قبل عشرة أشهر، في فبراير الماضي، أعلن وزير الاتصالات في حكومة النظام السوري، إياد الخطيب، منح ترخيص لمشغل ثالث للهواتف المحمولة في سوريا "طال انتظاره"، مؤكدا أنه "وطني بامتياز"، لكن تحقيق نشر، الجمعة، كشف أن الشركة المشغّلة (وفا تيليكوم) "ليست وطنية كما أعلن"، بل تشوبها صلات خفية بـ"الحرس الثوري" الإيراني.
والتحقيق الذي أعده كل من "مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية"، وهي مؤسسة غير ربحية، و"مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد" توصل إلى أن شركة ماليزية هي صاحبة الأغلبية في ملكية المشغل الثالث للهواتف، ولها صلات متعددة بـ"الحرس الثوري".
وحتى عام 2019، كانت هذه الشركة مملوكة مباشرة لضابط إيراني خاضع للعقوبات بسبب تسهيل عمليات بيع نفط لصالح "الحرس الثوري". كما يرتبط اثنان من مسؤوليها الماليزيين بشركات فُرضت عليهم عقوبات، لدعمهم الأخير.
ويبلغ رأس مال "وفا تيليكوم" الذي أعلن عنه رسميا في السابق عشرة مليارات ليرة سورية، بعدد أسهم يبلغ 100 مليون سهم، قيمة كل منها 100 ليرة سورية.
وهذا المبلغ وعند مقارنته برأس مال شركتا اتصالات الهواتف غير المحمولة في سوريا الأولى "سيريتل" والثانية "إم تي إن" يتضح أنه لا يساوي شيئا، كما أن قيمته قليلة جدا بالنظر إلى مسار العملة السورية أمام الدولار الأميركي.
وكان من اللافت خلال الفترة الأخيرة أن صعود المشغّل الثالث في سوريا "وفا تيليكوم" جاء في وقت هيمنت فيه وزارة الاتصالات في حكومة النظام السوري، على "سيريتل" التي كان يملكها رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، إلى جانب الاستحواذ على "إم تي إن" من قبل شركة "Tele Invest" عام 2021، بموجب قرار قضائي.
ما التفاصيل؟
عندما طلبت سوريا عروضا لأول مرة لإدخال ترخيص ثالث للهاتف المحمول في 2010، كان من المفترض أن تكون لحظة فاصلة في تحرير الاقتصاد الذي تهيمن عليه الدولة منذ فترة طويلة.
وطرحت شركات دولية عملاقة عروضها، بما في ذلك "فرانس تيليكوم" و"اتصالات الإماراتية"، وكذلك فعلت "تامكو"، وهي شركة إيرانية. لكن الشركة تم سحبها من المناقصة.
وأفاد اقتصاديون سوريون وتقارير إعلامية أن "تامكو" مسمى يعكس اسم ائتلاف "موبين ترست" (Mobin Trust Consortium). وفرضت بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على "موبين" ووصفوها بأنها شركة يسيطر عليها "الحرس الثوري".
سارت المحادثات ببطء بسبب مساومة السلطات ومقدمي العروض على الشروط. ولكن قبل أن يتمكنوا من تسويتها، اندلعت الحرب الأهلية في سوريا، في مارس 2011، وتم تعليق الترخيص إلى أجل غير مسمى.
وفي غضون ذلك، دعمت إيران نظام الأسد من خلال تمويل الميليشيا وتقديم دعم اقتصادي بمليارات الدولارات.
وخلال ذلك الوقت استمر قطاع الاتصالات في جني الأموال على الرغم من الانخفاض الحاد في النشاط الاقتصادي بسبب الصراع.
وفي عام 2021، دفعت شركتا التشغيل الحالية في البلاد، "سيريتل" و"إم تي إن سوريا" للحكومة مبلغا إجماليا قدره 130 مليار ليرة سورية (حوالي 37 مليون دولار بمعدل سعر السوق السوداء) باعتباره "حصة الدولة" من الإيرادات.
وجعل قطاع الاتصالات فرصة جاذبة لإيران، حيث قال المسؤولون صراحة إنهم يتوقعون رد الجميل لدعمهم.
ويورد التحقيق أنه وفي يناير 2017، زار رئيس الوزراء السوري، عماد خميس، إيران ووقع مذكرة تفاهم لمنح رخصة الهاتف المحمول الثالثة لشركة الاتصالات المتنقلة الإيرانية أو MCI، والتي كانت حتى عام 2018 مملوكة جزئيا لـ"الحرس الثوري" من خلال ائتلاف "موبين".
لكن لأسباب غير واضحة وقتها لم تر تلك الاتفاقية النور. وبحسب تقارير إعلامية وقتها قال المسؤولون السوريون إنهم ما زالوا يبحثون في الخيارات. ولم يقدموا سببا.
وأخبر اثنان من رجال الأعمال السوريين معدي التحقيق أن ابن خال الأسد، مخلوف، الذي كان يملك جزء كبير من حصص المشغل "سيريتل"، قاوم منح "MCI" الترخيص لأنه لا يريدهم أن يقتطعوا حصة "سيريتل" في السوق، أو يستخدموا نظام التجوال الوطني الخاص بها.
وبعد فترة وجيزة، تحركت حكومة الأسد، التي تعاني من ضائقة مالية، لتأكيد سيطرتها على المشغلين الحاليين. وابتداءً من منتصف عام 2020، اتهمت السلطات شركتي "سيريتل" و"إم تي إن سوريا" بأنهما مدينتان بعشرات الملايين من الدولارات كضرائب متأخرة، وعندما رفضت الدفع، وضعتها تحت سيطرة "الأوصياء" المعينين من قبل الدولة.
"محطة دخول وفا"
وعندما حصلت شركة "وفا تيليكوم" على الترخيص الثالث الذي طال انتظاره، بالإضافة إلى احتكار لمدة ثلاث سنوات لتشغيل أول شبكة 5G عالية السرعة في البلاد وإذن لاستخدام الشبكات الحالية للمشغلين الآخرين، بدا الأمر وكأنه مجرد امتداد لجهود النظام للسيطرة على القطاع.
وفي أعقاب تأسيس شركة المشغل الجديد، في عام 2017، كانت نحو 48 في المئة من أسهمها مملوكة لشركة سورية تدعى "وفا إنفست"، شارك في تأسيسها مساعد الأسد، يسار إبراهيم، (39 عاما)، الذي قالت صحيفة "واشنطن بوست" إنه لعب دورا رئيسيا في الاستحواذ "الشبيه بأسلوب المافيا" على مشغلي الاتصالات في سوريا.
ولم يرد إبراهيم، الذي فرضت عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات بسبب عمله كوكيل مالي للأسد، على طلبات التعليق المرسلة عبر المكتب الإعلامي الرئاسي السوري.
وفي عام 2021، تم تخفيض حصة "وفا إنفست" إلى 28 بالمئة، وتم منح 20 بالمئة منها لشركة الاتصالات السورية المملوكة للدولة، مما يجعل الحكومة السورية شريكا مباشرا في المشروع.
أما نسبة الـ52 بالمئة المتبقية فكانت في حوزة شركة مبهمة تدعى " أرابيان بيزنس كومباني" (ABC)، والتي أنشئت في أغسطس 2020 في منطقة التجارة الحرة بدمشق، حيث كانت متطلبات الإفصاح محدودة.
ورفض مسؤولون سوريون الكشف عن هوية مالك شركة "إيه بي سي" ABC. وفي تصريحات علنية، وصفوها بأنها "شركة وطنية"، مما يعني ضمنا أنها مملوكة لسوريين، دون أن يقولوا المزيد.
لكن وثيقة التسجيل التي حصل عليها معدو التحقيق تظهر أن تلك التصريحات كانت "مضللة".
للوهلة الأولى، لا يعطي تسجيل شركة "إيه بي سي" ABC، الذي تم الحصول عليه من وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية السورية، مؤشرا يذكر على تورط إيران، بينما مساهموها المدرجون، هم رجل أعمال سوري وشركة ماليزية تدعى تيومان جولدن تريجر "Tioman Golden Treasure" تأسست في فبراير 2013.
ويكشف التحقيق أن الشركة الماليزية ليست متخصصة في الاستثمار في مجال الاتصالات. ولديها صلات متعددة بـ"الحرس الثوري".
وتظهر السجلات الماليزية التي أوردها المعدون أنه حتى أغسطس 2019، أي قبل نحو عام من تسجيل "إيه بي سي" ABC ، كانت 99 بالمئة من أسهم شركة "تيومان" مملوكة لضابط في "الحرس الثوري" يخضع لعقوبات أميركية يدعى عظيم مونزاوي.
وفي أمر العقوبات، الذي أصدرته في مايو 2022، وصفت الولايات المتحدة "مونزاوي" بأنه "مسؤول في الحرس الثوري الإيراني يسهل مبيعات النفط نيابة عن الحرس الثوري الإيراني"، بما في ذلك تحديد مدفوعات النفط من شركة الطاقة المملوكة للدولة في فنزويلا، PDVSA.
"واجهة ووهمية"
ولم تنته الصلات بينهم عند هذا الحد. لأن من يملك واحد في المئة المتبقية من أسهم تيومان، وهو ماليزي، وهو أيضا مالك شركة نفط.
في عام 2013، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة "بتروجرين" لعملها كـ"وكيل مشتريات رئيسي" لشركة خاتم الأنبياء، وهي تكتل هندسي إيراني يسيطر عليه "الحرس الثوري".
وهناك سجل منفصل يدرج ماليزياً آخر سكرتيرا لشركة "تيومان". كما تم إدراجه سكرتيرا لشركة بتروغرين، وكذلك لشركة ماليزية أخرى تسمى "غرين ويف للاتصالات".
في عام 2015، اتهمت محكمة مقاطعة مينيسوتا الأميركية شركة "غرين ويف" بالحصول على "تكنولوجيا حساسة خاضعة للمراقبة" من الولايات المتحدة لإيران.
وفي وقت لاحق، قال أحد المتهمين بالجريمة إن هذه التكنولوجيا أرسلت عبر ماليزيا إلى شركة "فانا موج" (Fana Moj)، وهي شركة فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات لتقديمها الدعم لـ"لحرس الثوري". وتمت معاقبة شركة "غرين ويف" نفسها في عام 2018.
وتقول إيرين كينيون، وهي ضابطة استخبارات سابقة في وزارة الخزانة الأميركية ومديرة تقييم المخاطر حاليا في شركة "فايف باي سوليوشنز" الاستشارية، إن "تيومان" لديها العديد من السمات المميزة لشركة وهمية أو شركة واجهة كلاسيكية.
وتوضح: "هدف تجاري غامض، وعناوين متداخلة، وحضور ضئيل على الإنترنت لمسؤوليها الرئيسيين، وتتضمن عددا قليلا من الموظفين، على الرغم من مرور ما يقرب من عقد من الزمان على تأسيسها".
وتضيف كينيون أن كل هذه الصفات مجتمعة تظهر بشكل واضح أنها "شركة وهمية أو شركة واجهة"، في حين أن الروابط المتعددة بين مالكي الشركة مع مونزاوي وغيرها من الكيانات الخاضعة للعقوبات تظهر تورط "إيران" على الأقل، إن لم يكن "الحرس الثوري".
ولم يرد كل من انتهامين ومونزاوي ومحمدي وتشان وممثل عن شركة تيومان على طلب للحصول على تعليق، عبر الهواتف الخاصة بهم والواتس آب ورسائل البريد الإلكتروني.
هل من عائد اقتصادي؟
في غضون ذلك قال مسؤول حكومي سابق على معرفة بقطاع الاتصالات طلب عدم الكشف عن هويته خوفا على سلامته إن شركة "ABC" المالكة للأغلبية في شركة "وفا تيليكوم" قد أنشئت في منطقة التجارة الحرة بدمشق جزئيا لإخفاء تورط طهران.
وأضاف المسؤول السابق "لقد فعلوا كل ما يمكن فعله لإخفاء الملكية الإيرانية".
وأشار المحللون إلى عدة أسباب قد تجعل السلطات الإيرانية حريصة على إخفاء أي استثمار في قطاع الاتصالات السوري، تكمن في تجنب جذب انتباه فارضي العقوبات أو حتى لا تخيف العملاء، الذين قد يكونون حذرين، من استخدام شبكة هاتف تابعة لقوة عسكرية أجنبية.
ويوضح الخبير الاقتصادي، جهاد يازجي "بشكل عام، لم يتحدث الحرس الثوري الإيراني، على حد علمي، علنا عن أي مشروع يشارك فيه في سوريا، وبشكل عام يحرص الإيرانيون على إخفاء أجزاء من عملياتهم في سوريا".
وأضاف "لست مندهشا لأنهم عموما قليلون الظهور" في العلن.
ومع ذلك، فإن سوريا لديها دافع قوي لإظهار امتنانها لإيران بعد أن ساعدت الأسد على تجنب مصير نظرائه في تونس وليبيا واليمن ومصر.
في مايو 2020، قال النائب الإيراني البارز، حشمت الله فلاحت بيشه، إن التكلفة الإجمالية لدعم إيران لسوريا تراوحت بين 20 إلى 30 مليار دولار، وإنهم يتوقعون أن يتم سدادها.
وقد استجاب المسؤولون السوريون لمثل هذه التصريحات، على الأقل في الخطاب الإعلامي. ففي مايو من هذا العام، قال فهد درويش، رئيس غرفة التجارة السورية الإيرانية، لقناة تلفزيونية تديرها الدولة إن "شقيقتنا إيران هي شقيقة في كل شيء".
وأضاف "عندما كنا في حالة حرب، قاتلنا معا. لقد وقفوا معنا طوال الحرب وساندونا في وضعنا الاقتصادي. ومن الطبيعي أن يحصلوا على الأفضلية والأولوية من حيث المشاركة في الاستثمارات".
ولكن من الناحية العملية، لم تكن الأمور دائما بسيطة. فعلى الرغم من أن إيران أقامت مصالح اقتصادية في سوريا، إلا أن المشاركة الأعمق قد تم إعاقتها بسبب العقوبات الغربية والصراع والمنافسة مع الداعم الرئيسي الآخر للأسد، روسيا، للحصول على عقود واستثمارات.
وهناك مؤشرات على أن شركة "وفا تليكوم" قد لا تكون مربحة للغاية. حيث كان من المقرر أصلا أن تبدأ الشركة العمل في نوفمبر من هذا العام. لكنها قالت في سبتمبر إن الإطلاق سيتأخر إلى أجل غير مسمى.
ورغم أن سوريا لديها ما يكفي من المستخدمين لدعم مشغل ثالث، إلا أن الوضع الاقتصادي المتردي يلقي مزيدا من الشكوك حول مقدار الأموال التي لا يزال من الممكن جنيها من هذا القطاع .
واعتبر يونس الكريم، المحلل السياسي السوري المقيم بستراسبورغ، أنه حتى العناصر الأساسية اللازمة لإطلاق شبكة الجيل الخامس 5G، مثل الكهرباء والوقود، تعاني من شح التوفر في السوق المحلي.
وقال الكريم إن "انهيار المستوى المعيشي للسوريين يجعل إمكانية الحصول على خدمة الجيل الخامس نوعا من الترف". وتساءل قائلا: "من سينفق على خدمة اتصالات مثل شبكة الجيل الخامس إن لم يكن قادرا على تأمين احتياجاته الأساسية؟".