11 عاما مر على أولى شرارات الثورة السورية في محافظة درعا، ومنذ ذلك التوقيت في الثامن عشر من مارس 2011 وحتى الآن تغيّر كل شيء في تلك البقعة الجغرافية الواقعة في أقصى الجنوب السوري.
قتل وتهجر الآلاف. اختفى المئات. بينما تجددت السيطرة الخاصة بقوات النظام السوري وحلفائه بالصورة العامة.
لكن وعلى الرغم من هذا التغيّر الكبير الذي حل بدرعا التي تحظى برمزية كبيرة لدى ملايين السوريين، إلا أن هناك شيء وحيد بقي على حالة ولم يتبدل، وهو "حاجز الخوف الذي ذهب ولم يعد"، بحسب ما يقول نشطاء وصحفيون من المحافظة في حديث لهم لموقع "الحرة".
في مثل هذا اليوم قبل 11 عاما خرج محتجون بالمئات على الطريق الواصل بين "درعا البلد" و"درعا المحطة"، وفي مقابلهم جنود مدججون بالسلاح والقنابل المسيلة للدموع، وبرفقتهم سيارات إطفاء خرجت لإخماد شرارة كتبت بلهيبها تاريخا جديدا للبلاد، وشكلت محطة، ما قبلها ليس كما بعدها.
ويستذكر السوريون هذا المشهد "السريالي" ويحييونه في 18 من شهر مارس من كل عام، وفي الوقت الذي ينشرون فيه التسجيلات المصورة للهتافات الأولى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يخرج قسم منهم بمظاهرات شعبية في درعا ذاتها، في خطوة ينظر إليها كـ"مفارقة" في المناطق الخاصة لسيطرة النظام السوري بالأصل.
"مظاهرات لإحياء الذكرى"
وبعد صلاة يوم الجمعة شهدت درعا وفي الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية خروج مظاهرات شعبية، ووثقت شبكات محلية من بينها "تجمع أحرار حوران" صورا وفيديوهات لها، وقالت إنها تركزّت في "أحياء البلد" ومناطق ريفية كبلدة طفس غربا.
ولا يعلّق النظام السوري ووسائل إعلامه على مثل هذه المظاهرات، والتي باتت تعتبر عرفا سائدا في المحافظة، منذ بدايات الثورة، وحتى مع سيطرة النظام السوري عليها بشكل كلّي، بموجب اتفاقيات "التسوية" الأخيرة، التي تجاوز عددها 6 اتفاقيات.
ويرى الناشط الحقوقي، عمر الحريري أن خروج أهالي درعا بالمظاهرات في الوقت الحالي، وقبل ذلك أيضا يؤكد على فكرة أن "حاجز الخوف انكسر ولم يعد في درعا"، وهي النقطة التي قد تبدو لافتة بالنظر إلى طبيعة السيطرة المعروفة بها حاليا.
ويقول الحريري وهو عضو في "مكتب توثيق الشهداء في درعا": "حاجز الخوف انكسر بشكل نهائي. الناس لم تعد تخاف النظام السوري، ولن يرجعوا أيضا إلى الحالة السائدة التي كانت قبل 11 عاما".
ويضيف الناشط في حديث لموقع "الحرة": "الخوف انخلق لدى النظام قبل 11 عاما من درعا. لا يزال حتى الآن يعيشه".
ويؤكد الكاتب والصحفي السوري، محمد العويد على هذه الفكرة، بقوله: "أعتقد أن حاجز الخوف وانكساره في عموم حوران بدأ ولن يتوقف".
ويضيف لموقع "الحرة": "ليست وقفات التظاهر اليوم في طفس غربا ودرعا البلد جنوبا بعد أحد عشر عاما سوى تطبيق فعلي. لن يتغير مستقبلا إلا بفعل تغيير حقيقي وجذري وتلبية مطالب الحرية".
"منطقة ساخنة"
بعد تحوّل الحراك السلمي إلى مسلح في درعا السورية تبدل مشهدها العسكري على الأرض، وفي الوقت الذي أحكمت فصائل "الجيش السوري الحر" سيطرتها عليها لسنوات، تحوّل المشهد بعد عام 2018 بشكل جذري.
وفي أواخر عام 2018 اتخذ قرار روسي للسيطرة على محافظة درعا وطرد فصائل "الجيش الحر" المحسوبة على المعارضة السورية المسلحة. جاء ذلك في الوقت الذي رفعت فيه بعض الدول في غرفة "الموك" يدها عن دعم فصائل "الجبهة الجنوبية"، لأسباب لم تعرف تفاصيلها.
وعلى خلاف المعتاد للعمليات العسكرية لم تصمد فصائل المعارضة لفترة طويلة أمام قوات الأسد والقوات الروسية (شهرين تقريبا)، لتسيطر الأخيرة على القرى والبلدات في درعا بشكل تدريجي، وصولا إلى فرضها اتفاق سمي بـ"اتفاق التسوية".
وقضى الاتفاق بخروج "من يرغب" من مقاتلي المعارضة السورية إلى الشمال السوري، أما من يتخذ قرار البقاء فعليه القبول ببنود اتفاق "التسوية" وتنفيذها كاملة، وفي المقابل وعدت موسكو بالإفراج عن المعتقلين وتسوية أوضاع المطلوبين أمنيا، وهو الأمر الذي لم تف به، حتى الآن.
ومنذ توقيع اتفاق "التسوية" عام 2018 وحتى الآن، لم تهدأ محافظة درعا، ولم تشهد أي استقرار، بل على العكس، لم يخل مشهدها من عمليات اقتحام ومداهمات واشتباكات من قوات الأسد بين الفترة والأخرى، وكان آخرها قبل أيام في مدينة جاسم.
وإلى جانب ذلك عكر جو المحافظة قاتل "خفي" ما تزال هويته مجهولة، وأقدم على سلسلة من حوادث الاغتيال، طالت عسكريين من الطرفين (النظام والمعارضة) ومدنيين ونشطاء وإعلاميين، بينما سادت حالة من عمليات الخطف، واستهدفت مؤخرا الطفل فواز قطيفان.
في المقابل لم ينقطع الحراك السلمي من قبل ناشطي المحافظة، وتجلى في الأعوام الثلاثة الماضية بخروج مظاهرات متفرقة مناهضة لنظام الأسد، طالب فيها المتظاهرون بالإفراج عن المعتقلين وإيقاف الحملات الأمنية التي تنفذها أفرع النظام الأمنية وأخرى تتبع للميليشيات الإيرانية والروسية التي تدعمه.
وبموازاة الحراك السلمي شهدت المحافظة حراكا مسلحا أيضا، لكنه بصورة فردية أكثر من جماعية.
ويقول الناشط عمر الحريري: "في الأيام الأولى للثورة كان العسكري في قوات الأسد في سوريا يطلق الرصاص على قدميه، كي يبعد عملية فرزه للقتال في درعا".
وفي الوقت الحالي، يوضح الحريري: "هذا الشيء مستمر لغاية اليوم، رغم فرض النظام السوري لسيطرته الأمنية والعسكرية".
ويتابع الناشط الحقوقي: "في المقابل. هناك شعارات تكتب ومظاهرات مناهضة للنظام السوري، بينما قوات الأخير تتعرض لعملية اغتيال هنا وتفجير هناك".
وكان مجهولون قد أقدموا الخميس على اغتيال رئيس المجلس المحلي لمدينة جاسم، ويشير الحريري: "أي منصب مقرب من النظام بات صاحبه معرضا للخطر والخوف بشكل دائم".
من جهته تحدث الصحفي السوري، محمد العويد عن ما وصفها بـ"خصوصية درعا".
وقال: "أعتقد ثمة خصوصية حكمتها عوامل متداخلة، فالتهجير بالمعنى الكلي للثائرين لم يحدث بدرعا كغيرها في الجغرافيا السياسية السورية، بفعل اختلاف تطبيق التسويات التي أمسك بها الروسي وطبقها بمعايير مختلفة نسبيا".
"اغتيالات بالجملة"
تتميز محافظة درعا بوضع خاص يميزها عن باقي المناطق السورية التي دخلت في "اتفاقيات التسوية"، من حيث طبيعة القوى العسكرية المسيطرة على قراها وبلداتها، وأيضا طبيعة المقاتلين، والذين ينقسمون ما بين تشكيلات أنشأت حديثا كـ"اللواء الثامن" التابع لـ"الفيلق الخامس"، وأخرى "أصيلة" في المنظومة العسكرية لنظام الأسد كـ"الفرقة الرابعة" و"الأمن العسكري" و"المخابرات الجوية".
هذا التنوع في القوى المسيطرة ألقى بظلاله على الأرض، لتتشكل مناطق نفوذ مقسّمة داخل منطقة النفوذ المعروفة إعلاميا على أنها تخضع بكاملها لسيطرة نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين.
وبحسب "مكتب توثيق الشهداء" في المحافظة فإن درعا تشهد بشكل وسطي وفي كل شهر من 30 إلى 60 عملية اغتيال. وإذا ما تم أخذ المتوسط الحسابي لها وقورنت بالأشهر السابقة من اتفاق "التسوية" فقد يزيد عدد القتلى من جميع الفئات عن ألف شخص.
وتتنوع الاغتيالات ما بين إطلاق الرصاص المباشر والاستهدافات بالعبوات الناسفة والألغام، بالإضافة إلى اغتيالات تأتي بعد عمليات خطف لعدة أيام.
لماذا حالة الفوضى؟
ويرى الصحفي محمد العويد أن "استمرار رقعة الاغتيالات أفقيا في عموم جغرافيا المحافظة وقدرتها على الوصول المتتالي يطرح سؤال المستفيد والقادر".
ويوضح أن "مدن درعا وقراها ما زالت محاصرة بالحواجز، وبالتالي فإن دخول الغربب لأي بلدة يستوجب حضانة غير متوفرة، وهذا ينفي احتمالية أن تكون في سياق الثأر وتصفية الحسابات السياسية والتي يمكن قراءتها عقب أي عملية".
ويضيف العويد: "الروس ليسوا بوارد هذا النوع من اللعب المنلفت الغير معبر عن حضورهم السياسي، أما أبناء المحافظة فليس في حساباتهم مرحليا هذه الأجواء من التصفيات، والتي يدركوا قبل غيرهم أنها ككرة الثلج إن تدرحرجت لن تبقي ولن تذر".
وتبقى أصابع الاتعام مبررة وحاضرة "باتجاه الميليشيات الإيرانية، وبعض العناصر والقوى العسكرية التي تلعب في محيطها"، بحسب الصحفي السوري.
ويتابع العويد: "لماذا الإيراني أولا؟ لأن هذا ملعبه وأدواته ثم قدرته على إحداث الاختراقات وتجنيد العملاء لصالحه"، مشيرا: "بهذه الأجواء المنلفتة يؤكد ما يريده بضرورة تعزيز القبضة الأمنية واتساع سيطرة الأجهزة الامنية المخترقة منه".
وغالبا تُنسب العمليات إلى "مجهولين"، في حين تتعدد القوى المسيطرة والتي تتصارع مصالحها على الأرض، ما بين إيران وروسيا والنظام وخلايا تنظيم تنظيم "داعش".
في المقابل تحدث الناشط الحقوقي، عمر الحريري عن سببين يقفان وراء بقاء درعا كمنطقة "ساخنة"، موضحا: "هي ساخنة ضد النظام، بسبب وجود مقاومة مستمرة لشبان، من أجل إسقاط كسر سلطته الأمنية والعسكرية".
أما السبب الآخر، يضيف الحريري أن ما سبق "يدفع النظام السوري للانسحاب من أماكن، فيما يتعمد عدم القيام بواجباته بأماكن ثانية، من أجل فتح المجال للفوضى والأعمال الإجرامية".