جثث قتلى الهجوم بغاز الأعصاب في دوما بالغوطة عام 2013. أرشيف
كانت دوما منذ بداية أحداث الثورة السورية من بين أكبر المدن والمناطق المعارضة للنظام

أثبتت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية للعالم ضمن تقريرها الأخير "حقيقة" عرفها السوريون وعاشها بالتحديد سكان مدينة دوما بريف دمشق، وحتى أن تفاصيلها لم تغب عن أنفاسهم، وفي الوقت الذي أكدت فيه هذه الجهة الدولية استخدام نظام الأسد لغاز الكلور السام في تلك البقعة السكنية عام 2018، وضعت الأمر بعهدة المجتمع الدولي "لاتخاذ إجراءات داخل المنظمة وخارجها".

وعلى مدى الأيام الماضية أثار التقرير الذي "طال انتظاره" الكثير من ردود الفعل الدولية، إذ عبّر وزراء خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا عن "إدانتهم الشديدة" لاستخدام النظام السوري أسلحة كيماوية، مؤكدين التزامهم بمحاسبة مرتكبي هذه الهجمات في سوريا وخارجها، على عكس روسيا حليفة الأسد، التي قالت خارجيتها إن "التقرير يحمل الطابع المفبرك".

في المقابل وسورياً، وفي حين اعتبر حقوقيون أن ما أثبتته المنظمة الدولية "إدانة قوية للنظام السوري المتوحش" وأنه "وثيقة تاريخية" تعزز طريق المحاسبة الطويل، سرعان ما اتجه الأخير لتصدير روايته الرسمية، على لسان مسؤوليه ومن خلال وسائل إعلامه، معتبرا أن "فريق التحقيق وتحديد الهوية" التابع للمنظمة "أنشئ بناء على ضغوط مارستها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لغايات خاصة".

وكان التقرير الذي أصدرته المنظمة قبل أيام قد سبقه تقريران واعتمد على منهجية صارمة ومركّبة وضعت فرضيات متعددة واستندت إلى عدد كبير من الأدلة، وإمكانات مخبرية لا تملكها إلا قلة من الدول.

وعمل "فريق التحقيق وتحديد الهوية" (IIT) التابع لـ"حظر الكيماوي" على تحليل 19 ألف ملف و1.86 تيرابايت، وإجراء مقابلات مع 66 شاهدا وتحليل 70 عينة، وخلص إلى أن طائرة مروحية واحدة على الأقل من طراز Mi-8/17 تابعة لـ"سلاح الجو العربي السوري" وتحت سيطرة "قوات النمر" أقلعت من قاعدة الضمير الجوية، وأسقطت أسطوانتين صفراء تحويان غاز الكلور السام في 7 أبريل 2018.

وجاء في التقرير أن "الأسطوانات أصابت مبنيين سكنيين في وسط دوما، إذ تمزقت الأولى وسرعان ما أطلق غاز الكلور السام بتركيزات عالية جدا، وتناثر بسرعة داخل المبنى، مما أسفر عن مقتل 43 فردا محددين وإصابة العشرات". وبعد ذلك تحطمت الأسطوانة الثانية في شقة، وأطلقت ببطء بعض الكلور "مما أثر بشكل طفيف على أولئك الذين وصلوا أولا إلى مكان الحادث".

وأشار التقرير بوضوح لدور روسيا في العمليات العسكرية بوجود "قوات النمر" التي تدعمها في مطار الضمير العسكري، ومشاركة طائراتها الأجواء السورية فوق دوما في أثناء تنفيذ الهجوم، إضافة إلى دعمها نظام الأسد على مختلف الأصعدة السياسية والدبلوماسية والإعلامية في محاولة لطمس معالم الجريمة.

ماذا يعني الإثبات؟

وهذه ليست أولى الجرائم التي يثبت ضلوع نظام الأسد فيها، بل سبقتها الكثير، وبينما أسفرت هذه الإثباتات عن إدانات دولية واسعة وعززت من جانب آخر مسار المحاسبة والعدالة ومسارات الحل السياسي الأخرى، إلا أنها لم تفض عن واقع جديد، ما جعل سوريين، وخاصة من ذوي الضحايا يعيشون "حالة خذلان".

ولطالما قللت هذه الحالة من أثر أي انتهاك يكشف عنه ويتم إثبات ضلوع النظام السوري فيه، سواء على المستوى السياسي أو القضائي، في مسار يخالف وجهة النظر الخاصة بحقوقيين، وخاصة ممن عملوا خلال السنوات الماضية على إيصال شهود العيان ومن عاصروا الجريمة وعينات مسرحها إلى الجهات الدولية صاحبة القرار.

يُعتبر "مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا" أحد الشركاء الرسميين لفريق التحقيق وتحديد الهوية التابع لمنظمة "حظر الأسلحة الكيماوية"، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"الدفاع المدني السوري" و"الشبكة السورية لحقوق الإنسان".

ويعتبر مدير المركز التوثيقي، نضال شيخاني أن التقرير الأخير لـ"حظر الأسلحة الكيماوية" هو "مرجعية قانونية للآلية الدولية المحايدة المستقلة والخاصة بسوريا".

وهذه الآلية عبارة عن كيان تم تشكيله في 2016 بموجب قرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة لملاحقة مجرمي الحرب في سوريا، والأشخاص المتورطين في الجرائم الأكثر خطورة.

يقول شيخاني لموقع "الحرة": "الآلية مهمتمها تجميع الملفات وترتيبها حسب المعايير الدولية، قبل أن تقدمها لمدعين عامين"، وإن تقرير إثبات ضلوع نظام الأسد في هجوم دوما الكيماوي "يعد مرجعية قانونية لمحاسبة المتورطين مستقبلا".

علاوة على ذلك، يضيف شيخاني أن "إثبات استخدام الكيماوي في دوما بلسان فريق تحديد الهوية وهو تابع لمنظمة حظر الأسلحة يطرح تساؤلات كثيرة على طاولة الدول الأطراف، منها ما يتعلق بأن النظام السوري لايزال يمتلك مخزونا كيماويا".

كما أن تقرير "حظر الكيماوي" سيحرّك ما يسمى بـ"فريق التقيم والنشر" التابع للمنظمة، لمطالبة النظام السوري بالإعلان عن المنشآت والأدوات والمعدات التي تم استخدامها في الهجمات الكيماوية، وفق شيخاني.

وفي شهر مارس 2019 كانت بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة "حظر الأسلحة الكيماوية" قد أصدرت تقريرا، أكدت فيه استخدام مادة "الكلور الجزيئي" خلال هجوم على مدينة دوما، بحسب العينات الطبية والبيئية التي حصلت عليها البعثة خلال تفتيشها للمنطقة المستهدفة، دون تحديد الطرف المسؤول عن الهجوم.

وأشار التقرير، حينها، إلى أن اسطوانتي الغاز اللتين عُثر عليهما في مكان الهجوم ألقيتا على الأرجح من الجو.

بعد ذلك في يوليو 2021 كشفت المنظمة الدولية أن النظام السوري دمر اثنتين من أسطوانات الغاز السام، التي استخدمت في أثناء الهجوم الكيماوي على دوما، في تقرير ثانٍ.

وجاء في التقرير، أن النظام نقل اسطوانتي الغاز اللتين وجدتا في موقع المجزرة، على الرغم من تحذير منظمة حظر الأسلحة بالمساس أو فتح أو نقل أو تغيير الحاويات أو محتوياتها أو نقلها خارج أراضيها، بأي شكل من الأشكال دون الحصول على موافقة خطية مسبقة من الأمانة العامة للمنظمة.

وادعى النظام أن الاسطوانتين دُمرتا، إثر غارة جوية إسرائيلية على نفق كان مغلقا تحت الأرض سابقا في منشأة يشتبه أنها تحوي أسلحة كيماوية على بعد حوالي 60 كيلومترا من المكان الذي فحصت فيه الأدلة، في 8 يونيو 2021.

وبحسب التقرير الثاني، لم تُخطر حكومة النظام السوري الأمانة العامة للمنظمة، بنقل الأسطوانات إلى موقع جديد حتى أبلغت عن تدميرها.

"الروس باتجاهين"

ومنذ تنفيذ الهجوم الكيماوي المثبت على دوما، قبل خمس سنوات، حاولت روسيا حليفة النظام السوري حرف رواية الشهود الذين نقلوا العينات والأدلة في قوافل التهجير، إلى أن تم تقديمها إلى منظمة "حظر الكيماوي".

وبينما نقلت "شهود زور" من دوما إلى لاهاي، ومن ثم عرضت إفاداتهم في مؤتمر صحفي، في العام 2018 أعاد النظام السوري هذه الخطوات في الوقت الحالي، عبر تغطية إعلامية أفردتها وسائل إعلامه يوم الخميس.

ويقول الطبيب السوري محمد كتوب، الذي شهد هجمات الكيماوي في غوطة دمشق الشرقية، إن "هجوم دوما ليس أول جريمة يأتي النظام السوري بشهود زور لدحضها. هو دائما يعتمد هذا الأسلوب".

ويضيف لموقع "الحرة": "لكن هذه المرة يبدو هناك قيادة روسية للموضوع. كثير من الشهود الذين تعرضوا للترهيب كان لديهم معلومات أن الضغط يأتي من قبل أبناء مدينة دوما، المتعاملين بدورهم مع الجنرال ألكسندر زورين بشكل مباشر".

وزورين ضابط روسي كان قد قاد مفاوضات مدن وبلدات الغوطة الشرقية، وصولا إلى نقطة تهجير آلاف السكان إلى شمال سوريا، ومن ثم إعادة السيطرة الأمنية والعسكرية للنظام السوري.

ويوضح كتوب: "القيادة الروسية لحادثة دوما جعلت الترهيب واستخدام الشهود للتلاعب بالحقائق ممنهجة على نحو أكبر، ووصلت إلى عملية نقل الشهود لتقديم شهاداتهم في مقر البعثة الروسية في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية".

ويشير إلى ذلك مدير "الدفاع المدني السوري"، رائد الصالح والذي كان لأعضاء فريقه الإنساني الدور الأبرز في نقل الأدلة والعينات إلى منظمة حظر "الأسلحة الكيميائية"، إذ يقول إن "الروس يحاولون التضليل دائما، وسبق وأن استخدموا ذات الروايات في الهجوم الكيماوي بخان شيخون بريف إدلب وفي اللطامنة وسراقب".

ويضيف الصالح لموقع "الحرة": "في 2018 شكّلت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية فريق التحقيق وتحديد الهوية، وسرعان ما اتجه الروس بعد ذلك لمحاولة اختراق المنظمة وإجبار الشهود على إطلاق تصريحات معينة".

ولا يرى الصالح أن تقرير هجوم دوما الكيماوي وإثبات ضلوع نظام الأسد "ذو مسار سياسي"، حيث أنه "قانوني حقوقي بحث، وهو خطوة في طريق العدالة والمحاسبة".

ويوضح: "التقرير صدر في التوقيت الذي انتهى العمل فيه. كان هناك تحليلات وتحقيقات ولقاءات وشهود. المحققون حللوا 19 ألف ملف، في وقت كان يحاول فيه الروس التضليل واللعب بالوقت ومنع وصول الفرق إلى أماكن الاستهداف".

ماذا بعد الإثبات؟

ومنذ بداية أحداث الثورة السورية وتحوّل الحراك السلمي إلى مسلح انضمت مدينة دوما إلى قائمة المناطق التي حملت قدرا أكبر من الرمزية، كونها كبرى مدن الغوطة الشرقية بريف دمشق التي بقيت خارج سيطرة النظام السوري لسنوات، إلى أن تمكن من دخولها بعد العام 2018. أي في أعقاب تنفيذ الهجوم الكيماوي المثبت.

وتعرضت دوما لهجومين كيماويين من قبل قوات النظام السوري، الأول عام 2013، حيث أجبر المجتمع الدولي النظام حينها على تسليم مخزونه الكيماوي والانضمام إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية، وسط تشكيك دولي بالتزام النظام بالمعاهدة، وهو ما أثبته الهجوم الثاني قبل خمس سنوات، إذ كشف أن النظام لم يلتزم بما وقّع عليه.

عقب الحملة العسكرية العنيفة على الغوطة الشرقية عام 2018، شهدت دوما تهجيرا قسريا لأهلها، بموجب اتفاق تم التوصل إليه بين الجانب الروسي وفصائل المعارضة، يقضي بتسليم المدينة لقوات الأسد مقابل السماح للمقاتلين وذويهم والمدنيين الراغبين بالخروج إلى الشمال السوري.

وكان رأس النظام السوري، بشار الأسد قد أجرى زيارة إلى المدينة في اليوم الأول لتنظيم "الانتخابات الرئاسية"، في شهر يونيو 2021، حيث أدلى بصوته فيها ووجه منها تصريحات، هاجم من خلالها الدول الغربية، واعتبر أن "قيمة آرائها صفر".

ويرى فضل عبد الغني مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" أن التقرير الذي أثبت ضلوع الأسد بهجوم دوما الكيماوي 2018 يتميز عن سابقاته بأنه "احتوى توسع وإشارة للدور الروسي، من خلال ذكر قوات النمر".

كما تميّز من زاوية رسم السيناريوهات، والافتراضات التي وضعها ومن ثم نقضها، وخاصة تلك الخاصة برواية النظام السوري.

ويقول عبد الغني لموقع "الحرة": "منهجية التقرير قد تكون الأعلى والأدق بقليل عن التقارير السابقة أيضا"، مشيرا إلى "أهمية شديدة للغاية وتتعلق به، من زاوية أنه يثبت ضلوع النظام باستخدام الكيماوي في أبريل 2018 أي بعد 5 سنوات من انضمامه لمعاهدة حظر الأسلحة الكيماوية".

"التقرير أثبت مسؤولية النظام القاطعة عن استخدام الأسلحة الكيماوية، وقد صدر من جهة دولية مخولة بهذا الدور، ولا يمكن التشكيك بنتائجها وصحتها". ويوضح الحقوقي السوري: "من هذه النقطة تنبع أهميته وقوته".

من جانب آخر ترتبط أهمية التقرير الحديث بأنه أعاد سوريا إلى الواجهة مجددا، ولاسيما أن الكثير من أسر الضحايا ينتظرون "العدالة والمحاسبة"، فيما يأتي بالتزامن مع محاولات دول لإعادة علاقاتها مع النظام السوري.

ويتابع عبد الغني: "التقرير وإثبات ضلوع الأسد بالهجمات الكيماوية سيعقد هذه المسارات ويصعبها. مهما كان شكل الدول ليس من السهل أن تعيد علاقاتها مع النظام في ظل التقرير الصادر بحقه من قبل جهة دولية".

بدوره يعتبر نضال شيخاني أن التحقيق الخاص بدوما "لفت الكثير من أنظار المجتمع الدولي، وخاصة الدول التي تسعى للتطبيع مع النظام السوري، وتحاول فتح خطوط تقارب".

ويقول شيخاني: "التقرير أغلق هذه الطرق، ووضّح للدول التي تفكّر بالتطبيع أن الأسد مجرم حرب ولا يمكن التعامل معه سياسيا".

وعقد اجتماع في منظمة "حظر الأسلحة الكيماوية"، يوم الأربعاء، من أجل مناقشة التقرير الأخير، ومن المقرر أن يعقد اجتماع آخر يوم الخميس لذات الغرض، إذ يشير شيخاني إلى أن "الدول الأطراف في المنظمة باتت مسؤولة الآن عن وضع مقترح يضمن إخلاء أسلحة الدمار الشامل في سوريا ومحاسبة المتورطين".

"في حال لم يتخذ أي قرار فسيمح لأي دولة في العالم استخدام السلاح الكيماوي. المنظمة فيها 193 دولة طرف انضمت للاتفاقية على أساس منع نقل أو تصنيع أو استخدام أو ابتكار الكيماوي دون التصريح عن ذلك".

ويعقتد شيخاني وهو مدير "مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا" أن الاجتماع المقبل أو السنوي للدول الأطراف في "حظر الكيماوي" سيشهد وضع مقترح جديد للضغط على النظام السوري، من أجل تسليم الأسلحة والإعلان عن المنشآت المخفية.

من جهته يرى الطبيب السوري، محمد كتّوب أن "هناك ما يكفي من التقارير لبناء تحرك في مسارات المساءلة، لكن حتى الآن لا نرى سوى تحقيقات، وسوى الجهود من قبل المنظمات الحقوقية من خلال رفع دعاوى في القضاء الأوروبي".

ويقول الطبيب: "لا يوجد تحرك تجاه المساءلة، ولا أعتقد سنشهد تحرك دولي ما لم يكن هناك رغبة سياسية. يوجد كل الأدوات لهذا التحرك من تقارير إدانة وتحقيقات وقرارات مجلس أمن، لكن لا يوجد رغبة سياسية في بذل جهود أكثر".

ومع ذلك يشير كتّوب إلى أن التقرير الأخير الخاص بهجوم دوما 2018 وبالذات له أهمية كبيرة لعدة أسباب، أهمها "هو إحباط جهود البروباغندا وترهيب الشهود التي يبذلها النظام وحلفائه الروس، والإصرار على إظهار الحقيقة، رغم كل التلاعب الذي قاموا به".

إيران وضعت مواطئ قدم كثيرة لها في سوريا
تُعرف جماعة حزب الله اللبنانية بدعمها للنظام السوري على أصعدة عدة | Source: AFP

قبل أسبوعين، وبينما كان حزب الله يتلقى الضربات الكبيرة في جنوب لبنان راجت معلومات بين أوساط المدنيين في شمال غرب سوريا تفيد بأن الفصائل المسلحة هناك بصدد إطلاق معركة لتوسيع رقعة سيطرتها، وبهدف "اغتنام فرصة الضعف" الذي تعيشه الجماعة اللبنانية، وهي المساندة لقوات النظام السوري في عدة جبهات على الأرض.

ورغم أن تلك المعلومات بقيت في نطاق غير رسمي كان لرواجها تداعيات على الأرض، ووصلت في آخر محطاتها إلى حد اتجاه الجانب الروسي لتنفيذ أكثر من 25 غارة جوية في يوم واحد (الاثنين)، في سلوك أشبه "بالرسائل"، حسبما يقول خبراء ومراقبون لموقع "الحرة".

الغارات لا تزال مستمرة حتى الآن، وهي الأعنف والأشد بعد فترة هدوء استمرت 3 أشهر، وكان قد سبقها اتجاه النظام السوري لاستقدام تعزيزات عسكرية إلى الجبهات التي تفصله مع فصائل المعارضة في شمال سوريا، مما دفع آلاف المدنيين للنزوح خارج مناطقهم الواقعة على خطوط التماس.

ويقول مدير فريق "منسقو الاستجابة" في شمال سوريا، محمد حلاج، لموقع "الحرة" إنهم وثقوا منذ بداية الأول من أكتوبر وحتى السابع من هذا الشهر نزوح 7 آلاف و200 شخص من القرى والبلدات المحاذية لخطوط التماس.

ويضيف أن أسباب النزوح ارتبطت أولا بالمعلومات التي انتشرت عن بوادر حصول عمليات عسكرية في المنطقة بشمال غربي البلاد. وبعدما بدأت الطائرات الروسية شن غاراتها غير المسبوقة منذ 3 أشهر الاثنين ازدادت الحالة على نحو أكبر.

وتسيطر فصائل من المعارضة المسلحة منذ سنوات على مناطق ليست بالكبيرة في شمال غربي البلاد، وتتصدرها "هيئة تحرير الشام" المصنفة على قوائم الإرهاب.

وفي حين أن "تحرير الشام" لم تعلن بشكل رسمي عن نواياها بشأن إطلاق عمل عسكري كانت الأوساط المرتبطة بها تلمح إلى قرب تنفيذ ذلك، وبالشراكة مع فصائل أخرى تنضوي جميعا فيما يعرف بـ"غرفة عمليات الفتح المبين".

ودفع ما سبق النظام السوري لاستقدام قوات إلى نقاطه المنتشرة في شمال غرب سوريا، وتزامن مع ذلك اتجاه وسائل إعلامه إلى الحديث عن "رسائل تحذير من مغبة الإقدام على أي تهور"، على حد تعبير صحيفة "الوطن".

وذكرت الصحيفة في عددها الصادر الاثنين أن "الضربات الجوية الروسية تصب في إطار التحذيرات"، وخصوصا أن "تحرير الشام تعمد إلى حشد مسلحيها على جبهات القتال بهدف شن عدوان واسع".

"فصل جديد من الخوف"

ودائما ما يدفع المدنيون في شمال غرب سوريا ثمن العمليات العسكرية والقصف الروسي المرافق لها، ومنذ سنوات فقد الآلاف منهم أرواحهم ووصل الحال بآخرين للعيش في مخيمات تقع على طول الحدود السورية مع تركيا.

ويشرح الصحفي السوري المقيم في إدلب، عز الدين زكور لموقع "الحرة" الواقع الراهن في الشمال الغربي للبلاد ويقول إن "الأجواء التي تخيم على المنطقة وخاصة في إدلب باتت لا تخرج عن إطار الترقب والحذر".

ويقول إن "التصعيد العسكري من قبل الطائرات الروسية تسبب بقلق كبير للأهالي"، وحتى أن الحالة ذاتها انعكست على صعيد الفصائل العسكرية، من منطلق أن الغارات هي الأشد بعد فترة هدوء استمرت ثلاثة أشهر.

الغارات الروسية التي بلغت يوم الاثنين 25 استهدفت مواقع عدة في ريف محافظات إدلب وحلب واللاذقية.

وبحسب زكور طالت "بنك أهداف قديم"، الأمر الذي يشير بأن ما حصل "كان بمثابة رسائل سياسية أكثر منها عسكرية".

طوال سنوات الحرب الماضية في سوريا أصبحت محافظة إدلب في الشمال الغربي للبلاد الملاذ الأخير للسوريين الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه، وبحسب إحصائيات لمنظمات إنسانية يقيم فيها أكثر من 4 ملايين مدني.

وتخضع المحافظة لاتفاقيات تركية- روسية، تدخل إيران بجزء منها أيضا ضمن تفاهمات "أستانة".

ولا يعرف ما إذا كانت الفصائل العسكرية المعارضة تنوي إطلاق عمل عسكري باتجاه مواقع سيطرة النظام السوري أم لا، ومع ذلك يرى الصحفي السوري أن أي هجمات جديدة على المنطقة وقد تطال الأحياء المدنية ستكون "كارثة مضاعفة".

وتعاني مناطق شمال غرب سوريا من "كارثة مركبّة" بالفعل، كما يشرح الناشط الإنساني، محمد حلاج، مشيرا بمعرض حديثه إلى "انخفاض حجم التمويل المخصص للنازحين وأزمة السكن الحاصلة".

ويقول إنهم يتخوفون من أي عملية عسكرية قد تسفر عن نزوح أكثر من 200 ألف مدني من المناطق القريبة من خطوط التماس ومن مدينة إدلب أيضا المكتظة بالسكان.

"المنطقة لم تعد تحتمل"

وعلى مدى الأيام الماضية كان الآلاف من السوريين الفارين من لبنان قد وصلوا إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة، بجزئيها: ريف حلب ومحافظة إدلب.

ومن شأن أي عملية عسكرية أو حالة تصعيد جديدة أن تهدد أرواح كثر وتسفر عن أزمة إنسانية غير مسبوقة، نظرا للاكتظاظ الحاصل في السكان هناك.

ويضيف الناشط الإنساني حلاج: "هناك خطورة كبيرة على المنطقة من حيث عدد السكان. لم تعد تحتمل".

ويشير إلى أن عامل الخطورة يدعم محركاته على نحو كبير "أزمة ضعف التمويل وانخفاض الدعم"، وقرب دخولنا بفصل الشتاء، فضلا عن أزمة الحصول على منزل والتضخم والغلاء في الأسعار.

المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة في شمال سوريا لا يوجد لها أي منفس تجاري وإنساني سوى مع الجانب التركي.

ورغم أن تلك المناطق ترتبط بعدة معابر حدودية وداخلية ليس من السهل على المدنيين الفرار إلى أي منطقة أخرى، في حالة اندلاع أي عملية عسكرية جديدة.

ويرى الباحث في مركز "حرمون للدراسات المعاصرة"، نوار شعبان أن الغارات التي بدأت روسيا بتنفيذها هي نوع من "عرض العضلات، ولكي تقول إنها تملك السماء ولديها القدرة على تنفيذ ضربات واسعة في جغرافيا مترامية الأطراف وبوقت قليل جدا".

وفي المقابل يعتبرها في حديثه لموقع "الحرة" كـ"رسالة بأن لدى موسكو قوة جوية مؤذية ولا تزال حاضرة في المشهد السوري".

من ناحية أخرى يستبعد شعبان يستبعد أن تكون التعزيزات العسكرية التي استقدمتها قوات النظام السوري إلى المنطقة "هجومية"، ويوضح أنها دفاعية وتذهب أسباب وصولها بعدة اتجاهات.

وقد تكون بغرض تعزيز الجبهات بعد الترويج الحاصل من جانب فصائل المعارضة بشأن الهجوم المرتقب، ويمكن أن تكون جزءا من "محاولة ضبط خطوط التماس بعدما كانت تمسكها أذرع تتبع لحزب الله".

"رسائل إنذار"

يوضح شعبان أن الأهداف التي طالتها الغارات الروسية يوم الاثنين كانت "عشوائية"، مما يدعم فرضية أنها عبارة عن "رسائل إنذار".

وفي حين لا يستبعد أن تكون موسكو تبحث عن جبهة "لكي ترد اعتبارها بعدما انكسرت في عدة جبهات في الساحة الأوكرانية" يشير إلى أن "تاريخ روسيا في سوريا يؤكد أنها تحرق الأرض بكل ما فيها ولو بوجود المدنيين في حال تعرضت للاستفزاز".

ومن جانبه يقول المحلل السياسي المقيم في موسكو، محمود الفندي إن الهجمات الروسية الجديدة على مناطق شمال غرب سوريا "بمثابة ثمار لما روجت له جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) في الأيام الماضية"، في إشارة منه لحالة الترويج بشأن وجود عمل عسكري.

ويعتبر في حديثه لموقع "الحرة" أن الهجمات قد تكون مرتبطة أيضا بما تحدث عنه المسؤولون الروس مؤخرا، إذ ادعوا أن الفصائل في شمال غرب سوريا تتواصل مع المخابرات الأوكرانية لتنفيذ هجمات ضد القوات الروسية في سوريا.

"لا تغيير للسيطرة"

منذ عام 2020 لم تتغير حدود السيطرة بين أطراف النفوذ الفاعلة في سوريا. ويشمل ذلك فصائل المعارضة في شمال سوريا و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي يقودها الأكراد في الشمال الشرقي من البلاد.

وفيما يتعلق بإدلب دائما ما تتجه الأنظار، عند بحث ملفها، إلى الاتفاقيات والتفاهمات التي أبرمتها تركيا مع روسيا، وكان أشهرها في 2020 عندما التقى الرئيسين، فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان.

وما تشهده مناطق شمال غرب سوريا الآن من حالة "عدم يقين" يأتي في ظل غموض يشوب مسار العلاقة بين تركيا وروسيا من جهة وتركيا والنظام السوري من جهة أخرى.

ورغم أن كل من أنقرة ودمشق كانتا اتخذتا مؤخرا خطوات للأمام على صعيد فتح أبواب الحوار لم تصلا إلى نتيجة حتى الآن، في ظل إصرار النظام السوري على شرط انسحاب القوات التركية من سوريا.

وطالما أكد المسؤولون الأتراك وبينهم وزير الخارجية، حقان فيدان أن "فترة الهدوء المستمرة من 6 - 7 سنوات أتاحت للنظام السوري الفرصة لحل بعض مشكلاته السياسية وحل مشكلات البنية التحتية والاقتصاد".

وأضاف في يوليو الماضي: "والآن علينا تحويل هذه الحالة المؤقتة إلى حالة أكثر ديمومة"، مركزاً على ضرورة حل مسألة "الإرهاب" وقضية اللاجئين.

ويعطي ما سبق مؤشرا على عدم وجود أي نية لدى تركيا لتغيير حدود السيطرة على الأرض.

ويعتقد الباحث السياسي والأمني التركي، عمر أوزكيزيلجيك أن "المعارضة السورية وهيئة تحرير الشام لا تملكان القدرة على شن هجوم والنجاح بدون دعم جوي تركي مباشر".

و "لا يزال سلاح الجو الروسي العامل الرئيسي الذي يغير قواعد اللعبة في المنطقة"، بحسب قوله لموقع "الحرة".

النشاط الجوي الروسي الأخير وتعزيزات نظام الأسد وإيران على الخطوط الأمامية محاولة للإشارة إلى أن أولوياتهم ليست محاربة إسرائيل، بل المعارضة السورية، بحسب أوزكيزيلجيك.

ويوضح أن "هذه التطورات تهدف إلى ردع المعارضة السورية عن شن هجوم".

ومع ذلك، فإن العملية التي تقودها تركيا ضد "وحدات حماية الشعب" (العماد العسكري لقسد) قد تكون احتمالا، وتعتمد هذه العملية على التفاهم التركي- الروسي أو التركي- الأميركي.

بوجهة نظر الباحث الأمني التركي "فقد ولت الأيام في سوريا حيث يمكن للجهات المسلحة غير الحكومية تغيير السيطرة الإقليمية".

لكنه يؤكد في المقابل أن ما سبق "لا يعني أن هذه الجهات المحلية لا يمكنها الاستفزاز والتصعيد لجر الجهات الفاعلة الحكومية للمواجهة".

ومن جانبه يقول الباحث شعبان إن "الجميع في سوريا يسير على خيط رفيع جدا.. وقد تتغير كل الحسابات بلحظة واحدة في حال اختل أي شيء".