الليرة السورية تواجه انهيارا غير مسبوق
الليرة السورية تواجه انهيارا غير مسبوق

تنعدم الحلول والخيارات الاقتصادية أمام حكومة نظام الأسد لوقف النزيف المستمر لليرة السورية في سوق العملات الأجنبية، لكن في المقابل هناك "حل سهل التحقيق" وتتخلص تفاصيله بعمليات أمنية للضغط على شركات الحوالات والصرافة التي تتعامل بالسوق السوداء، من خلال إغلاقها تارةً أو الاستحواذ على كميات العملة الأجنبية التي بحوزتها تارةً أخرى. 

ومنذ أسبوع مضا انهارت الليرة السورية إلى مستويات قياسية، لتصل إلى مستوى 4000 ليرة أمام الدولار الأمريكي الواحد في سعر الصرف الموازي.

ومع هذا التدهور لم تصدر مواقف واضحة من جانب "المصرف المركزي السوري"، بينما اتجه مسؤولون اقتصاديون في النظام السوري للحديث عن "عمليات مضاربة" كانت المسبب الرئيسي لما تشهده عملة البلاد في الوقت الحالي، حسب رؤيتهم. 

مصادر محلية من حمص ودمشق وحلب قالت في تصريحات لموقع "الحرة" إن السلطات الأمنية التابعة لنظام الأسد اتجهت، ومنذ خمسة أيام لعمليات أمنية تستهدف شركات الصرافة والحوالة، وفي ذات الوقت أقدمت على اعتقال عدد من مسؤولي هذه الشركات، وصادرت معظم المبالغ المالية الموجودة لديهم.

وقال المصدر المقيم في مدينة حمص: "الحملة الأمنية في المدينة استهدفت مكاتب 6 شركات صرافة وحوالات في الأيام الماضية، بينها شركة فرعون وشامنا والحافظ. تم مصادرة المبالغ المالية الموجودة فيها، لكن لم تغلق بشكل كامل حتى الآن". 

ويشير المصدر إلى "حالة من الخوف" لدى المواطنين في المدينة من التردد لشركات الحوالة في الوقت الحالي، كي لا يكونوا عرضة للاعتقال، موضحا: "هذه الحملة الأمنية رافقها الحديث عن انعدام القطع الأجنبي المتداول، وخاصة الدولار الأمريكي". 

"حصر الحوالات بيده" 
 

ما شهدته مدينة حمص وسط البلاد، انسحب أيضا إلى العاصمة دمشق ومدينة حلب التي كانت توصف بـ"العاصمة الاقتصادية" لسوريا، وبذات السياسة اتجهت السلطات الأمنية لنظام الأسد لعمليات دهم واعتقال استهدفت مكاتب شركات الحوالات أيضا، والمسؤولين عنها. 

ويرى محللون اقتصاديون أن نظام الأسد يحاول من خلال هذه "السياسة الأمنية" حصر الحوالات المالية القادمة من الخارج بيده، ومنع تحويلها عبر "السوق السوداء"، وذلك منعا لخسارته كتلة مادية كبيرة. 

وبينما لا يفصح "المصرف المركزي السوري" رسميا عن قيمة الحوالات المالية، ذكرت صحيفة "الوطن" المقربة من النظام، في مايو 2017، أن قيمة الحوالات من خارج سوريا قد تصل إلى خمسة ملايين دولار يوميا.

ومنذ يونيو الماضي حدد "المصرف المركزي السوري" السعر الرسمي لصرف "دولار الحوالات" بـ1256 ليرة، أي ما يزيد عن 35 بالمئة من قيمة الدولار الحقيقية في السوق، بينما تسلم شركات السوق السوداء "دولار الحوالات" الواحد بأسعار تتراوح ما بين 3250 3500. 

"أتاوات في دمشق"

أحمد عبيد مدير تحرير شبكة "صوت العاصمة" المحلية يقول إن الحملات الأمنية لنظام الأسد بدأت في العاصمة دمشق، منذ مطلع فبراير الماضي، واستهدف بها شركات الصرافة ومحال بيع الذهب، كما اعتقل 10 أشخاص، بتهمة التعامل بالدولار. 

ويضيف عبيد في تصريحات لموقع "الحرة" إن الهدف من هذه الحملات يكمن بالدرجة الأولى في "الحصول على أتاوات" من التجار المتعاملين بالدولار، بينهم أصحاب محال الذهب.

ويوضح الصحفي السوري أن الاعتقالات التي تطال التجار والأشخاص يتبعها دفع مبالغ مالية من قبلهم من أجل إطلاق سراحهم، وهو الأمر الذي تكرر في عدة حوادث، في الأشهر الماضية. دفع المبالغ يكون للأفرع الأمنية المسؤولة عن المنطقة المتواجدين فيها.

وفي العاصمة دمشق ينقسم التعامل بالسوق السوداء على شركات الصرافة الكبرى والصغرى، بينما هناك تداول بهذه السوق، من قبل تجار كبار يعملون في بيع الذهب والمعادن، إلى جانب تجار كبار ينحصر عملهم في بيع المواد الغذائية والألبسة. 

ويؤكد عبيد أن الحملات الأمنية "لا تهدف بشكل مباشر لإغلاق شركات الحوالات، بقدر الحصول على أتاوات مالية"، لافتا إلى أن العديد من التجار في العاصمة دمشق أغلقوا محالهم التجارية، على خلفية الاعتقالات المتكررة، وما يترتب عليها من دفع "مبالغ باهظة" للإفراج عنهم.

"محاولات فاشلة"

في سياق ما سبق أكدت مصادر موالية للنظام السوري الأربعاء الحملات الأمنية التي تشهدها مختلف المحافظات السورية، وقالت: "بدء تنفيذ إغلاق لشركات الحوالات الداخلية المخالفة للأنظمة والقوانين، على أن تشمل هذه الخطوة ما يقارب 15 شركة صرافة وحوالات".

وأضافت المصادر": "في حال إتمام إغلاق معظم شركات الحوالات الداخلية سوف تقوم لجنة مراقبة غسيل الاموال بمراقبة الحوالات في السوق السوداء، وبالتالي سوف يستحوذ مصرف سوريا المركزي على كمية الدولارات المحولة من السوريين في الخارج والتي تقدر بخمسة ملايين دولار يوميا".

محمد السيد تاجر سوري في مدينة إسطنبول التركية وينشط في عملية تحويل الأموال إلى سوريا يرى أن سياسة النظام السوري الأمنية لضبط سعر الليرة السورية تعتبر "محاولة فاشلة".

ويوضح السيد في تصريحات لموقع "الحرة": "التعامل الدولار داخل مناطق النظام وعمليات التحويل التي تتم بشكل يومي لا تنحصر في الشركات المعروفة، بل هناك طرق أخرى تجري فيها التعاملات وتوصف محليا بعملية تسليم اليد باليد". 

ويشير السيد إلى أن الهدف الرئيسي من وراء الحملات الأمنية يكمن في توجه النظام السوري للاستحواذ على كميات من الدولار المفقود لديه، بينما يذهب جزء منها لجيوب "رؤساء الأفرع الأمنية" و"التجار الكبار والمدعومين"، وتوقع أن تصب هذه السياسة في طريق التدهور الأكبر في مستويات العملة السورية. 

أربعة أسباب وراء الانهيار

ووفق برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، ارتفعت أسعار المواد الغذائية في سوريا بنسبة 249 في المئة في وقت يعاني نحو 9.3 ملايين سوري من انعدام الأمن الغذائي.

وشهدت الليرة السورية تراجعا حادا خلال سنوات النزاع، إذ كان الدولار الأميركي يساوي 48 ليرة سورية، فيما بات اليوم يعادل 1256 ليرة وفق السعر الرسمي، ونحو 3950 ليرة وفق سعر السوق الموازي.

وهناك أربعة أسباب تقف وراء الانهيار الحالي الذي يشهده سعر صرف الليرة السورية، حسب دكتور العلاقات الاقتصادية الدولية، عبد المنعم الحلبي. أولها فشل الصادرات السورية في تأمين "موارد دولارية" تكفي لفاتورة المستوردات، وضعف إمكانيات البنك المركزي في تأمين الدولار بسعر جيد للمستوردين، إلى جانب عدم تنفيذ إيران لوعودها باستئناف الخط الائتماني الملياري.

وثمة أسباب أخرى تؤدي لضغوطات إضافية ساهمت في آخر انحدار.

ويضيف الحلبي في تصريحات سابقة لموقع "الحرة": "أولها تصريحات مدير شؤون البدل والإعفاء التابع لتجنيد جيش النظام حول مصادرة أملاك من لم يؤدوا الخدمة العسكرية، وتجاوزوا سن الـ42 وغيرهم، الأمر الذي أدى إلى زيادة الطلب على الدولار لغايات تأدية البدل النقدي".

أما السبب الثاني، فهو "إصرار البنك المركزي على عدم تعديل سعر صرف الحوالات، الأمر الذي يؤدي لزيادة الطلب على الدولار لتنفيذها".

ويوضح الحلبي: "السبب الثالث يرتبط بزيادة أعداد الهاربين من مناطق النظام، وهؤلاء يقومون بدفع تكاليف التهريب الباهظة بالدولار، ويعملون على تأمينه عادة من مناطق سيطرة النظام ودفعه لشبكات تقع خارج هذه المناطق".
 
وكان الدكتور عابد فضيلة رئيس هيئة الأوراق والأسواق المالية السورية، الخاضعة للنظام قد قال في مطلع مارس الحالي إن "المصرف المركزي" يخشى إِذا رفع "دولار الحوالات" أن يرفع تجار السوق السوداء أسعارهم بالمقابل، وأن يضاربوا عليه، للاستحواذ على القطع الأجنبي المتأتي من الحوالات الخارجية.

وأضاف فضيلة في تصريحات لوسائل إعلام النظام السوري: "لذلك نؤكد ونكرر بشدة على ضرورة أن يتخذ المصرف المركزي ما يلزم من إجراءات لجذب هذه الحوالات إلى الأقنية الرسمية".

الشرع والجهاد الإسلامي

بالتزامن مع زيارة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، إلى دمشق ولقائه بالرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، تحدثت تقارير عن اعتقال القوات الأمنية السورية قياديين بارزين من حركة الجهاد الإسلامي، في حدث يبدو شديد الدلالة على التحولات الكبيرة التي تشهدها سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر من العام الماضي.

وقالت "سرايا القدس"، وهي الجناح العسكري للجهاد الإسلامي، في بيان الأربعاء إن خالد خالد مسؤول الحركة في سوريا وياسر الزفري مسؤول لجنتها التنظيمية محتجزان لدى السلطات السورية منذ خمسة أيام.

وأضافت أن السلطات ألقت القبض على الرجلين "دون توضيح أسباب الاعتقال وبطريقة لم نكن نتمنى أن نراها من إخوة". ودعت إلى "الإفراج" عنهما. 

وأكد مسؤول في وزارة الداخلية السورية لوكالة رويترز نبأ إلقاء القبض على القياديين في الحركة، لكنه لم يجب عن أسئلة لاحقة حول سبب اعتقالهما.

حركة "الجهاد الإسلامي" هي إحدى أهم الفصائل الفلسطينية المسلحة، وإن كانت أكثرها غموضاً وتعقيداً، من حيث تاريخها وأيديولوجيتها. صنفتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية، ونمت لتصبح ثاني أكبر حركة مسلحة في قطاع غزة وثالث أكبر حركة في الضفة الغربية.

وعلى الرغم من أنها أصدرت أول بيان علني لها في 11 ديسمبر عام 1987، كان وجودها واحدا من أكثر أسرار المقاومة الفلسطينية كتمانا. تأسست الحركة في قطاع غزة عام 1981 على يد مجموعة من الطلاب الفلسطينيين الذين لم يسبق لأحدهم أن أمسك بسلاح، لكنها سريعاً تحولت إلى استخدام العنف ضد أهداف إسرائيلية في عام 1984، أي قبل خمس سنوات من ظهور حركة حماس.

واكتسبت الحركة سمعة سيئة بسبب طبيعة هجماتها المثيرة للجدل في عنفها، ومواقفها المتصلبة ضد إسرائيل. وكان الشعار الذي طرحته هو: "الإسلام، الجهاد، وفلسطين": الإسلام كنقطة انطلاق، الجهاد كوسيلة، وتحرير فلسطين كهدف.

وكانت الحركة ولا تزال ملتزمة بـ"لاءات ثلاث": لا تفاوض، ولا حل الدولتين، ولا اعتراف بإسرائيل.

في كتابه "تاريخ الجهاد الإسلامي الفلسطيني: الإيمان والوعي والثورة في الشرق الأوسط"، يروي الباحث إيريك سكير حكاية جذور تأسيس حركة الجهاد الإسلامي، التي بدأت من رسم وضعه فتحي الشقاقي (مؤسس الحركة/ اغتيل في العام ١٩٩٥) على ورقة في مارس 1979، يمثل مستطيلًا يتقاطع مع دائرة. 

كان هذا الرسم، بحسب سكير، يمثل مشروعهم السياسي الجديد، ويحتوي على ثلاث مساحات متميزة. تمثل المساحة الأولى "الإخوة الذين كانوا أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين فقط". ثم هناك "الإخوة الذين كانوا أعضاء في كل من جماعة الإخوان والمشروع الجديد الذي يشكل نوعاً ما انشقاقاً عن الإخوان. وأخيراً، هناك أولئك الذين انضموا إلى هذا المشروع دون أن يكونوا من الإخوان المسلمين. كانت هذه المنظمة تُعرف بـ "الطلائع الإسلامية"، وهي نواة حركة الجهاد الإسلامي.

والتعقيد في سيرة الجهاد الإسلامي وتموضعها، مرده إلى عوامل عديدة لعبت دوراً في رسم هوية الحركة وتشكيل أفكارها من روافد متنوعة، وقد تبدو أحياناً متناقضة. فهي كما يرى باحثون، بينهم الباحثة الإسرائيلية مائير هاتينا، نشأت من تأثير حاسم للجماعات المصرية المتطرفة في السبعينيات. 

وفي المقابل، تركز الباحثة، بفيرلي ميلتون إدواردز، على صراع الحركة مع جماعة الإخوان المسلمين في أوائل الثمانينيات، بشأن المقاومة المسلحة. وبينهما رأي، يتوقف عنده إيريك سكير في كتابه، يقول بأن "الجهاد الإسلامي" خرجت تأثراً بالثورة الإيرانية عام ١٩٧٩. 

وفي الحالات كلها، تبدو حركة "الجهاد الإسلامي" اليوم في قلب هذه التناقضات، فهي الفصيل الأقرب فلسطينياً إلى إيران تمويلاً وتسليحاً مع إشارات إلى حالات "تشيّع" داخل الحركة. ومع ذلك فإن تنسيقها مع حماس لم يتوقف، حتى مع التباين بين حماس و"الجهاد" حول قضية الثورة السورية، وبقاء الجهاد الإسلامي في "حضن" النظام السوري مستفيدة من الحماية التي وفرها لها، في وقت كانت حماس تبتعد عن النظام بسبب مزاج الثورة القريب من الإخوان المسلمين.

مع ذلك نسقت حماس مع "الجهاد" هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وتحتفظ بأسرى إسرائيليين.

ومع تولي أحمد الشرع السلطة في سوريا، تزداد الأمور تعقيداً. فالشرع يميل، بحسب معطيات عديدة، إلى الاقتراب أكثر من تسوية مع إسرائيل قد تستكمل باتفاقية سلام، والابتعاد أكثر عن حماس وما تمثله. ولقاؤه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس يصب في هذا السياق.

ولا يحيد اعتقال الأمن السوري القياديين في "الجهاد" عن هذا "النهج"، ويأتي استكمالاً للمزاج السياسي للشرع المبتعد بوضوح، إلى حد القطيعة، عن إيران. إذ قطعت القيادة السورية الجديدة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وتأمل في إعادة بناء الدعم الإقليمي والدولي لسوريا، لا سيما رفع العقوبات وتمويل إعادة الإعمار بعد حرب أهلية مدمرة استمرت 14 عاماً.

لكن قد لا يعني اعتقال القياديين في الجهاد أن الشرع سيفعل الشيء ذاته مع حركة "حماس" في سوريا، على الأقل في الفترة المقبلة، كما يوضح نائب مدير مركز كارنيغي، الباحث مهند الحاج علي، لموقع "الحرة". بل إن الشرع على الغالب سيحافظ على العلاقة التاريخية بحماس لما تمثله من امتداد يرتبط بالإخوان المسلمين. 

وإذا كان الشرع في وارد "بيع" حماس، فإنه بالتأكيد سيطلب ثمناً عالياً لقاء ذلك. ويعتقد الحاج علي أن حماس لن تُحرج الشرع وستلتزم بما يناسبه في سوريا، حتى لو عنى ذلك قطع التواصل مع إيران، وإن كان الباحث في كارنيغي يتوقع أن تلعب حماس أدواراً في المستقبل لتحسين علاقات الشرع بإيران.

وأوردت وكالة رويترز في تقرير الشهر الماضي أن الولايات المتحدة قدمت لسوريا قائمة شروط يتعين الوفاء بها مقابل تخفيف جزئي للعقوبات. وذكرت مصادر لرويترز أن أحد الشروط هو إبعاد الجماعات الفلسطينية المدعومة من إيران.