه هذه التعزيزات إلى مواقع متفرقة، بدءا من بلدة تل تمر بريف الحسكة، ووصولا إلى بلدة عين عيسى في ريف الرقة، والتي كانت قد شهدت تصعيدا تركيا في الأسابيع الماضية، لكنه لم يفض إلى أي تحرك بري. 

وحسب ما قالت مصادر إعلامية من ريف الحسكة في تصريحات لموقع "الحرة"، فإن آخر التعزيزات الروسية إلى المنطقة كانت صباح الجمعة، إذ وصلت طائرة شحن عسكرية إلى قاعدة القامشلي، تحمل عتادا ومعدات لوجستية، بالإضافة إلى أفراد من الشرطة الروسية انتقلوا بعرباتهم فورا إلى قاعدتين، الأولى في تل تمر والثانية عين عيسى.

وتضيف المصادر أن التعزيزات الحالية سبقها 4 حشود متفرقة، حطّت في القامشلي ومحيط الطريق الدولي "m4" في فترات متقاربة، منذ بداية العام الحالي، أكبرها كان الأسبوع الماضي، حيث وصل أكثر من 300 عنصر من "الشرطة الروسية"، وانتشروا فيما بعد في محيط تل تمر وعين عيسى، وهو الأمر الذي ذكرته وكالات روسية، بينها "تاس". 

في الظاهر.. "ضمان الاستقرار"

يقول الروس، في روايتهم الرسمية، إن تعزيزاتهم العسكرية إلى مناطق شمال وشرق سوريا تصب في عمليات "إعادة الاستقرار"، وخاصة بعد التصعيد الأخير بين تركيا والقوات الكردية في محيط عين عيسى، والذي كاد أن يصل إلى حد المواجهة العسكرية. 

ويقول قائد وحدة الشرطة العسكرية، جورجي روداكوف، في تصريحات إعلامية، إن الكتائب التي تصل إلى شرق سوريا ستعزز نقاط المراقبة الروسية في المناطق التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد).

وأضاف روداكوف قائلا، الأسبوع الماضي، إن "القوات تهدف إلى تعزيز نقاط القوة المشتركة ونقاط المراقبة، والمشاركة في دوريات روسية-تركية مشتركة، إلى جانب ضمان مرافقة أرتال السيارات المدنية".

وبعيدا عن الرواية الروسية الرسمية، يبدو أن موسكو تحاول فرض مشهد عسكري وميداني جديد في مناطق الشرق السوري، والتي لطالما حاولت في السنوات الماضية إحداث خرقٍ فيها على حساب القوات الكردية، والتي تتلقى دعما لوجستيا وعسكريا من الولايات المتحدة الأمريكية. 

الباحث في الشأن الكردي، شفان إبراهيم، يرى أن التعزيزات الروسية في المنطقة تأتي "لتعزيز وجودها من جهة، ولمنع أي اشتباك بين قوات الأسد وقسد من جهة أخرى".

ويقول إبراهيم، المقيم في القامشلي في تصريحات لموقع "الحرة"، إن "القوات الروسية حتى الآن تتخلف عن ركب القوات الأمريكية في شرق سوريا بأكثر من محطة، من حيث السيطرة على عين عيسى ومنابع النفط ومعبر سيمالكا، عدا عن المسار السياسي واللجنة الدستورية، لذلك تحاول فرض نفوذها بأي شكل". 

ويضيف الباحث السوري: "روسيا ترغب القول من خلال تعزيزاتها بأن وجودها قائما، وإخراجها لن يكون بالشيء السهل، بل بقرار سياسي شامل". 

ومنذ أول موطئ قدم لها في شرق سوريا، أواخر عام 2019، تسير موسكو في استراتيجية "غير واضحة المعالم" تماما حتى الآن، لكنها تصب في صالح نظام الأسد، وتناور بها ما بين تركيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، بالإضافة إلى الطرف الأبرز على الأرض "قوات سوريا الديمقراطية".

النظام محاصر في الحسكة

في مقابل ما تفرضه روسيا ميدانيا في شرق سوريا، تشهد مدينة الحسكة "مناحرات أمنية" بين نظام الأسد وقوات "أسايش" الذراع الأمنية لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، وبدأت أولى شراراتها منذ قرابة 25 يوما، بتوجه الأخيرة إلى محاصرة المربع الأمني للنظام داخل المدينة. 

ووفق ما قالت مصادر إعلامية مقربة من "قسد" من داخل الحسكة في تصريحات لموقع "الحرة"، فإن الحصار المفروض من قبل "أسايش" على المربع الأمني للنظام في الحسكة، ما يزال مستمرا حتى الآن، مع فشل جميع المفاوضات التي شهدتها الأيام الماضية برعاية روسية لحل هذا التوتر. 

وتضيف المصادر أن قوات "أسايش" تفرض ومنذ 25 يوما حصارا كاملا على مربع النظام الأمني في مركز محافظة الحسكة، من خلال قطع جميع الطرق المؤدية له، ما عدا طريق وحيد أبقت عليه مفتوحا أمام المدنيين لشراء احتياجاتهم.

ورغم السيطرة الخالصة لـ"قسد" على الجزء الشرقي من سوريا منذ سنوات، إلا أن نظام الأسد احتفظ بوجود أمني محدود له، ضمن مربعين أمنيين في القامشلي ومركز الحسكة، كما تتبع له بعض المؤسسات مثل: مثل دائرة السجل المدني والقصر العدلي ومديرية المالية بالقرب من الكراج السياحي، إضافة مطار القامشلي الذي تسيطر عليه موسكو بشكل كامل. 

وردا على الحصار المفروض على مربعه الأمني في الحسكة، كان نظام الأسد قد اتجه في الأيام الماضية للمعاملة بالمثل، في حيي الأشرفية الشيخ مقصود بمدينة حلب، والذي تسيطر عليه قوات تتبع لـ"قسد"، حيث فرض حصارا جزئيا عليهما أيضا، بينما منع السكان الموجودين في "جيب تل رفعت" من الدخول إلى مناطق سيطرته. 

"قسد" تريد الكلمة الأولى

من جهته، فسّر الباحث شفان إبراهيم الحصار المفروض على قوات النظام السوري في الحسكة بالقول: "قسد ترغب بأن تقول إنها صاحبة الكلمة، وهي التي يمكن أن تقرر الوضع الأمني والعسكري في المنطقة والحسكة على وجه الخصوص".

ويقول إبراهيم إن الحصار الحالي كان قد سبقته عدة تحركات للقوات الأمنية التابعة لـ"قسد"، وخاصة قبل يوم واحد من ليلة رأس السنة، إذ عملت على تقطيع أوصال مدينتي الحسكة والقامشلي أمنيا، من بينها مناطق نفوذ النظام السوري، لتكون الرسالة حينها "بأنها تستطيع تقطيع أوصال المدن متى ما أرادت ذلك".

وللحصار المفروض على النظام في الحسكة جوانب أخرى أيضا، وفق الباحث الذي يشير إلى أنه يرتبط بملف بلدة عين عيسى، وعمليات الابتزاز الأخيرة التي اتبعتها قوات الأسد ومعها روسيا، من أجل استعادة البلدة تحت ذرائع مرتبطة بالتهديدات التركية.

وكان نظام الأسد قد اتهم على لسان محافظ مدينة الحسكة، غسان خليل الجمعة "قسد" بحصار أحياء مدنيّة، وذلك لـ"نيل مكاسب في مناطق أخرى".

وقال المحافظ الموجود في الحسكة في تصريحات نقلتها صحيفة "الوطن" شبه الرسمية: "هدف هذا الحصار هو الحصول على مكاسب في مناطق أخرى أو في محافظات أخرى على رأسها حلب"، مضيفا: "هناك مطالب أخرى، لكنها وخصوصا المتعلقة بحلب، هي مطالب خارجة عن القانون".

تحديات أمنية واقتصادية واجتماعية تواجه السوريين العائدين - رويترز
تحديات أمنية واقتصادية واجتماعية تواجه السوريين العائدين - رويترز

منذ سقوط نظام بشار الأسد قبل شهرين، تدفق آلاف اللاجئين السوريين من تركيا إلى سوريا، محملين بآمال العودة إلى وطن أكثر استقرارًا وحياة أكثر كرامة. لكن سرعان ما اصطدم الكثير منهم بواقع أشد قسوة مما توقعوا، فتحول الحلم إلى عبء ثقيل يصعب احتماله.

وكشفت البنية التحتية المدمرة، والأوضاع الاقتصادية الخانقة، وانعدام الأمن عن تحديات هائلة جعلت التأقلم شبه مستحيل بالنسبة إلى قسم كبير من العائدين.

وبينما فقد بعضهم حق العودة إلى تركيا، بدأ آخرون، لا سيما من حاملي الإقامات والجنسية التركية، بإعادة النظر في قرارهم والتفكير جديًا في العودة إلى "وطن اللجوء".

في المقابل، لا تزال عائلات سورية أخرى تقيم في تركيا تترقب المشهد بحذر، مترددة في اتخاذ قرار العودة أو تؤجله مؤقتًا ريثما تتضح الصورة بشكل أكبر.

ندم وتريث

تقول السورية لجين دالاتي، 33 عامًا، المقيمة في مدينة غازي عنتاب، لموقع "الحرة": "الحياة في تركيا صعبة، نعمل لساعات طويلة وبالكاد نؤمن قوتنا ومصاريفنا، لكن فكرة العودة إلى سوريا غير مناسبة إطلاقًا ومؤجلة..".

وتتابع: "أعرف عائلات عادت، والرسائل التي تصلني منهم محبطة، لا ماء، لا كهرباء، لا فرص عمل، والوضع الأمني غير واضح".

بدوره، أعرب محمد عزام عن ندمه على اتخاذه قرار العودة من إسطنبول إلى مدينته حماة دون دراسة الأوضاع جيدًا.

وفي اتصال هاتفي من مدينته حماة، قال عزام لموقع "الحرة": "تملكني الحماس في الأيام الأولى لسقوط النظام فعدت، لكنني أدركت سريعًا فداحة القرار الذي اتخذته في لحظة حماس، وأشعر بالندم، إذ لم أجد عملًا مناسبًا، والإيجارات مرتفعة جدًا، ومقومات الحياة الأساسية مفقودة، والأسوأ أنني لا أستطيع العودة إلى تركيا بعد توقيعي على وثيقة العودة الطوعية".

فرصة التجول والمشاهدة

وشهدت تركيا، التي تستضيف ما يفوق ثلاثة ملايين لاجئ سوري، موجة عودة للاجئين بعد سقوط النظام السوري. ووفقًا لوكالة "رويترز"، فإن أكثر من 80 ألف شخص عادوا إلى سوريا منذ سقوط الأسد.

لكن بعضهم بدأ يشعر بالندم، حيث فقد 35 ألف سوري حق العودة إلى تركيا بعد توقيعهم على وثيقة العودة الطوعية في الأسابيع الثلاثة الأولى بعد الإطاحة بالنظام في الثامن من كانون الأول 2024.

وفي خطة جديدة تهدف إلى مساعدة اللاجئين في التخطيط بشكل أفضل لعودتهم، أعلنت السلطات التركية، على لسان وزير الداخلية علي يرلي كايا، عن برنامج جديد يسمح لأرباب الأسر السورية بزيارة سوريا حتى ثلاث مرات بين يناير ويونيو من هذا العام، بهدف تقييم الظروف قبل اتخاذ قرارهم النهائي بشأن العودة.

ورغم أن هذه المبادرة قد تتيح للسوريين فرصة لتفقد منازلهم ومعالجة القضايا العالقة، فإن قدري جونجورور، مدير الرعاية الاجتماعية في جمعية اللاجئين في تركيا، أشار في حديثه لوكالة "رويترز" إلى أن الحماس الأولي للعودة بدأ يتلاشى مع مرور الوقت.

ويواجه العائدون صعوبات كبرى مثل نقص التعليم والخدمات الصحية، وفقًا لجونجورور، الذي أكد أن بعض العائلات تشعر بالندم وترغب في العودة إلى تركيا بعد مقارنة ظروف المعيشة في البلدين.

وفي السياق ذاته، يقول منير المدلل، الذي يحمل إقامة سياحية في تركيا ويدير ورشة خياطة في إسطنبول، لموقع "الحرة"، إنه عاد إلى حلب بهدف نقل عمله إلى داخل سوريا، إلا أنه اختار العودة إلى تركيا مجددًا، مؤكدًا أن الوضع غير مناسب للعودة الكاملة، وسينتظر عامًا آخر ليرى كيف ستسير الأمور.

وأضاف: "الوضع لا يزال مبكرًا على تأسيس عمل في سوريا، لا أريد المغامرة وخسارة رأس مالي الذي جمعته في تركيا".

وأكّد الخبير الاقتصادي، يونس الكريم، لموقع "الحرة"، أن السوريين العائدين من تركيا إلى بلادهم يواجهون تحديات اقتصادية معقدة تجعل من الاستقرار مسألة صعبة للغاية.

ووفقًا للخبير، فإن أبرز العقبات التي تواجه العائدين تتمثل في غياب المؤسسات الحكومية القادرة على تقديم الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، مما يجعل الحياة اليومية مكلفة وصعبة.

وأوضح أن انعدام الأسواق المنظمة التي توفر السلع الأساسية، إلى جانب غياب الرقابة التموينية، أدّى إلى حالة من الفوضى الاقتصادية، حيث يجد العائدون أنفسهم في بيئة غير مستقرة ماليًا.

وأضاف الكريم أن عدم استقرار العملة السورية يشكل عائقًا كبيرًا، إذ لا توجد آلية واضحة للشراء والتعامل المالي، مما يزيد من الضغوط النفسية على العائدين الذين يواجهون واقعًا اقتصاديًا غامضًا.

وأكّد أن الانفلات الكبير في الأسعار، سواء فيما يتعلق بالإيجارات أو الخدمات الأساسية، يضيف عبئًا إضافيًا على العائدين، حيث يواجهون تكاليف معيشية مرتفعة مقابل مداخيل محدودة.

واعتبر أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا تجعل الوضع أكثر تعقيدًا، حيث يفتقد الاقتصاد السوري لأي بنية مصرفية قادرة على دعم الاستثمار أو تقديم تسهيلات مالية، مما يجعل أي مشروع جديد مرهونًا برأس المال الشخصي فقط، دون دعم مالي يساعده على النمو والاستمرار.

وأكّد أن استقرار الليرة السورية، بغضّ النظر عن قيمتها، هو مفتاح أساسي لاستعادة الثقة في الاقتصاد، “كما أن إعادة تفعيل القروض والائتمانات، حتى لو كانت داخلية، سيساعد في تخفيف الأعباء المالية على المواطنين والمستثمرين، ما يتيح لهم فرصًا حقيقية للنمو الاقتصادي”.

شعور بالندم

إلى جانب التحديات الاقتصادية والأمنية، يعاني العديد من العائدين من أزمات نفسية نتيجة الفجوة الكبيرة بين تطلعاتهم والواقع الذي وجدوه.

ويقول عبد الله الناصر، الذي عاد من مدينة أورفا بداية العام الجاري إلى مدينته حمص: "كنت أظن أن العودة ستمنحني إحساسًا بالأمان الذي افتقدته لسنوات إقامتي في تركيا، لكنني الآن أشعر وكأنني فقدت كل شيء، وأنا نادم على هذه الخطوة، الحياة هنا أصعب مما توقعت، وأفكر جديًا في المغادرة، الاستقرار الذي تمنيته غير موجود، والنزاعات والتحديات الأمنية تتصاعد، والمستقبل غير واضح".

بدورها، تقول المرشدة النفسية الاجتماعية، عائشة عبد المالك، إن مشاعر الندم لدى السوريين العائدين ستكون موجودة حتمًا، وإن هذا شعور طبيعي، خاصة لدى الفئات التي خرجت من سوريا وكان عمرها صغيرًا.

وأضافت أن “الفئات التي كانت صغيرة وكبرت في تركيا، توازن اليوم ما بين الخراب الذي تراه وما كانوا يعيشونه خارج سوريا، خاصة من كانوا أطفالًا وخرجوا مع أهاليهم، الواقع مختلف حتى عما كانوا يتصورونه، فأنا عندما أنقل الحدث يختلف كليًا عمّا أعيشه داخل الحدث”.

وتوضح عائشة أن هناك اصطدامًا بالواقع يحدث اليوم لدى العائدين إلى سوريا، بالإضافة إلى العديد من الآثار النفسية المتمثلة في الإحباط والقلق ومن ثم الندم، مشيرة إلى ضرورة العمل على جلسات توعية يتم من خلالها دراسة الواقع والتحديات داخل سوريا قبل العودة إليها.

وبين الأحلام والواقع، تبدو عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم محفوفة بالمخاطر والتحديات، ويجد العائدون أنفسهم أمام تحديات تفوق قدراتهم، تتمثل في الأوضاع الاقتصادية الخانقة، وانعدام الخدمات، والمخاوف الأمنية.