صورة جوية لسجن صيدنايا العسكري عام 2017. أرشيف
صورة جوية لسجن صيدنايا العسكري عام 2017. أرشيف

لم يعد سجن صيدنايا العسكري في سوريا "ثقبا أسود" كما كان لسنوات طويلة منذ تأسيسه في ثمانينيات القرن الماضي، إذ كشف تحقيق مطول بالتفاصيل الدقيقة ما يجري خارج أسواره وداخلها، وهيكليته وعلاقاته التنظيمية مع بقية المؤسسات الأمنية التابعة للنظام السوري.

والتحقيق الذي عملت عليه "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" لعام كامل ونشرته، الاثنين، خطوة هي الأولى من نوعها بشأن هذا المعسكر الأمني، والذي أطلقت عليه "منظمة العفو الدولية" قبل سنوات وصف "المسلخ البشري"، والسجن الذي "تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء".

ويعتبر "صيدنايا" واحدا من "أكثر الأماكن سرية في العالم"، ولطالما بث اسمه "الرعب في قلوب السوريين". وهؤلاء ارتبط ذكر هذا المكان عندهم بفقدان الأحبة وغيابهم، بينما حفر في ذاكرة المجتمع الكثير من الأسى، وفق الرابطة الحقوقية.

"ترسانة رعب"

ويتألف التحقيق من نحو 60 صفحة وركّز، حسب ما اطلع عليه موقع "الحرة" على شرح الهيكلية الإدارية والعلاقات التنظيمية للسجن، وأجاب عن الكثير من الأسئلة، من قبيل: ما الذي يحدث في داخله؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومن هم المسؤولون عن ذلك؟، بينما خلص إلى إثبات دور مشفى تشرين العسكري والقضاء، بأن الأول يظهر كمكان للتصفية بشهادة الوفاة، والثاني كـ"جهة إصدار حكم الإعدام".

وتم إعداد التحقيق بناء على 31 مقابلة مع أشخاص عملوا داخل "صيدنايا"، وضباط منشقين عن النظام السوري كانوا على أسواره ضمن القوات المسؤولة عن حمايته، إضافة إلى معتقلين سابقين اعتقلوا في أوقات متفرقة.

واستعرض في أجزائه الأولى الحراسة الخارجية التي تحيط بـ"صيدنايا"، والجهات المسؤولة عنها وأماكن توزعها وأدوارها وحقلي الألغام، ومن ثم الحراسة الداخلية التي تنتشر بين الأسوار الخارجية والداخلية وبوابات الأبنية.

والأمر كذلك بالنسبة لمفارز الأجنحة التي تكون على احتكاك يومي مع المعتقلين.

وتحدث التحقيق عن 3 مستويات من الحراسة للسجن، الأول يتعلق بحمايته من الخارج ضد أي تهديد خارجي أو عملية فرار للسجناء، بينما الثاني فيرتبط بمساندة المستوى الأول.

في حين تم تخصيص المستوى الثالث لحماية أبنية السجن الداخلية ومراقبة تحركات السجناء وتأمين وجودهم وانضباطهم داخل الأجنحة والمنفردات. وقد تختلف طبيعة الحماية في كل مستوى وفقا للجهة العسكرية المسؤولة عنها (الجيش أو الشرطة العسكرية أو شعبة الاستخبارات العسكرية).

وشرح الجزء الثاني من تحقيق الرابطة الحقوقية عمل مكاتب السجن، بدءا من تلك المعنية بتلبية الحاجات الأساسية من ماء وطعام وكهرباء، وصولا لتلك المعنية بالمشتريات والرعاية الصحية.

ومن ثم انتقل مستعرضا ارتباطات السجن من الخارج مع باقي مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية، سواء المتعلقة بالتبعية الإدارية الرسمية أو العلاقات الشخصية المبنية على المحسوبيات والولاء والقرب من مراكز القوة في النظام السوري.

يقع السجن على تلة صغيرة عند بداية سهل صيدنايا، وهي بلدة جبلية تقع على بعد 30 كيلومترا شمال العاصمة دمشق، ويتكون من بنائين: الرئيسي القديم (البناء الأحمر)، والبناء الجديد المعروف باسم البناء الأبيض.

السجن يتكون من بنائين

وتقدر مساحته بـ1.4 كيلومتر مربع، أي ما يعادل "ثمانية أضعاف مساحة ملاعب كرة القدم الدولية في سوريا مجتمعة".

ويختلف عن باقي السجون من حيث التبعية ومن حيث الممارسات والقوانين المطبقة فيه، إذ يتبع لوزارة الدفاع السورية، بينما لا تتمتع وزارة العدل بأي سلطة عليه، فيما "لا يستطيع أحد دخوله أو زيارة أي معتقل، من دون إذن الشرطة العسكرية، بعد الحصول على موافقة مسبقة من شعبة الاستخبارات العسكرية"، وفق تحقيق الرابطة الحقوقية.

وخلصت الرابطة في إحدى جزئيات تحقيقها إلى أنه يتبع لجهتين قضائيتين منفصلتين: الأولى هي "القضاء العسكري"، الذي ينظر في الجنايات أو الجنح التي يرتكبها عسكريون، والثانية هي "محكمة الميدان العسكري".

وقد مرت سوريا بأحداث كبيرة منذ تأسيسه في عام 1987، بينما تعاقب على إدارته عشرة مدراء مختلفين، كان لافتا أنهم ينحدرون من قرى تتبع لمحافظة طرطوس وأخرى لمحافظة اللاذقية، في غرب البلاد.

"فئتان"

يصنف النظام السوري المعتقلين في "صيدنايا" إلى فئتين: الأولى هم الأمنيون، وهم معتقلون مدنيون أو عسكريون، على خلفية رأيهم أو نشاطهم السياسي أو انتمائهم إلى منظمات "إرهابية"، أو القيام بأعمال "إرهابية"، أو حسب "التهم الجاهزة من جانب النظام السوري".

أما الفئة الثانية فهي الموقوفون القضائيون، وهم من العسكريين المحتجزين بسبب ارتكابهم جنحا أو جرائم جنائية (قتل، سرقة، فساد، اختلاس أموال، فرار من الخدمة الإلزامية).

وهذا الاختلاف في التقسيم ينتج عنه اختلاف في طريقة المعاملة، إذ يوضح التحقيق أن "الأمنيين يتعرضون لتعذيب ممنهج، وكافة سياسات الحرمان من الطعام والرعاية الصحية، أما القضائيين فيتعرضون لتعذيب غير ممنهج، وفي الغالب يتمتعون بزيارة دورية ومستوى مقبول من الطعام والرعاية الطبية".

وبالعموم ينظر النظام السوري إلى المعتقلين في السجن على أنهم "عملاء وخونة"، ولهذا يجردون من أي اعتبارات إنسانية، ويستباحون تماما.

بين 2011 و2015 كانت الأوضاع فيه في غاية السوء، وتراجعت أعداد السجناء فيه بسبب عمليات التصفية. ويذكر التحقيق أن النظام السوري أعدم فيه وخلال 10 سنوات من 30 إلى 35 ألف معتقل، بشكل مباشر أو تحت التعذيب، أو بسبب قلة الرعاية الطبية والتجويع.

ودائما ما تكون عمليات الإعدام المباشر بشكل دوري (يومين في الأسبوع)، فيما توضح الرابطة الحقوقية أن "المعتقلين لا يتم إبلاغهم بقرار الإعدام، بل ينقلون مساء لينفذ بهم الحكم في اليوم نفسه أو في اليوم التالي".

يحضر الإعدام رئيس القلم الأمني ومدير السجن، والنائب العام العسكري في المحكمة الميدانية، واللواء قائد المنطقة الجنوبية، وضابط من شعبة المخابرات، ورئيس فرع التحقيق (248) وأحد أطباء السجن، وأحيانا "رجل دين"، فضلا عن رئيس المحكمة الميدانية العسكرية، وهي الجهة التي يصدر عنها الحكم.

وتحدث التحقيق عن غرفتي إعدام، الأولى في "البناء الأبيض" والثانية في "البناء الأحمر"، وأن العملية تتم "شنقا". وفي كلا الغرفتين "عدة منصات لذلك".

تضم "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، التي تأسست عام 2017 "ائتلاف للناجين" من "صيدنايا" والضحايا وعائلاتهم، وتسعى "لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة للمعتقلين، بسبب رأيهم أو نشاطهم السياسي".

كما تعمل أيضا على كشف مصير المفقودين والمختفين قسريا، بينما تقدم المشورة والدعم لأسرهم، وتوفر لهم المعلومات والاستشارات.

وسبق وأن زودت صحف ووسائل إعلام غربية، من بينها "الغارديان"، و"نيويورك تايمز"، و"واشنطن بوست" بالكثير من المعلومات الخاصة بـ"صيدنايا"، والتي انتشرت في سياق تحقيقات استقصائية.

ويصف الشريك المؤسس في الرابطة الحقوقية، دياب سرية، "صيدنايا" بـ"الرمز الذي يستخدمه النظام السوري لإرهاب الناس. هو يضع كل من يفتح فمه فيه. وهو وجه لهيبة النظام ورمز للسطوة على المجتمع".

ويضيف لموقع "الحرة": "مكان فيه أوامر ومحكمة ميدانية وتراتبية. هو جزء من كيان الدولة. التحقيق كشف كل ذلك".

وقد يتردد سؤال كبير، لماذا كل هذه التراتبية والهيكلية الإدارية والتنظيمية للسجن؟ رغم أن أجهزة النظام الأمنية، وفق ما وثقت منظمات حقوقية قادرة على قتل أي معتقل بكل سهولة، ومن ثم إخفاء أثره كاملا.

التراتبية والهيكلية الإدارية والتنظيمية للسجن

ويوضح سرية: "سألنا إحدى الرتب العالية التي عملت فيه سابقا، وأجاب: "المعتقل عندما يموت داخل صيدنايا يصبح مثل البارودة (البندقية). يجب أن تسلم. هذه هي بيروقراطية الدولة".

ويضيف الحقوقي والمعتقل السابق: "هذه هي الدولة المتوحشة. بكيانها وقوانينها وأنظمتها. هكذا حولها نظام الأسد".

يتابع سرية: "المعتقل يتعرض للقتل حتى يعترف. لا تنته القصة ويرسل إلى صيدنايا. كثير من الأشخاص يقولون لماذا نتعرض للقتل في صيدنايا مجددا. هو معسكر موت مثل معسكرات النازيين أيام الحرب العالمية الثانية".

وزاد: "النظام يقتل الناس فيه من أجل أن يتربى من في الخارج. هذه هي الدولة".

"تراتبية لنقل الجثث"

بعد عمليات الإعدام التي تتم داخل السجن على مدى يومين في الأسبوع، يعمل النظام السوري "وفق تراتبية بالتدريج" لنقل الجثث، ومن ثم دفنها في مقابر جماعية، حسب ما يورد التحقيق.

وتنقل الجثث بواسطة إدارة الخدمات الطبية في "مشفى تشرين العسكري"، وتدفن أحيانا في منطقة "نجها" بريف دمشق الجنوبي. وقد تدفن في منطقة "قطنا" عند نقطة تقاطع "الفرقة العاشرة" مع "الحرس الجمهوري"، أو في منطقة "القطيفة" غرب "حقل الرمي" التابع للفرقة الثالثة، المسؤولة عن حماية السجن.

صور أقمار اصطناعية للمقابر الجماعية في نجها

ويتم التعامل مع الجثث بطريقتين، إذ يوضح التحقيق أن "الجثث الناتجة عن الإعدام تنقل مباشرة إلى المقابر المذكورة بواسطة سيارات عسكرية يطلق عليها اسم سيارة اللحمة، أو في سيارات بيك أب".

أما الطريقة الثانية فترتبط بالجثث الناتجة عن سقوط الضحايا تحت التعذيب أو بسبب انعدام الرعاية الطبية وتجمّع في السجن. وهنا ولمدة لا تتجاوز 48 ساعة تدفن في غرفة أنشئت بعد 2011 تسمى بـ"غرف الملح".

في هذه الغرف توضع الجثث ويكون على جبهة كل واحدة رقم وترش بالملح، ومن ثم تنقل بواسطة سيارة نقل المعتقلين إلى مشفى تشرين العسكري، الذي يقوم بمعاينتها وإصدار شهادة وفاة لها، إلى أن تنقل إلى فرع السجون في "الشرطة العسكرية".

وبعد عملية إصدار شهادة الوفاة يشير التحقيق إلى أن جثث المعتقلين ترسل للدفن في نجها أو قطنا أو القطيفة، وأن العملية تتم في ساعات الصباح الأولى.

صور أقمار اصطناعية للمقابر الجماعية في القطيفة

ويشكل المدنيون، الذين تجرأوا على مجرد التفكير بمعارضة النظام السوري، الغالبية الساحقة من الضحايا.

وجرى منذ عام 2011 إعدام آلاف الأشخاص خارج نطاق القضاء في عمليات شنق جماعية تُنفذ تحت جنح الظلام، وتُحاط بغلاف من السرية المطلقة.

وقُتل آخرون كثر من المحتجزين في سجن صيدنايا، جراء تكرار تعرضهم للتعذيب والحرمان الممنهج من الطعام والشراب والدواء والرعاية الطبية.

"أحداث مفصلية وعشر مدراء"

في غضون ذلك استعرض تحقيق الرابطة الحقوقية سلسلة من المراحل التي مر بها صيدنايا منذ تأسيسه في فترة الثمانينيات، سواء تلك التي سبقت حادثة الاستعصاء في عام 2008، أو تلك التي تبعتها، وصولا إلى مرحلة ما بعد الثورة السورية، وعقب محطة "الانتصار في 2016".

ورغم أن "وحشية التعذيب انخفضت بعد 2016"، إلا أن تحقيق الرابطة وثّق إعدام النظام السوري لـ800 معتقل. وهؤلاء معظمهم ممن أجروا عمليات "تسوية ومصالحة"، في مدن ريف دمشق وحلب ودرعا وحمص.

علاوة على ذلك، وفي قسمه الأخير كشفت الرابطة الحقوقية في التحقيق عن أسماء الشخصيات الأمنية التي تعاقبت على إدارة السجن، منذ تأسيسه في 1987، مشيرة إلى أن "مدير السجن هو المسؤول الأول والمباشر عن تنفيذ عمليات القيادة بحق المعتقلين، وهو المتحكم بكل التفاصيل الدقيقة داخله".

أولى الشخصيات هي "بركات العش"، وتولى إدارة السجن من عام 1987 حتى 1991.

ينحدر "العش" من ريف اللاذقية وشهد "صيدنايا" في فترة ولايته عدة انتهاكات، وخاصة ضد المنتمين للجناح العراقي في "حزب البعث" و"رابطة العمل الشيوعي" و"الإخوان المسلمين".

خَلفه "محيي الدين محمد" في الفترة الممتدة من 1991 إلى 2003، وهو أكثر شخص بقي في المنصب، دون أي تغيير، وينحدر من إحدى قرى مدينة جبلة، وهو "أحد أبناء رجال الدين المهمين في الطائفة العلوية".

بعد "محمد" تولى "لؤي يوسف" إدارة "صيدنايا" من 2003 حتى 2006، وينحدر من قرية بحمرة في ريف اللاذقية، وكان من المقربين لغازي كنعان وزير الداخلية والرئيس السابق لجهاز المخابرات السوري في لبنان.

في غضون ذلك، تولى "علي خير بيك" إدارة "صيدنايا" من عام 2006 حتى 2008، وهذا الضابط ينحدر من القرداحة معقل رأس النظام السوري، لكنه أقيل بعد عملية اقتحام فاشلة للشرطة العسكرية للسجن، ما أسفر عن وقوع 1200 منهم بيد المعتقلين، وفق التحقيق.

بعد إقالته تولى "طلعت محفوض" منصب مدير السجن من 2008 حتى 2013، والذي ينحدر من قرية البريخة في دريكيش بمحافظة طرطوس، ووصفه التحقيق بأنه "مهندس تصفيح السجن وحمايته، وأحد المسؤولين عن مجزرة 2008 التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 125 معتقلا".

وكان "محفوض" قد قتل في 2013 بكمين لفصائل "الجيش السوري الحر" سابقا ببلدة تل منين في القلمون، ليخلفه "إبراهيم سليمان"، الذي ينحدر من قرية فجليت بدريكيش التابعة لمحافظة طرطوس.

ولم يبق "سليمان" إلا لعام واحد في إدارة "صيدنايا"، ليتولى المنصب خلفا له "أديب اسمندر" في الفترة الممتدة من 2013 إلى 2014. وهذا الضابط الأمني ينحدر من قرية القلايع في مدينة جبلة، وفي عهده تنوعت أساليب التعذيب والتنكيل بحق المعتقلين، وفق التحقيق.

"محمود معتوق" شغل المنصب من 2014 إلى 2018، وينحدر من قرية فيديو بريف اللاذقية، واستكمالا لأسلافه "واصل ارتكاب التعذيب وطور الوسائل"، إلى أن أقيل من المنصب لصالح "وسيم حسن"، والذي تولى إدارة "صيدنايا" بين 2018 و2020، بينما شهد عهده إعدام 500 شخص ممن اعتقلوا في "مناطق التسوية والمصالحات".

وفي الوقت الحالي يدير "صيدنايا" العميد "أسامة محمد العلي"، الذي جاء خلفا لـ"حسن" في شهر مارس 2020، وحسب تحقيق الرابطة الحقوقية فقد "حافظ على العقوبات وعمليات الإعدام"، بينما لايزال على رأس عمله.

مدينة القصير في سوريا (فرانس برس)
مدينة القصير في سوريا (فرانس برس)

قبل 12 عاما.. كسر حزب الله الحدود بين سوريا ولبنان، واختار دعم نظام بشار الأسد ضد مناهضيه من فصائل "الجيش السوري الحر".. وبعدما وضع كل ثقله العسكري هناك، تمكن من إحكام السيطرة على القصير "الاستراتيجية"، وكل القرى والبلدات التابعة لها.

وعقب تلك الفترة، تحولت المدينة التابعة لمحافظة حمص إلى أشبه ما يكون بـ"الحديقة الخلفية" لحزب الله.

ورغم أن هذه الحالة سبق وأن تكرست في عهد الأسد الأب (حافظ)، فإن حدودها توسعت لمستويات أكبر عندما وصل الابن (بشار) إلى السلطة، خاصة بعد عام 2011.

"كانت القصير بمثابة بوابة دخول حزب الله إلى سوريا"، كما يقول الصحفي السوري وابن هذه المدينة، نبيل سلّام، لموقع "الحرة".

ويعتقد أنها ستكون "بوابة لخروجه وأفول نفوذه" في البلاد، بناء على المعطيات القائمة على الحدود، منذ 4 أيام.

هذه المعطيات بدأت بحملة أمنية من جانب قوات حرس الحدود التابعة للإدارة الجديدة في دمشق (الفرقة 103)، والتي لا تزال متواصلة حتى الآن في عدة قرى وبلدات حدودية مع لبنان، لتحقيق هدف معلن هو "ملاحقة عصابات تهريب الأسلحة والمخدرات".

لكن ما هو غير المعلن، والذي يدور الحديث عنه كثيرا في الكواليس، أن هذه الحملة الأمنية تستهدف على وجه التحديد "قطع كل الطرق والممرات الاستراتيجية، التي كان يستخدمها حزب الله في تهريب الأسلحة من وإلى سوريا".

أنفاق حزب الله.. تساؤلات عن دور اليونيفيل في لبنان
أنفاق وترسانة عسكرية ضخمة أقامها "حزب الله" دون اكتراث لما يُعرف بـ"العين الساهرة" على تطبيق القرار 1701، أي قوات اليونيفيل، فالحرب الأخيرة بين إسرائيل والحزب كشفت أن الأخير واصل تعزيز قدراته العسكرية وكأن لا رقيب ولا حسيب عليه.

ورغم أن عمليات التهريب كانت تتركز، خلال السنوات الماضية، في عدة بوابات حدودية غير شرعية بين البلدين، فإن قطع تلك الموجودة في القصير ومحيطها يحظى بأهمية قصوى لدى قوات الإدارة الجديدة في دمشق لعدة اعتبارات، كما يوضح مراقبون وأبناء من المنطقة لموقع "الحرة".

أبرز هذه الاعتبارات، أن الحدود السورية اللبنانية (من جهة القصير) كان حزب الله اللبناني قد كرّس من أجلها الكثير خلال السنوات الماضية، على صعيد البنى التحتية (من أنفاق وممرات وغير ذلك) من جهة، وعلى صعيد "البيئة" التي رسم توازناتها من جهة أخرى.

"اللعب على التداخل"

تقع القصير في الريف الغربي لمحافظة حمص السورية وسط البلاد، ويتبع لها أكثر من 80 قرية وبلدة. وهي مدينة متعددة الطوائف، وتضم سكانا من الشيعة، والسنة، والعلويين، والمسيحيين.

من بين هذه البلدات "حاويك"، التي تسلطت الأضواء عليها كثيرا قبل أيام، بعدما دخلتها قوات إدارة دمشق وخاضت مواجهات مسلحة مع عصابات تتبع للعشائر، قالت إنها "تقف وراء عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات".

وتقيم في هذه البلدة منذ عقود، عائلات سورية وأخرى تحمل الجنسية اللبنانية. وتنسحب هذه الحالة على عدة قرى وبلدات حدودية تقع في غالبيتها غرب القصير، مثل حوش السيد علي، وجوسية الخراب، وزيتا، ومطربا، وبلوزة.

ويقول سلّام إن قرى "أكروم وجوسية الخراب عليها نزاع حدودي يعود إلى عقود للوراء، أي أن هناك أوراقا لها في دائرة السجل العقاري في سوريا، وفي دائرة السجل العقاري بالهرمل بالدولة اللبنانية".

ويضيف أنها "تضم مواطنين يحملون الجنسية اللبنانية، كانوا استقروا فيها بعد عام 1970 عندما امتلكوا أراضٍ بموجب قانون الإصلاح الزراعي الذي طبق في عهد حافظ الأسد، بما يخالف القانون السوري"، على حد تعبيره.

"نظام الأسد في سوريا مع حزب الله.. وحتى اندلاع الثورة السورية جعل هذه القرى والبلدات الحدودية من جهة القصير سائبة، في مسعى من جانب الاثنين للتحرك على صعيد تهريب عمليات السلاح"، حسب الصحفي السوري.

ويتابع أن هذه السياسة "مكّنت حزب الله من العمل بأريحية خلال حرب عام 2006 مع إسرائيل، وفي أعقاب دخوله إلى سوريا لدعم نظام الأسد بعد اندلاع الثورة الشعبية، مستفيدا بذلك من الحواضن الاجتماعية التي أسسها هناك تدريجيا".

وتتمثل هذه الحواضن بـ"العائلات اللبنانية والعشائر الشيعية التي تدين بغالبيتها بالولاء لحزب الله"، كما يشير الصحفي السوري المقيم في القصير، محمد رعد.

ويوضح رعد لموقع "الحرة": "الحدود السورية اللبنانية من جهة القصير متداخلة".

ويقول إن القرى والبلدات التي يدور فيها مسرح عمليات الحملة الأمنية الآن، "تضم عائلات لبنانية طالما اعتمد عليها حزب الله في عمليات التهريب، وكواجهة لتمرير أجندته هناك".

ماذا تعني القصير لحزب الله؟

كانت الحدود السورية اللبنانية في عهد نظام الأسد، قد تحولت إلى أرض "مشاع" استخدمها "حزب الله" لتهريب الأسلحة والذخائر وحبوب "الكبتاغون".

ولم يكن أن يتم ذلك خلال السنوات الماضية، إلا بموجب سياسة "هادئة" يعتبر خبراء ومراقبون أنها لا تزال مستمرة حتى الآن.

تستند هذه السياسة على "المعابر غير الشرعية من جهة.. ومن جهة أخرى تقوم على عمل العصابات وعائلات وعشائر مقيمة هناك، استخدمها حزب الله كواجهات لتمرير أعماله المتعلقة بالتهريب، ولتثبيت أسس الاقتصاد الموازي المرتبط به".

ويقول سلّام إن "غالبية وسائل الإعلام تركز الآن على أن الحملة تستهدف خطوط التهريب. القضية ليست ذلك فحسب، بل خطوط إمداد حزب الله بالسلاح".

هذه الخطوط، وفق الصحفي، "تنبع من منطقة زيتا ومناطق أخرى، وتصل إلى داخل الأراضي اللبنانية المقابلة".

ويضيف: "تضم زيتا التابعة للقصير مستودعات استراتيجية وأنفاق تنبع من سوريا، وتصل إلى قرية القصر بمسافة 3 إلى 3 كيلومترات ونصف".

"هي عبارة عن 4 أنفاق، كان حزب الله يخزن فيها أسلحته الصاروخية والمتعلقة بالمسيرات"، وفقا لذات المتحدث.

ورغم أن إسرائيل سبق أن أعلنت عدة مرات قبل سقوط نظام الأسد، أنها استهدفت خطوط الإمداد هذه، خاصة المارة من القصير باتجاه لبنان، فإن التهريب فوق الأرض "ما زال مستمرا، ولو بوتيرة هادئة"، حسب رعد.

وفي هذا الصدد، يشير إلى "القصير وريفها تعد ملاذا آمنا لحزب الله وميليشياته. وهذه الحالة لم تنته". كما يتوقع أن "تتواصل المواجهات المسلحة على الحدود في المرحلة المقبلة".

ويستطرد: "حزب الله يلعب على وتر التداخل العائلي هناك بين القرى والبلدات على جانبي الحدود السورية اللبنانية.. ويريد إبقاء عمل العصابات التابعة له".

"التغيير تاريخي"

التغيير الأمني والعسكري الذي طرأ على حدود سوريا ولبنان بعد سقوط نظام الأسد يعتبر "تاريخيا" لعدة أسباب، كما يعتبر من تحدث إليهم موقع "الحرة".

أول هذه الأسباب، أنه "لم يسبق منذ عقود، أن سيطرت قوات مناهضة لحزب الله وانتشرت بكثرة على المنطقة الحدودية، خاصة من جهة القصير".

علاوة على ذلك، "من شأن الحملة الأمنية القائمة الآن أن تنهي نفوذ حزب الله بالكامل، ليس على مستوى خطوط الإمداد التي فتحها بالتدريج طيلة السنوات الماضية فقط، بل أيضا على مستوى الحواضن والبيئة".

وتستخدم القوات التابعة لدمشق، أسلحة مختلفة في حملتها القائمة على الحدود.

هذا ما حدث في القصير.. إعلان للجيش الإسرائيلي بعد التطورات في سوريا
أعلن الجيش الإسرائيلي، الأحد، أن مناطق قريبة من الحدود مع سوريا في هضبة الجولان أصبحت مناطق عسكرية مغلقة ويمنع الوصول إليها، كما تم تقييد حركة المزارعين وأقيمت أيضا حواجز على الطرقات القريبة من خط وقف إطلاق النار في الجولان.

وأظهرت تسجيلات مصورة انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، استقدامها عدة مدرعات ودبابات إلى قرى وبلدات في القصير. وغالبيتها تقع على الحدود مع لبنان.

وعلى الجانب اللبناني، أعلن الجيش، قبل أيام، أنه "رد على مصادر إطلاق النيران من الجانب السوري"، دون أن يقدم أي تفاصيل أخرى على صعيد الحملة القائمة والموقف الذي يتخذه من انتشار حزب الله هناك.

ويقول الصحفي سلّام إن "القرى المقابلة للقصير من جانب لبنان، تعتبر معاقل رئيسية لحزب الله (في بعلبك والهرمل)".

ويضيف: "هي شريان حزب الله"، لافتا إلى أنها "تختلف عن بقية المناطق الحدودية، التي تنتشر فيها طوائف أخرى لا تدين بالولاء للجماعة اللبنانية"، المصنفة إرهابية في أميركا ودول أخرى.

ويعتبر الصحفي رعد منطقة القصير بمثابة "قلب سوريا من جهة لبنان".

ويقول إن "حزب الله لن يتخلى عنها بسهولة، وفي حين يريدها ممرا للحصول على الأسلحة والمخدرات، قد لا تنجح مساعيه بناء على الأهداف التي تضعها قوات إدارة دمشق لحملتها الأمنية القائمة".