ضربة في البوكمال.. لقطة أرشيفية
ضربة في البوكمال.. لقطة أرشيفية

مثل غيرها من الهجمات التي تطال، بين الفترة والأخرى، مواقع في أقصى الشرق السوري، لم تتكشف الكثير من التفاصيل المتعلقة بالضربة التي وقعت ليلة الأربعاء على الحدود السورية-العراقية.

وبينما تحدثت مصادر محلية عن قصف قافلة أسلحة ونفط، مصدرها إيران، ذكرت وسائل إعلام مقربة من طهران أن صواريخ استهدفت "صهاريج كاز" كانت في طريقها إلى "الشعب اللبناني". 

وفي حين تباينت الروايات بشأن هذه الحادثة، التي لا تزال غامضة حتى الآن، لم يعرف بالتحديد الجهة التي تقف ورائها، إذ قال الجيش الأميركي الذي نفذ ضربات سابقة إنه لم يشارك في الهجوم، فيما رفض الجيش الإسرائيلي التعليق، حسب ما أوردت وكالة "أسوشيتد برس". 

وتعرف المنطقة الواقعة في أقصى الشرق السوري، خاصة منطقة البوكمال والقرى والبلدات التابعة لها والواقعة على الحدود السورية-العراقية بأنها "بقعة ذات نفوذ إيراني بحت"، ولطالما تعرضت لاستهدافات، تبنت واشنطن الكثير منها، آخرها في شهر أغسطس الماضي. 

ولا يقتصر الانتشار الإيراني هناك، المتمثل بالميليشيات، على منطقة دون غيرها، بل ينسحب على مساحات كبيرة. 

وتتمثل طبيعة هذا الانتشار في تأسيس قواعد عسكرية، أبرزها "قاعدة الإمام الحسين"، فضلا عن إنشاء مستودعات أسلحة وذخائر، ومراكز تدريب لعناصر الميليشيات التي تدخل بصورة دورية من الأراضي العراقية إلى السورية، وبالعكس، وفق ما كشفت عنه سابقا تقارير محلية وغربية واستخباراتية. 

ماذا حصل ليلا؟ 

ذكر "المرصد السوري لحقوق الإنسان" إن "طيران مجهولا قصف الحدود السورية-العراقية بريف دير الزور الشرقي، مستهدفا شاحنات تحمل أسلحة وصهاريج نفط تابعة للميليشيات الإيرانية في منطقة ساحة الجمارك في الهري، والبوابة العسكرية بريف البوكمال". 

وأضاف أن الضربة أسفرت عن "سقوط خسائر بشرية فادحة، إذ تأكد مقتل 14 شخصا إلى الآن، غالبيتهم من الميليشيات التابعة لإيران". 

بدورها قالت شبكات محلية، تعنى بأخبار دير الزور، إن 3 غارات استهدفت مواقع الميليشيات الإيرانية شرق المحافظة، بالقرب من "ساحة التهريب" الواقعة بموازاة الحدود، ومنطقة حميضة في بادية البوكمال.  

في المقابل نشرت حسابات مقربة من "الحشد الشعبي" العراقي تسجيلات مصورة، وصورا أظهرت اشتعال النيران في الجانب السوري من الحدود.

وذكرت شبكة "صابرين نيوز" أن القصف استهدف "عجلات" (صهاريج) كانت تحمل مادة "الكاز"، كمساعدات من الجانب الإيراني إلى الشعب اللبناني. 

وتحدثت الشبكة عن مقتل 25 شخصا من "حرس الحدود وسائقي الشاحنات"، وأن الضربة كانت بـ"طائرة مسيرة". 

وزعم التلفزيون الإيراني الرسمي أن هجوم القافلة كان من قبل "طائرات من دون طيار وطائرات هليكوبتر أميركية". ولم يقدم أي دليل على هذا الادعاء، مضيفا أن "القافلة كانت تضم 22 شاحنة صهريجية، وأن الضربة حصلت بعد عبور ثماني شاحنات إلى سوريا". 

من جهتها نقلت قناة "الميادين عن مراسلها في بغداد أن "إسرائيل وراء الاعتداء بالمسيرات على معبر القائم" الحدودي. ولم تتبن الأخيرة الضربة حتى ساعة إعداد هذا التقرير. 

ويقول بن سبتي، وهو باحث إسرائيلي إيراني، في معهد القدس للاستراتيجية والأمن إن "العديد من الباحثين والمراسلين يعتقدون أنه كان من مصلحة الولايات المتحدة أو إسرائيل التصرف لأنه يبدو أنه كان هناك تسليم حساس في تلك الشاحنات، ولذلك لا يمكن لهذه الدول الجلوس، وعدم القيام بأي شيء ضد ذلك". 

ويضيف لموقع "الحرة": "حتى الوضع السياسي في إسرائيل أو الولايات المتحدة لا يمكن أن يؤثر على الضربة لأنه إذا كانت قضية خطيرة يمكن للجيش الموافقة عليها مع رئيس الوزراء أو وزارة الدفاع". 

وزاد: لذلك لا يتعين عليهم انتظار حكومة جديدة أو كونغرس جديد للموافقة على ذلك"، مشيرا من جانب آخر: "ما زلنا لا نعرف ما الذي كان في تلك الشاحنات". 

"سياقان قبل الاستهداف" 

وكان تقرير نشر مطلع عام 2021 على موقع "أتلاتنيك كونسيل" قال إن إيران تمكنت من بناء "إمبراطورية عسكرية وأمنية" في محافظة دير الزور شرقي سوريا، عقب تدخلها في الصراع الدامي هناك لإنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط. 

وقد أصبح هذا التدخل جليا سوريا بين عامي 2013 و2018،رعندما تدخلت طهران لمساعدة نظام الأسد في حربه ضد المعارضة، وعندما شاركت كذلك في محاربة تنظيم داعش شرقي سوريا، بغية فرض وجودها ونفوذها هناك. 

وقد يكون أبرز هدف حققته إيران في دير الزور هو سيطرتها على مدينة البوكمال ومعبرها الحدودي مع العراق، الأمر الذي مكّن نظام طهران من تحقيق الحلم الذي أرادته منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979، وهو إقامة ممر بري يوصلها إلى البحر الأبيض المتوسط ولبنان، عبر سوريا والعراق، وفق التقرير. 

ورغم أن "هجوم ليلة الأربعاء" ما زال يكتنفه الغموض، إلا أن سياقين وقعا قبل الضربات التي استهدفت قافلة صهاريج وشاحنات، حسب تقاطع روايات محلية مع تلك التي نشرها مراقبون مقربون من طهران ووسائل إعلام رسمية وممولة منها. 

ويرتبط السياق الأول بتقرير استخباراتي نشره موقع "ألما" الإسرائيلي البحثي، الثلاثاء، استعرض فيه آلية عمل "الممر الإيراني البري" لتهريب الأسلحة عبر العراق إلى سوريا ولبنان، "تحت غطاء شحنات إنسانية وغذائية". 

وذكر التقرير أن "إيران لم تتخل عن الممر البري، والنشاط مستمر، بالدرجة الأولى تحت غطاء مدني ودروع بشرية". وجاء فيه أن "الإيرانيين عادوا لتركيز جهودهم مرة أخرى على الممر البري التقليدي، وسط تركيز الهجمات الإسرائيلية لتعطيل الممر البحري والجوي". 

ويقول عمر أبو ليلى، مدير شبكة "دير الزور 24" وطالب دراسات عليا في السياسة العامة في جامعة برنستون (الولايات المتحدة)، لموقع "الحرة": "قبل أقل من أسبوعين كثفت إسرائيل قصفها على النقاط الإيرانية داخل سوريا وفي محيط دمشق ومناطق أخرى. الضربة تتعلق بشيء عسكري بامتياز". 

ويعتبر أبو ليلى أن "القصف يهدف لتحجيم الدور العسكري لإيران في ظل انشغال روسيا وغض الطرف من جانبها عما يحصل من تحركات في دير الزور وعلى الحدود بين سوريا والعراق". 

لكن في المقابل يشير الباحث السوري، ضياء قدور إلى "اختلاف بين القوى العسكرية التي تتحرك لأسباب أمنية، وبين تلك التي تتحرك في خدمة لأهداف سياسية كتوجيه الرسائل وردود الأفعال اللحظية". 

ويوضح حديثه بالقول: "بمعنى الفرق بين الغارات الإسرائيلية والأميركية على مواقع أو شحنات عسكرية إيرانية على طول الممر البري". 

ولا يظهر تاريخ الغارات الأميركية ضد مواقع المليشيات الإيرانية خلال السنوات السابقة، خاصة خلال فترة إدارة الرئيس بايدن "أي نوع من الحزم والحسم في التعامل مع هذا الخطر المتعاظم في الشرق وبالقرب من القواعد الأميركية المنتشرة على جانبي الحدود". 

ويضيف قدور لموقع "الحرة": "في أغلب الحالات كانت يراد توجيه رسائل سياسية تتعلق بملفات إقليمية معينة كالملف النووي، أو رسائل تحذيرية كنوع من الردع المؤقت". 

وفي غضون ذلك يشرح الباحث السوري، سعد الشارع أن رتل صهاريج، بلغ عدده قرابة 45 شاحنة، توقف عند مفرق الرطبة (15 كلم) عن الحدود السورية، عصر يوم الثلاثاء. 

وكان من المتوقع أن ينتظر حتى الصباح لاستكمال طريقه، لكن المستغرب أن جزءا من هذه الصهاريج تحركت الساعة العاشرة مساء، وفور دخولها الأراضي السورية من معبر البوكمال، تعرضت لقصف من طيران مجهول. 

ويتابع الشارع: "يبدو أن الغارة الأولى كانت تحذيرية (لإبعاد سائقي الصهاريج)، وبعدها بدقائق استهدفت الغارة الثانية الرتل مباشرة، ثم تلتها الغارة الثالثة والرابعة". 

وأسفرت الضربات عن احتراق عدد من الصهاريج "ذات اللوحات الإيرانية"، فيما ارتفع عدد قتلى المليشيات إلى 21، بينهم تسعة إيرانيين، وعدد غير معروف من الإصابات. 

ويقول "لا يبدو أن حمولتها من مادة الكاز. لو كانت كذلك لبقيت النيران مشتعلة في المنطقة حتى الصباح". 

الرائد بالجيش الأميركي راشيل ل. جيفكوت قال لـ"أسوشيتد برس" إنه "لم تقم أي قوات أميركية أو تحالف (أعضاء) بقيادة الولايات المتحدة بشن غارة جوية في القائم بالعراق على الحدود مع سوريا". 

وفي حين نفذت إسرائيل مئات الضربات على أهداف داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري في سوريا خلال السنوات الأخيرة، فإنها نادرا ما تعترف أو تناقش مثل هذه العمليات.  

الشرع والجهاد الإسلامي

بالتزامن مع زيارة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، إلى دمشق ولقائه بالرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، تحدثت تقارير عن اعتقال القوات الأمنية السورية قياديين بارزين من حركة الجهاد الإسلامي، في حدث يبدو شديد الدلالة على التحولات الكبيرة التي تشهدها سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر من العام الماضي.

وقالت "سرايا القدس"، وهي الجناح العسكري للجهاد الإسلامي، في بيان الأربعاء إن خالد خالد مسؤول الحركة في سوريا وياسر الزفري مسؤول لجنتها التنظيمية محتجزان لدى السلطات السورية منذ خمسة أيام.

وأضافت أن السلطات ألقت القبض على الرجلين "دون توضيح أسباب الاعتقال وبطريقة لم نكن نتمنى أن نراها من إخوة". ودعت إلى "الإفراج" عنهما. 

وأكد مسؤول في وزارة الداخلية السورية لوكالة رويترز نبأ إلقاء القبض على القياديين في الحركة، لكنه لم يجب عن أسئلة لاحقة حول سبب اعتقالهما.

حركة "الجهاد الإسلامي" هي إحدى أهم الفصائل الفلسطينية المسلحة، وإن كانت أكثرها غموضاً وتعقيداً، من حيث تاريخها وأيديولوجيتها. صنفتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية، ونمت لتصبح ثاني أكبر حركة مسلحة في قطاع غزة وثالث أكبر حركة في الضفة الغربية.

وعلى الرغم من أنها أصدرت أول بيان علني لها في 11 ديسمبر عام 1987، كان وجودها واحدا من أكثر أسرار المقاومة الفلسطينية كتمانا. تأسست الحركة في قطاع غزة عام 1981 على يد مجموعة من الطلاب الفلسطينيين الذين لم يسبق لأحدهم أن أمسك بسلاح، لكنها سريعاً تحولت إلى استخدام العنف ضد أهداف إسرائيلية في عام 1984، أي قبل خمس سنوات من ظهور حركة حماس.

واكتسبت الحركة سمعة سيئة بسبب طبيعة هجماتها المثيرة للجدل في عنفها، ومواقفها المتصلبة ضد إسرائيل. وكان الشعار الذي طرحته هو: "الإسلام، الجهاد، وفلسطين": الإسلام كنقطة انطلاق، الجهاد كوسيلة، وتحرير فلسطين كهدف.

وكانت الحركة ولا تزال ملتزمة بـ"لاءات ثلاث": لا تفاوض، ولا حل الدولتين، ولا اعتراف بإسرائيل.

في كتابه "تاريخ الجهاد الإسلامي الفلسطيني: الإيمان والوعي والثورة في الشرق الأوسط"، يروي الباحث إيريك سكير حكاية جذور تأسيس حركة الجهاد الإسلامي، التي بدأت من رسم وضعه فتحي الشقاقي (مؤسس الحركة/ اغتيل في العام ١٩٩٥) على ورقة في مارس 1979، يمثل مستطيلًا يتقاطع مع دائرة. 

كان هذا الرسم، بحسب سكير، يمثل مشروعهم السياسي الجديد، ويحتوي على ثلاث مساحات متميزة. تمثل المساحة الأولى "الإخوة الذين كانوا أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين فقط". ثم هناك "الإخوة الذين كانوا أعضاء في كل من جماعة الإخوان والمشروع الجديد الذي يشكل نوعاً ما انشقاقاً عن الإخوان. وأخيراً، هناك أولئك الذين انضموا إلى هذا المشروع دون أن يكونوا من الإخوان المسلمين. كانت هذه المنظمة تُعرف بـ "الطلائع الإسلامية"، وهي نواة حركة الجهاد الإسلامي.

والتعقيد في سيرة الجهاد الإسلامي وتموضعها، مرده إلى عوامل عديدة لعبت دوراً في رسم هوية الحركة وتشكيل أفكارها من روافد متنوعة، وقد تبدو أحياناً متناقضة. فهي كما يرى باحثون، بينهم الباحثة الإسرائيلية مائير هاتينا، نشأت من تأثير حاسم للجماعات المصرية المتطرفة في السبعينيات. 

وفي المقابل، تركز الباحثة، بفيرلي ميلتون إدواردز، على صراع الحركة مع جماعة الإخوان المسلمين في أوائل الثمانينيات، بشأن المقاومة المسلحة. وبينهما رأي، يتوقف عنده إيريك سكير في كتابه، يقول بأن "الجهاد الإسلامي" خرجت تأثراً بالثورة الإيرانية عام ١٩٧٩. 

وفي الحالات كلها، تبدو حركة "الجهاد الإسلامي" اليوم في قلب هذه التناقضات، فهي الفصيل الأقرب فلسطينياً إلى إيران تمويلاً وتسليحاً مع إشارات إلى حالات "تشيّع" داخل الحركة. ومع ذلك فإن تنسيقها مع حماس لم يتوقف، حتى مع التباين بين حماس و"الجهاد" حول قضية الثورة السورية، وبقاء الجهاد الإسلامي في "حضن" النظام السوري مستفيدة من الحماية التي وفرها لها، في وقت كانت حماس تبتعد عن النظام بسبب مزاج الثورة القريب من الإخوان المسلمين.

مع ذلك نسقت حماس مع "الجهاد" هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وتحتفظ بأسرى إسرائيليين.

ومع تولي أحمد الشرع السلطة في سوريا، تزداد الأمور تعقيداً. فالشرع يميل، بحسب معطيات عديدة، إلى الاقتراب أكثر من تسوية مع إسرائيل قد تستكمل باتفاقية سلام، والابتعاد أكثر عن حماس وما تمثله. ولقاؤه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس يصب في هذا السياق.

ولا يحيد اعتقال الأمن السوري القياديين في "الجهاد" عن هذا "النهج"، ويأتي استكمالاً للمزاج السياسي للشرع المبتعد بوضوح، إلى حد القطيعة، عن إيران. إذ قطعت القيادة السورية الجديدة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وتأمل في إعادة بناء الدعم الإقليمي والدولي لسوريا، لا سيما رفع العقوبات وتمويل إعادة الإعمار بعد حرب أهلية مدمرة استمرت 14 عاماً.

لكن قد لا يعني اعتقال القياديين في الجهاد أن الشرع سيفعل الشيء ذاته مع حركة "حماس" في سوريا، على الأقل في الفترة المقبلة، كما يوضح نائب مدير مركز كارنيغي، الباحث مهند الحاج علي، لموقع "الحرة". بل إن الشرع على الغالب سيحافظ على العلاقة التاريخية بحماس لما تمثله من امتداد يرتبط بالإخوان المسلمين. 

وإذا كان الشرع في وارد "بيع" حماس، فإنه بالتأكيد سيطلب ثمناً عالياً لقاء ذلك. ويعتقد الحاج علي أن حماس لن تُحرج الشرع وستلتزم بما يناسبه في سوريا، حتى لو عنى ذلك قطع التواصل مع إيران، وإن كان الباحث في كارنيغي يتوقع أن تلعب حماس أدواراً في المستقبل لتحسين علاقات الشرع بإيران.

وأوردت وكالة رويترز في تقرير الشهر الماضي أن الولايات المتحدة قدمت لسوريا قائمة شروط يتعين الوفاء بها مقابل تخفيف جزئي للعقوبات. وذكرت مصادر لرويترز أن أحد الشروط هو إبعاد الجماعات الفلسطينية المدعومة من إيران.