قبل أيام، وصل وزير الطرق وبناء المدن الإيراني، رستم قاسمي إلى العاصمة السورية دمشق، وخلال زيارته التي استمرت يومين التقى رأس النظام السوري، بشار الأسد، وعددا من المسؤولين الاقتصاديين في حكومته، بينما أعلن في الختام عن سلسلة من الاتفاقيات، أبرزها إنشاء "مصرف مشترك".
وتحدث قاسمي، المدرج على قوائم العقوبات الأميركية، أيضا عن قرب إنشاء "منطقة حرة للتجارة بين البلدين، فيما أشار إلى خطوات يتم العمل عليها لإنجاز مشروع الربط السككي، لنقل الركاب والبضائع بين سوريا وإيران والعراق، وبالعكس.
ورغم أن زيارة قاسمي إلى دمشق ليست الأولى من نوعها، وكذلك الأمر بالنسبة للمسؤولين الاقتصاديين الإيرانيين، إلا أن "الجو" الذي تأتي فيه يطرح تساؤلات بشأن عما تريده طهران اقتصاديا في الوقت الحالي في سوريا، وما الذي ترسم له أيضا.
ويرى محللون وباحثون في الشأن الاقتصادي، في حديثهم لموقع "الحرة" أن طهران باتت "تتوجس من ضعف حصتها من كعكة الاقتصاد السوري"، وبالتالي تدخل الآن في سباق مع الزمن، من أجل توقيع أكبر عدد من الاتفاقيات، في خطوة قد تؤسس من خلالها لـ"مرحلة ما بعد الحرب".
وهذه الحالة من التوجس كان قد أشار إليها قاسمي عبر "تويتر" عقب لقائه مع الأسد، بقوله إن "الاتفاقيات التي تم التوصل إليها مع الأسد يمكن أن توفر فرص عملٍ لشبابنا، والكثير من القيمة المضافة للمستثمرين الإيرانيين"، مختتما التغريدة بعبارة: التأخير لم يعد مسموحا به".
وقبل قاسمي، وفي أغسطس الماضي، قال نائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية- السورية، علي أصغر زبرداست إن العلاقات التجارية بين إيران وسوريا منخفضة، لكن هناك قدرة على زيادة العلاقات.
وأضاف في مقابلة مع وكالة "أنباء إيلنا" أن "الفوائد الاقتصادية لسوريا تذهب لروسيا، وكذلك دول أخرى، بينما علاقاتنا التجارية والاقتصادية مع سوريا بطيئة".
وبعد هذه الكلمات قال محمد أمير زاده، نائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية، إن "حصتنا من التجارة السورية 3 في المئة، بينما تركيا 30 بالمئة".
بينما أكد وزير الصناعة الإيراني، رضا فاطمي أمين، قبل زيارته إلى العاصمة السورية، دمشق، مطلع ديسمبر 2021، أنه "رغم العلاقات الثقافية القوية للغاية، فإن علاقاتنا الاقتصادية مع سوريا ضعيفة للغاية وتحتاج إلى التحسين".
"اتفاقيات على ورق"
وتعتبر طهران من أبرز حلفاء النظام السوري إلى جانب روسيا، وخلال السنوات الماضية قدمت له دعما عسكريا وسياسيا واقتصاديا.
ورغم الكم الكبير من الاتفاقيات التي أبرمتها، "لقاء تدخلها" بحسب محللين وباحثي اقتصاد، إلا أن جزءا كبيرا منها لا يزال حتى الآن "حبرا على ورق"، على عكس تلك الخاصة بموسكو، التي اتخذت مسارات بعيدة كل البعد عن ذلك.
ويقول كرم شعار، الباحث السوري في معهد "الشرق الأوسط" بواشنطن، وحامل درجة الدكتوراه في الاقتصاد: "من الواضح أن طهران في حالة من التسابق حاليا اتجاه توقيع عقود اقتصادية واتفاقيات مع النظام السوري. سبب ذلك هو توجسها من تقارب الأخير مع دول عربية".
ويضيف شعار لموقع "الحرة": "إيران بكل تأكيد متوجسة وهذا واضح، لكن هناك شيء مختلف، وكأن بشار الأسد يلعب لعبته المعتادة وهي المماطلة".
و"مماطلة رئيس النظام السوري" يمكن قراءتها، بحسب الباحث الاقتصادي: "من خلال عقد اجتماعات وإنشاء لجان ومفاوضات، ولكن ضمنيا هو غير مهتم ولا يفضل التدخل الإيراني الاقتصادي بسوريا كثيرا".
واللافت أن فاتورة الحرب في سوريا، وعند الحديث بلغة الأرقام، فإن إيران هي الجهة التي دفعت الجزء الأكبر منها، وليست روسيا.
ويوضح شعار: "لكن في المقابل فإن الاستثمارات السيادية التي ذهبت لموسكو لا تقارن مع طهران. روسيا حصلت على أضعاف مضاعفة، والسبب هو أن الرافعة الروسية بوجه النظام السوري أكبر من تلك الخاصة بإيران، سواء سياسيا أو عسكريا".
وكانت روسيا قد حصلت على استثمارات ضخمة في قطاع الفوسفات والنفط، كما استحوذت على معمل البتروكيماويات في مدينة حمص وسط البلاد.
وكان لها استثمار بارز لمرفأ طرطوس، بشقين مدني وعسكري، فضلا عن الاستثمارات الخاصة بالنفط، وأبرزها في البلوكين البحريين (عقد عمريت، البلوك رقم 1).
أما إيران "فلم تحصل على شيء سوى الكلام والصور والمؤتمرات"، ويشير شعار: "أعلن عن الكثير من الاستثمارات الخاصة بها في السنوات الماضية، لكنها لم تنجز على أرض الواقع. ما حصل هو التقاط الصور بين الطرفين فقط"!
"لا يمكن الاستغناء عنها"
وفي الرابع من ديسمبر الماضي، قال وزير الاقتصاد في حكومة النظام السوري، سامر الخليل، لوكالة "تسنيم" الإيرانية إن "العملية التجارية بين سوريا وإيران ليست بالمستوى الذي تنشده دمشق وطهران"، معتبرا أن ما يتطلع له البلدان "هو مستويات أعلى من التبادل التجاري. هذا الموضوع قيد العمل لتطويره".
وأضاف الخليل أن "قانون الاستثمار السوري الجديد الذي يحمل الرقم 18 يتضمن الكثير من المزايا والتسهيلات الكبيرة في مجال الاستثمار للشركات الإيرانية الراغبة في الاستثمار في في قطاعات واسعة ومتعددة".
وجاء حديثه في الوقت الذي أبدى فيه المسؤولون الإيرانيون امتعاضا من حجم التبادل التجاري مع سوريا من جهة، وحجم الاستثمارات المبرمة من جهة أخرى.
ولا يرى المحلل السياسي المقيم في دمشق، الدكتور علاء الأصفري، أن هناك أي عقبات اقتصادية ما بين سوريا وإيران، لكنه يؤكد "تأخر إنجاز بعض المشاريع المتفق عليها".
ويقول الأصفري لموقع "الحرة": "هناك تقدم واضح بمسار العلاقات الاقتصادية بين إيران وسوريا. دائما نقول إن العلاقة استراتيجية ولا يمكن أن ننظر بقلق في المرحلة المقبلة".
ويضيف المحلل السياسي أن العلاقة بين الجانبين "شفافة أيضا"، معتبرا أن "المصالحات العربية أو الدولية مع الدولة السورية لا يمكن أن تكون على حساب العلاقات مع إيران".
وتحدث الأصفري عن "مشاريع كبيرة تنفذها إيران في سوريا، وجزء منها يتعلق بالطاقة البديلة".
ومع ذلك لم ينف "الصعوبات" في بعض القطاعات، مشيرا بالقول: "اليوم لدينا بعض الصعوبات في التعامل، لكن هناك خطوات ستنفذ بشكل جيد، بينها إنشاء المصرف المشترك والسوق الحرة. هذا سينعكس إيجابا على الاقتصاد السوري".
"انتشار اقتصادي"
ومثّل اندلاع الحرب السورية في 2012، فرصة لإيران لزيادة نفوذها في سوريا، وكان هذا مدفوعا بأهمية سوريا الاستراتيجية، ودورها في ضمان استمرارية الممر البري من طهران إلى بيروت، ووصولها إلى المياه الدافئة لشواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وفي مايو 2020 وفي تصريح هو الأول من نوعه قال النائب حشمت الله فلاحت بيشه، من لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية إن بلاده أنفقت ما بين 20 مليارا و30 مليار دولار في سوريا لدعم بشار الأسد.
وأضاف: "يجب على إيران أن تستعيد هذه الأموال".
ويشير موقع "iranwire" إلى أن أحد أهم نفقات إيران في سوريا هو تسليم النفط والمنتجات النفطية إلى قوات الأسد، ويتم ذلك في إطار "حد ائتماني" فتحته إيران لسوريا.
ويتراوح هذا الحد، بحسب وسائل إعلام إيرانية، بين 2-3 مليار دولار في السنة، مع منح حد ائتماني إجمالي يصل إلى 6 مليارات دولار في السنة، بما في ذلك الإمدادات الغذائية والطبية، التي حددها وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف بنحو 2.5 مليار دولار في السنة.
من جهته يرى الاستشاري الاقتصادي السوري، يونس الكريم أن تسارع التحركات الإيرانية الاقتصادية في سوريا يرتبط بعدة أسباب، منها "محاولة الهروب من سياسة الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية في كل من لبنان والعراق".
وهناك أسباب أخرى كسعي طهران "للتمركز في سوريا كي يكون بيدها أوراق تفاوض كثيرة في المستقبل"، إضافة إلى محاولتها الاستعداد لعملية "إعادة الإعمار" في البلاد.
ويقول الكريم لموقع "الحرة": "هي تحاول الآن تفعيل ملفات الاقتصاد التي تم الاتفاق عليها مع النظام السوري، دون أن تأخذ طريقا نحو التنفيذ".
ويضيف: "تريد التحوّل من الانتشار العسكري إلى الانتشار الاقتصادي".
من جانبه يشير الباحث الاقتصادي، كرم شعار إلى أن الإيرانيين "يتمنون أن تكون استثماراتهم في سوريا حقيقة، لكن في حال عدم حدوث ذلك ستكون هناك استفادة أيضا".
ويوضح ذلك بالقول: "الاستثمارات عندما تكون غير حقيقة فهذا الأمر يرتبط بعامل التسويق داخليا بأننا تدخلنا في سوريا، ولم ندفع المصاريف فقط، بل نسترد التكاليف أيضا".
ويرى شعار أن عوائد الاستثمارات الاقتصادية الإيرانية في سوريا "تكاد تكون شبه معدومة"، على خلاف الروس، بينما هناك أخرى لم تر النور حتى الآن، مثل "المشغل الثالث للاتصالات"، "الاستثمار في الفوسفات"، "استثمار ميناء اللاذقية".
ويتابع الباحث: "بشار الأسد يغرق الإيرانيين بالتفاصيل، بينما روسيا تتعامل معه بشكل مباشر".
"سياق مختلف"
وفي غضون ذلك وعلى الرغم من تأكيد المحللين أن استثمارات إيران في سوريا "غير مرضية لها" حتى الآن"، إلا أنهم أشاروا بجزء من حديثهم إلى "سياق مختلف" قد تتضح معالمه مستقبلا.
الاستشاري الاقتصادي، يونس الكريم يقول إن "طهران تحاول بشكل خفي خلق طبقة اقتصادية تكون موالية لها في سوريا، بمعنى دولة داخل دولة كما يحدث في لبنان".
ويضيف الكريم: "التدخل الاقتصادي الروسي يستند على أخذ المؤسسات المنتجة التي لا تحتاج لكلفة تشغيلية، ومن ثم إعادة البيع لمستثمرين عرب وأجانب. الاستفادة المادية هنا كبيرة ومباشرة".
أما إيران، ووفق الاستشاري الاقتصادي السوري: "تحاول الاعتماد على الاستثمارات التي لها علاقة مع الفقراء. هذه طويلة الأجل وتشغّل يد عاملة كثيرة، لكنها تحتاج لأموال ضخمة".
وهذه السياسة تضمن لطهران "كسب طبقة الفقراء، وبالتالي سيكون لها حاضنة اجتماعية أكبر من تلك الموالية لروسيا صاحبة الاستثمارات الكبرى".
وذلك يؤكده الباحث الاقتصادي، كرم شعار بقوله: "إيران تحاول العمل على المستوى الشعبي، وعلى مستوى رؤساء مؤسسات، على عكس الروس الذين يتحدثون ويبرمون الاتفاقيات مباشرة مع الرأس بشار الأسد".