أربعة أطفال "بعمر الورد" قضوا صباح يوم الجمعة وهم نيام، بعدما اخترقت صواريخ أطلقتها طائرات حربية روسية الغرفة الصغيرة التي يقيمون فيها "داخل مدجنة للطيور" في منطقة جسر الشغور بريف محافظة إدلب.
هؤلاء الضحايا الصغار هم أربعة أرقام من بين حصيلة وثقتها "الدفاع المدني السوري" للقصف الذي تم تنفيذه بصورة مفاجئة، وأسفر عن مقتل 7 مدنيين، وإصابة 12 آخرين، في حادثة مفجعة حوّلت صباح إدلب السورية إلى "لحظات دامية".
ونشر ناشطون وعمال إنسانيون صورا وتسجيلات مصورة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي أظهر البعض منها لحظة "الوداع الأخير" بين أم الأطفال و"فلذات أكبادها"، بينما وثقت أخرى مشهد الجد الذي يودع أبناء ابنه، ويدعو الله بأن "يحرم من قتلهم فلذات كبده دون أي انتظار".
ونفذ هذا القصف طائرتان حربيتان أقلعتا من مطار "حميميم" بريف اللاذقية، في الساعة الخامسة والنصف من فجر الجمعة، حسب ما قال "مرصد أبو أمين" لموقع "الحرة"، وهو مرصد عسكري ينشط في رصد تحركات الطائرات الحربية في شمال سوريا.
وأضاف المرصد: "في تمام الساعة 5:35 أقلعت طائرتان روسيتان من حميميم. حلقتا في أجواء المحافظة لأكثر من مرّة، ومن ثم نفذتا أربع ضربات على محيط منطقة جديدة بريف جسر الشغور".
وحسب المرصد العسكري: "القصف استهدف مواقع مدنية. بغارة مزدوجة تضمنت صاروخين لك هدف على حدة".
وذلك ما أكده أيضا قائد قطاع جسر الشغور في "الدفاع المدني السوري"، بناء بحري، موضحا لموقع "الحرة" أن الطائرات الروسية استهدفت مكانين في ريف جسر الشغور، وقال: "كل مكان تعرض لغارة مزدوجة".
"هناك الكثير من الغارات المزدوجة التي تنفذها روسيا. الغرض من ذلك استهداف طاقم المسعفين، الذين يهرعون إلى المكان المستهدف لانتشال الضحايا وإسعاف المصابين".
ويضيف بحري: "أغلب الضربات التي تنفذها روسيا تكون ضمن هذا السياق. الضربة الأولى تكون لاستهداف المكان وتدميره، وتأتي الثانية من أجل استهداف طاقم المسعفين".
"تكتيك القتل العمد"
وطوال سنوات الحرب الماضية في سوريا أصبحت محافظة إدلب في الشمال الغربي للبلاد وجهة الملاذ الأخير للسوريين الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه. وبحسب إحصائيات لمنظمات إنسانية يقيم فيها أكثر من 4 ملايين مدني.
وتخضع مناطق الشمال السوري لاتفاقيات تركية- روسية، وتدخل إيران بجزء منها أيضا ضمن تفاهمات "أستانة" الخاصة بمحافظة إدلب في شمال غرب البلاد.
ويأتي القصف الروسي على جسر الشغور في ريف إدلب بعد يومين فقط من القمة الثلاثية التي انعقدت في العاصمة الإيرانية طهران، وجمعت رؤساء تركيا وإيران وروسيا رجب طيب إردوغان وإبراهيم رئيسي وفلاديمير بوتين.
ويندرج ضمن سلسلة ضربات تنفذها الطائرات الروسية باستمرار على مناطق الشمال السوري، في سياسة كانت قد بدأتها منذ تدخلها العسكري لدعم رأس النظام السوري، بشار الأسد، في عام 2015.
كلما قلنا بأننا اعتدنا على الموت نُفجع من جديد بمشاهد تخلع القلب من جذوره وتأبى الإدمان، متى ينتهي هذا القهر يا الله pic.twitter.com/6lrk6G5Vpa
— ماجد عبد النور (@Magedabdelnour1) July 22, 2022
ولهذه السياسة التي ماتزال قائمة حتى الآن جزء يتعلق بما وثقته منظمات حقوق إنسان سورية وعمال إنسانيون، ضمن سياسية "الضربة المزدوجة" أو "المرادفة"، التي انتهجتها موسكو في الكثير من الغارات، وأسفرت من خلالها إلى مقتل المئات من المدنيين، بالتحديد، بعيدا عن الذرائع التي تضعها بـ"استهداف المناطق العسكرية".
وتقوم العملية على مبدأ توجيه ضربة جوية على موقع ما، ثم إعادة قصف الموقع المستهدف ذاته بعد مضي عدة دقائق، بهدف إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية، إذ يكون موقع الضربة عادة مكانا لتجمع المدنيين وفرق الإنقاذ، لانتشال الجرحى والمصابين.
وانتهجت روسيا هذه السياسة في مناطق سيطرة المعارضة سابقا، سواء في الأحياء الشرقية في حلب أو في أثناء الهجوم على الغوطة الشرقية، في حين تطبقها الآن في مناطق الشمال السوري.
وحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" فإن سياسية الضربة المزدوجة التي تتبعها روسيا تهدف إلى قتل المسعفين وعناصر الدفاع المدني، وإيقاع أكبر قدر ممكن من الضحايا المدنيين.
وهذا التكتيك "يُشير إلى تفكير متوحش وغاية في الإجرام والمافيوية"، وفق الشبكة الحقوقية.
"عندما تعود الطائرات مجددا"
في غضون ذلك نشر "المركز السوري للعدالة والمساءلة" تحقيقا، الخميس حمل اسم "عندما تعود الطائرات مجددا. غارات مترادفة على المدنيين في سوريا".
وأظهر التحقيق أن النظام السوري وروسيا مسؤولان عن 58 ضربة مترادفة على أهداف مدنية وإنسانية في سوريا، منذ بداية العمليات العسكرية التي أطلقها النظام السوري، ومن ثم في أثناء التدخل العسكري الروسي الرسمي في 2015.
ويفصّل التحقيق أن الضربات المترادفة تستخدم لإلحاق أذى متعمد بالأشخاص والأعيان التي يحميها القانون الدولي الإنساني، وليس لضرب عدو محدد.
وتبين طبيعة تنفيذها أن الضربات المترادفة تشكّل "انتهاكا خطيرا للقانون الإنساني الدولي، يرقى لمستوى جرائم حرب".
وقيّم محققو المركز الحقوقي السوري التوثيقات بالتحقق من ثلاثة عناصر: موقع الضربة الأولي، وصول فرق الاستجابة أو المدنيين إلى الموقع إثر الضربة، وقوع ضربة ثانية على الأقل في نفس الموقع خلال ساعة من وصول المستجيبين الأوائل أو المدنيين إلى الموقع بعد الضربة الأولية.
ويوضح مدير المركز الحقوقي، محمد العبد الله أنه وبالاستناد إلى حجم التوثيق والمواد البصرية التي تم الاعتماد عليها فإن "تكتيك الضربة المترادفة استخدم قبل دخول القوات الروسية إلى سوريا. لكن نطاقه كان ضيقا".
وبعد الدخل العسكري لموسكو، قبل سبع سنوات، تطور التكتيك ليتم تنفيذه عبر أسلحة أكثر فعالية ودقة، مثل الطائرات الحربية الروسية.
ويقول العبد الله لموقع "الحرة": "منذ ذلك الوقت صعّدت روسيا من هذا التكتيك، وأصبح جزء من استراتيجيتها العسكرية في سوريا".
وسبق وأن تطرقت وسائل إعلام غربية إلى هذه السياسة التي تتبعها روسيا في قتل المدنيين بسوريا، واستنسختها أيضا في إطار حربها ضد أوكرانيا، والتي بدأت في الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي.
لكن الحقوقي السوري يشير إلى أن التوثيقات السابقة "لم يتم التعامل مع مضمونها كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ما دفعنا لتوثيق وتحليل 58 حالة".
"وثقنا الحالات واستخرجنا الفيديوهات من يوتيوب وحفظناها، فيما أخذنا شهادات من ضحايا وناجين وأهالي ضحايا، ومن ثم قمنا بتجميع الملفات، وبناء ملف لكل ضربة على حدة. ذلك ما عزز وأكد أن ما حصل هو استراتيجية وأمر ممنهج ومدروس من روسيا، وفيه تعمد لقتل المدنيين، وليس خطأ عسكري".
ويركّز تحقيق مركز "العدالة والمساءلة" على نقطة قانونية وتقنية، وهي عدم وجود أي هدف عسكري مشروع أو قريب من الأهداف، التي طالها القصف الروسي المزدوج.
ويتابع العبد الله: "كل الحالات وبشكل قاطع بعيدة عن أي هدف عسكري. نحن نتحدث عن جرائم حرب واضحة وجرائم ضد الإنسانية، دون أي لبس".