الليرة السورية- الدولار الأميركي
أصبح الاقتصاد السوري، الذي أصابه الشلل منذ أكثر من عقد، معتمدا على الدولار بشكل متزايد

لم تعد القواعد الخاصة بـ"معركة سعر صرف الليرة" كما يصفها رئيس النظام السوري على حالها بموجب القرارت التي أصدرها المصرف المركزي التابع له، وبعدما كان تداول "الأخضر" والقيمة المحددة له في "السوق السوداء" جرما بحسب قوانين سابقة انقلبت الآية الرسمية وبشكل ضمني، يوم الخميس، إثر "انعطافة" أطلقت تساؤلات عن الأهداف والدوافع.

تمثلت هذه "الانعطافة" برفع "المركزي السوري" سعر صرف دولار الحوالات والصرافة إلى 6650 ليرة سورية، مجاريا بذلك سعر الصرف في السوق السوداء، وهو ما اعتبره محللون اقتصاديون على أنه "اعتراف وانقلاب رسمي"، وخطوة تتناقض مع ما كان سائدا خلال السنوات الماضية، سواء بطريقة التعاطي الخاصة بتدهور العملة أو قياسا بحيثيات القانون رقم 3، الذي يجرّم التعامل بغير الليرة السورية.

وتشير رواية حكومة النظام السوري إلى أن القرار الذي يحمل رقم 144 له عدة أهداف جوهرها "دعم المواطن من خلال سعر صرف عادل، وزيادة المعروض من القطع الأجنبي، ودعم الصناعة والعملية الإنتاجية"، كما قال مدير العمليات المصرفية في المركزي السوري، فؤاد علي. 

كذلك يسعى البنك المركزي من وراء القرار "للحد من السوق السوداء للصرافة وجذب الحوالات منها ومن الدول المجاورة إلى القنوات الرسمية والقانونية عبر تشجيع المواطن للذهاب والتعامل مع السوق الرسمية من خلال إعطائه سعرا مجزيا"، بحسب حديث ذات المسؤول لصحيفة "تشرين" الحكومية".

لكن في المقابل يشير باحثون ومحللون اقتصاديون في حديثهم لموقع "الحرة" إلى أسباب داخلية وخارجية تكمن وراء مجاراة مصرف النظام لسعر صرف السوق السوداء، وبينما تتعلق الأولى بـ"لمسات" تضمن تدفق القطع الأجنبي، تذهب الثانية لما شهده البلدان الجاران العراق ولبنان، مؤخرا.

ماذا يقول الاقتصاديون؟

وجاء قرار المركزي بخصوص خفض قيمة الليرة أمام دولار الحوالات بعد قرارين، برفع سقف السحب النقدي اليومي من الحسابات المصرفية إلى 15 مليون ليرة سورية، وسقف المبالغ المسموح نقلها بين المحافظات السورية (برفقة مسافر). 

كما جاء أيضا في أعقاب تعميم لـ"وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك"، قضى بتسعير المواد الاستهلاكية في الأسواق، وفق فواتير تداولية تحرر من المنتجين وتجار الجملة والمستوردين، في وقت كانت فيه الليرة السورية تدخل بمسار تدهور تدريجي، بينما باتت أسعار السلع في الأسواق "تحلّق عاليا".

ورغم أن هذا التدهور في قيمة العملة ليس بجديد، بل يعود إلى سنوات مضت من عمر الحرب في البلاد، إلا أن المسار المتسارع الذي سجّله مؤخرا أطلق تساؤلات، عن الأسباب التي تقف وراء ما يحصل، و"الحدود" التي قد يستقر عليها سعر الصرف، وما إذا كانت ستكون واضحة، على المدى المنظور.

ولطالما تحدث رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بلغة الاقتصاد، معتبرا أن ما وصفها بـ"معركة سعر الصرف النفسية تقاد من الخارج"، وأن حكومته حققت فيها "إنجازات غير مسبوقة"، لكن الأرقام التي أعلن عنها خلال السنوات الماضية قادت إلى غير ذلك، وصولا إلى الانعطافة التي اتبعها مصرفه المركزي، الخميس. 

يرى المحلل الاقتصادي المختص بالشؤون المصرفية، الدكتور فراس شعبو أن خطوة المركزي بمجاراة سعر الصرف في السوق السوداء "متأخرة جدا"، لكن حكومة النظام لم تقدم عليها "إلا لحرجها من عدم توافر القطع الأجنبي".

ويقول شعبو لموقع "الحرة": "هو اعتراف رسمي من قبل النظام والمصرف المركزي بأن الدولار هو بسعر السوق السوداء وليس كما كان سابقا، وبالتالي هذا يعني أن الأسعار في طور اتجاه أكبر للارتفاع".

ولا يستبعد المحلل الاقتصادي هدفا يتعلق بمحاولة النظام السوري "إعادة الحوالات الخارجية إلى الأروقة الرسمية، حتى يستفيد منها وبشكل أكبر من التجار والصناعيين". 

ويضيف: "منذ 5 سنوات استشعر النظام أهمية هذه التحويلات التي تتجاوز في بعض الأحيان 125 مليون دولار شهريا. هو رقم كبير وليس بقليل في ظل عجز حكومته عن تأمين القطع الأجنبي لتأمين الاحتياجات الأساسية للمواطن، سواء من محروقات وغذاء".

من جانبه يوضح الكاتب المتخصص بالشأن الاقتصادي السوري، إياد الجعفري أن القرار الخاص بإصدار نشرة "حوالات وصرافة" تحدد الدولار بسعر قريب –إلى حد ما- من سعر السوق السوداء، هدفه "جذب القطع الأجنبي الخاص بالحوالات ليمر عبر القنوات الرسمية المرخصة".

وما سبق "يسمح للمركزي بأن يستفيد من هذا القطع في تمويل المستوردين، بعد أن أصبح المُتسرب من الدولار من السوق العراقية واللبنانية، مهددا بالمزيد من الانحسار".

ومع ذلك يقول الجعفري لموقع "الحرة" إن "دولار الحوالات الذي أصبح بـ6650 بعد أن كان بـ 4500 ليرة ما يزال بعيدا عن سعر السوق السوداء الذي تجاوز الـ 6900 ليرة".

ويضيف الكاتب السوري أن هذا الفرق "يجعل إجراء المركزي ذو أثر محدود، لكنه قد يجعل شريحة أكبر من الناس تتلقى حوالاتها عبر القنوات المرخصة، تجنبا للمخاطر الأمنية في السوق السوداء"، فيما "ستبقى الغالبية من الناس، تتلقى حوالاتها عبر القنوات غير الرسمية، لأنها أقرب أكثر للسعر الواقعي في السوق، رغم وجود بعض المخاطر الأمنية جراء ذلك".

"عين على الكبار"

في غضون ذلك وقبل أيام كان "المركزي السوري" قد أصدر قرارا علّق فيه قرارا سابقا كان يلزم المُصدّر بإعادة 50 بالمئة من القطع الأجنبي الناجم عن تصديره، ليبيعه للمركزي بالسعر الرسمي.

ويوضح الكاتب الجعفري أن "هذا التعليق يفيد المصدرين والمستوردين لأنه يسمح لهم بالاستفادة من كامل القطع الأجنبي بدلا من خسارة نصفه لصالح المركزي، بسعر أقل بكثير من السعر الواقعي".

ويضيف أن "هدف المركزي من ذلك، التخفيف من القيود السابقة التي كان يفرضها على نشاط المصدرين والمستوردين، والذي أدى إلى تراجع النشاط التجاري بصورة كبيرة، وإلى شح في توفر السلع الأساسية في الأسواق".

ورغم التغيّر الذي طرأ على نشرة الحوالات والصرافة، إلا أن الدكتور في الاقتصاد، كرم شعار يراه "طفيفا"، موضحا بالقول: "في السابق كان 4500 لكن لم يسلم أحد بهذا السعر، وحتى المكاتب الرسمية".

ويبدو للباحث في حديثه لموقع "الحرة" أن التغير في سعر دولار الحوالات لا ينعكس على الحوالات الفردية، بينما يثير جانب مهم بخصوص الحوالات التجارية والخاصة بالصناعيين، مضيفا: "التغيير سيدفع التجار والصناعيين اتجاه العمل مع المصارف مجددا والابتعاد عن شركات الحوالة"، أي المستوردين والمصدرين.

بدوره يوضح المحلل الاقتصادي، فراس شعبو أن تحويلات الشركات والصناعيين والتجار "أرقامها كبيرة"، وهو ما يطمع له النظام السوري بأن تكون عبر مؤسساته ومصارفه الحكومية، "كي يستفيد منها".

ويقول: "النظام يحاول جعل العمليات التجارية والاستثمارية والتصنيع تمر من مصارفه. وهذا أمر يتيح له عملية ضبط القطع الأجنبي وتحركات الأموال".

"لمسات وغايات أخرى"

وفي عددها الخميس عنونت صحيفة "تشرين" الرسمية بعبارة "القرار الصائب"، في إشارة منها إلى خفض قيمة الليرة أمام دولار الحوالات، بينما أشارت صحيفة "البعث" إلى "مقاربة أكثر واقعية"، وبينما تحدثت عن "تفاؤل بترميم الخزينة" لم تستبعد "المخاوف من الارتدادات".

واعتبرت وزيرة الاقتصاد السابقة، لمياء عاصي أن "الانعكاسات الإيجابية للقرار الأخير تتركز بشكل كبير في جو الارتياح، والانفتاح النسبي الذي بات يشعر به المنتجون والصناعيون، حيث يعالج انخفاض مستوى المبالغ الدولارية لدى المركزي لصالح السوق السوداء ومكاتب الصرافة".

وأضافت أن قيمة الحوالات الخارجية تقدّر بحوالي ستة ملايين دولار يوميا، وهو مبلغ كبير نسبيا، معتبرة أن إعادة الثقة بالنظام المصرفي يعد شرطا أساسيا لبناء اقتصاد قوي.

بدوره رأى الخبير في الشؤون المصرفية عامر شهدا أن القرار "يمكن أن يدفع باتجاه تحقيق موارد جيدة بالقطع الأجنبي، وتاليا الخروج من موضوع المنصة التي تسببت برفع الأسعار بنسبة 25 بالمئة".

ويشير الاستشاري الاقتصادي، يونس الكريم في حديثه لموقع "الحرة" إلى غايات أخرى تقف وراء "الانعطافة الحاصلة"، أولها نية حكومة النظام السوري في "تحرير الأسعار، وتخفيف العبء على الموازنة ودعم العملة".

كما أرادت حكومة النظام السوري "تقليص الفجوة بين السوق السوداء والرئيسية، والاتجاه إلى إلغاء النشرات المصرفية الكثيرة وجعلها اثنتين".

ويقول الكريم إن "السعر الجديد لدولار الحوالات سيؤسس لتدهور جديد لقيمة الليرة في السوق السوداء، فيما سيؤدي إلى ارتفاع في أسعار السلع أيضا ويخلق نوع من التكامل بين بيع الحوالات الخارجية والشركات المصدرة".

وترتبط السياسة الاقتصادية الجديدة، بحسب الاستشاري الاقتصادي بزوجة رأس النظام السوري، أسماء الأسد، والتي تعتمد على نظرية "تحرير الأسعار المراقب وهو خطوة نحو تحريره بالكامل"، فيما تشرف على "المكتب الاقتصادي في القصر الجمهوري".

ويشير الدكتور في الاقتصاد، كرم شعار إلى أن "لمسات أسماء الأسد واضحة، من خلال التحركات العديدة التي نشهدها". ويقول إن "هذه التحركات في غالبها تسعى لتحرير الأسعار وتيسير تعاملات التجار والصناعيين".

ويضيف شعار: "تحديد دولار الحوالات بسعر يجاري السوق السوداء سيساعد المركزي على الحصول على قطع أجنبي أكثر لكن بشكل محدود، لأن المشاكل الموجودة في الاقتصاد هي مشاكل هيكلية ولا ترتبط فقط بسعر صرف المصارف".

ويتابع الباحث: "دور أسماء الأسد مؤخرا في إدارة الاقتصاد والتخطيط له في تصاعد، وأفكارها مرتبطة بفترة عملها في القطاع المالي ببريطانيا. فلسفتها تتعلق بإزالة العوائق للنشاط الاقتصادي، وتبيسط الإجراءات".

وأصبح الاقتصاد السوري، الذي أصابه الشلل منذ أكثر من عقد، معتمدا على الدولار بشكل متزايد إذ يحاول السكان حماية أنفسهم من انخفاض قيمة العملة والتضخم.

وأدى تدهور قيمة الليرة خلال الفترات الماضية إلى ارتفاع أسعار السلع، وفاقم المصاعب بينما يواجه السوريون صعوبة في شراء الطعام والكهرباء وأساسيات أخرى، لاسيما في ظل انعدام المحروقات وتضعضع الدعم المخصص لها، والذي تناقص بالتدريج خلال العامين الماضيين.

ويُستخدم سعر الصرف الرسمي (4522 ليرة للدولار) في التعاملات الرسمية وفي المبادلات المحدودة نسبيا التي تنفذها حكومة النظام السوري، بينما تحسب جميع الأعمال الأخرى بـ"دولار السوق السوداء".

ونادرا ما تكشف حكومة النظام السوري الأسباب الحقيقية للأزمات الاقتصادية الحاصلة في البلاد ومن بينها أزمة العملة، فيما تحمّل كثيرا وباستمرار الدول الغربية والولايات المتحدة مسؤولية ما يحصل، وأن الأمر مرتبط بالعقوبات. 

لكن خبراء الاقتصاد يرون القصة بواقع مختلف، يتعلق بشكل أساسي ببنية النظام السوري، والسياسات التي يسير من خلالها لإدارة البلاد سياسيا واقتصاديا، فضلا عن مفاصل الاقتصاد السوري التي لم يبق منها أي شيء على حاله.

مبنى سكني أصيب بغارة جوية إسرائيلية في ضاحية المزة على المشارف الغربية للعاصمة السورية دمشق
المزة حي سكني في قلب العاصمة دمشق تحول إلى هدف متكرر لإسرائيل

خلال أسبوع واحد فقط قتل 12 مدنيا سوريّا جراء ضربات جوية نسبت لإسرائيل واستهدفت عدة مناطق من البلاد، ووفقا لنشطاء حقوقيين وسكان تحدثوا لموقع "الحرة" لم تكن هذه الحصيلة الأولى من نوعها على صعيد الضحايا من غير المقاتلين أو المنخرطين بأعمال عسكرية، وربما لن تكون الأخيرة أيضا بناء على مسار القصف القائم.

واستهدفت آخر الضربات بناء سكنيا في منطقة تعرف بأبنية الـ14 بحي المزة بدمشق، وأسفرت قبل يومين عن مقتل ما لا يقل عن 8 مدنيين، بينهم 4 أطفال و3 سيدات إحداهن طبيبة، كما أصيب قرابة 11 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، بحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان".

ولم يعرف الهدف الأساسي المراد من القصف، لكن دائما ما يسود اعتقاد تدعمه معطيات بأنه يتمثل بقيادي أو شخصية فاعلة تتبع إما لـ"الحرس الثوري" الإيراني أو لحزب الله اللبناني، وذلك استنادا للحالة التي كانت عليها ضربات سابقة شهدتها سوريا بشكل متكرر، وحي المزة على الخصوص.  

المزة هو حي سكني في قلب العاصمة دمشق ويعتبر من الأحياء الفارهة فيها، وكان تحول خلال الأشهر الماضية إلى هدف متكرر لإسرائيل. وفي حين قتل إثر القصف المتكرر قادة من حزب الله وإيران كان للمشهد جانب مأساوي على الطرف الآخر، وارتبط بالأساس بالضحايا المدنيين.

ماذا يقول القانون الدولي؟  

ونادرا ما تعلّق إسرائيل على الضربات التي تنسب إليها وتضرب أهدافا في مناطق مأهولة بالسكان، ومن جانب النظام السوري لم يخرج الموقف الخاص به مؤخرا عن نطاق التنديد والإعلان عن مصادر الإطلاق وأعداد الجرحى والقتلى من المدنيين فقط.

لكن وفي أعقاب كل قصف تشير وسائل إعلام إسرائيلية وإيرانية إلى أن الضربات تطال أهدافا عسكرية تمثلها شخصيات، وفي أكثر من مرة أقر "الحرس الثوري" بمقتل قادة لديه، آخرهم "المستشار" ماجد ديواني، الذي قتل بضربة استهدفت منطقة المزة، في الثالث من سبتمبر الحالي.  

وفي القصف ذاته ذكرت الرواية الرسمية في دمشق أنه أسفر عن مقتل 3 مدنيين، بينهم الإعلامية في التلفزيون السوري صفاء أحمد.

ويشرح الحقوقي السوري محمد العبد الله، وهو مدير مركز "العدالة والمساءلة" في واشنطن، أن القانون الدولي لا ينص على أن عدد الضحايا المدنيين في أي ضربة عسكرية "يجب أن يكون صفر".

لكنه يوضح في المقابل لموقع "الحرة" أن القانون ذاته يحدد معايير لهذه الضربات.  

ومن بين تلك المعايير: يجب أن يكون الهدف عسكريا مشروعا، وأن يكون الطرف المهاجم أخذ الحيطة والحذر للتمييز بين المدنيين والمقاتلين في مكان الضربة.  

ويجب أن يكون هناك جدوى عسكرية من الهدف، وأن يكون هناك نسبة وتناسب بالهدف والسلاح المستخدم، وألا يتسبب بـ"معاناة غير ضرورية".

ماذا عن وضع سوريا؟

في ما يتعلق بالضربات المرتبطة بإسرائيل في سوريا يقول الحقوقي السوري إنه يجب تحليل كل ضربة وحادثة على حدة، وفقا للمعايير المذكورة سابقا والتي يحددها القانون الدولي.

وعند التحليل يجب الإجابة عن تساؤلات من قبيل: هل الهدف عسكري مشروع؟ هل الشخصية المستهدفة استخباراتية؟ هل تم نسف المبنى بأكمله لقتل الشخص أو استهداف الشقة أو المكتب الموجود فيه؟ ما حجم المتفجرات ونوعها؟ وما زاوية تسليط الصواريخ، كون هذه العملية يكون لها دور في انفجار غرفة أو طابق بأكمله؟  

وبعد ذلك يضيف العبد الله أنه تبدأ عملية معاينة الحالات مع الهدف العسكري.

الحقوقي السوري يطرح مثلا تقريبيا لمعاينة الحالات واستخلاص النتائج بقوله: "عندما يقتل شخص واحد برتبة عسكرية متدنية وفي مقابله 20 مدنيا فنحن هنا أمام جريمة حرب".

وفي المقابل "إذا قتلت شخصية قيادية لها وزن استخباراتي وذات جدوى عسكرية كبيرة وراح في مقابلها 3 مدنيين فلن تجد أي محكمة في ذلك جريمة حرب"، بحسب المثال الثاني الذي طرحه العبد الله.

يؤكد الحقوقي السوري أن القانون الدولي ينص أنه على عاتق الطرف الذي قام بالضربة التحقيق بمسألة سقوط مدنيين إن استطاع ونشر اعتذار وتعويض الضحايا، ويشير إلى أن "مقتل مدنيين جراء ضربات لا يعتبر جريمة حرب في حال تم إثبات أن الطرف المهاجم كان ملتزما بالمعايير المطبقة".

في غالب الأحيان تنشر القليل من التسجيلات المصورة والصور التي توثق مكان الضربات الإسرائيلية على شقة أو بناء، وتكون في معظمها على وسائل التواصل الاجتماعي.  

ومع ذلك كانت ضربة المزة الأخيرة استهدفت تجمعا سكنيا كبيرا يعرف محليا بمباني الـ14، وأظهر بث مباشر للتلفزيون السوري آثار دمار في شقتين وأضرار مادية في السيارات المركونة هناك.  

ويقول العبد الله إن الفيديوهات الشحيحة التي انتشرت لم تظهر أنه "تم استخدام عنف غير مبرر وتهديم مبانٍ عن بكرة أبيها".

لكن في المقابل لم يظهر نوع الصواريخ والأسلحة وما إذا كان متناسبا مع الأهداف.  

وعلاوة على ذلك، تجدر الإشارة بحسب الحقوقي السوري إلى أنه حتى الآن لم نصل إلى طبيعة الأهداف، والتي غالبا ما تكون مجهولة، إلا إذا تم الإعلان عن تصفية شخص يتولى منصبا كملحق أمني أو قيادي في حزب الله أو إيران.  

"أضرار جانبية"

رغم أن منطقة المزة تركزت فيها غالبية الاستهدافات التي أسفرت عن ضحايا مدنيين وقتلى من إيران وحزب الله كانت حوادث مشابهة حصلت في مدن سورية أخرى كحمص الواقعة وسط البلاد.  

وفي هذه المدينة أسفر قصف نسب لإسرائيل، في فبراير 2024، عن انهيار بناء كامل قبالة الملعب البلدي، ومقتل 4 شبان بداخل شقة وامرأة مسنة تدعى نبيلة رسلان مع ابنها الشاب محمد الحسن الموصلي.

وفقا لـ"الشبكة السورية لحقوق الإنسان" لم تنشر القوات الإسرائيلية أي تحذيرات للمدنيين بمغادرة المباني قبل استهدافها. كما لم يتم تمييز المدنيين عن المقاتلين في هجوم المزة الأخير، ولم تنشر أيضا أي صور أو فيديوهات تثبت وجود مقاتلين أو معدات عسكرية في المنطقة المستهدفة.  

ويوضح العبد الله أنه من الناحية النظرية يستطيع أهالي الضحايا المطالبة بالتعويضات.

لكن عمليا فإن الأمر يكاد يكون مستحيلا، إذ لا يستطيع أهالي الضحايا الوصول للقضاء الدولي أو الإسرائيلي، وحتى أنهم لا يستطيعون قبول تعويضات من إسرائيل بسبب وضع الحرب، ولاعتبار يتعلق بشق قانوني في سوريا.  

وفي المقابل يعيد التذكير بأن "مبدأ النسبة والتناسب" يحظر عموما الضربات التي من المتوقع أن يكون فيها ضحايا مدنيون أو جرحى أو تحدث ضررا بالأعيان المدنية، وذلك بصيغة لا تكون متناسبة مع الجدوى العسكرية من الضربة.  

ويكمل حديثه بالتأكيد على الشق المتعلق بماهية الهدف، قائلا: "أن تضرب مجندا إيرانيا مقيما في بناء وتقتل 20 مدنيا فهذا الأمر جريمة حرب.. أن تضرب غرفة بصاروخ نائب فيلق القدس و3 مدنيين سيتم اعتبار الضحايا أضرارا جانبية، ولن ترى أي محكمة في الحادثة بعد مراجعتها جريمة حرب".

"تحوّل بعد حرب غزة"

على مدى السنوات الماضية كانت إسرائيل تنفذ سلسلة ضربات جوية وصاروخية، وتستهدف بها مواقع ينتشر فيها عناصر وقادة إيرانيون وآخرون يتبعون لميليشياتهم ولحزب الله اللبناني.  

وكان الإسرائيليون يستهدفون أيضا طرق إمداد الأسلحة والذخائر التي تصل إلى حزب الله، وتبدأ خيوطها الأولى من إيران وتمر من الأراضي السورية.  

لكن بعد اندلاع الحرب في غزة طرأ تحوّل كبير على شكل تلك الضربات، إذ بدأت تطال قادة كبارا في "الحرس الثوري" داخل شقق سكنية يقيمون فيها، سواء في أحياء منطقة المزة أو حيث تتركز ميليشياتهم في منطقة السيدة زينب ومواقع أخرى من البلاد.  

وفي فبراير الماضي قتل 6 قادة من "الحرس الثوري" بضربة جوية نسبت لإسرائيل واستهدفت شقة في منطقة المزة فيلات، وكان أبرزهم مسؤول استخبارات "الحرس الثوري"، صادق أوميد زادة، الذي كان يتحدث العربية ولم يكن السكان في محيطه يعرفون المنصب الذي يشغله بالتحديد، وفق الصحفي في موقع "صوت العاصمة"، خليل سامح.

وقبل أسبوع أسفرت ضربة حصلت في منطقة المزة أيضا عن مقتل حسن جعفر قصير صهر الأمين العام الراحل لحزب الله، حسن نصر الله.

يضيف سامح لموقع "الحرة" أنه وفي ظل تتالي الضربات الإسرائيلية وسقوط ضحايا مدنيين بات الخوف أكثر ما يخيّم على مشهد الحياة اليومية الخاص بأهالي العاصمة السورية دمشق.

كما يوضح بالقول إن هذا الخوف "لا يرتبط من خشية وجود قيادي إيراني أو من حزب الله أو ضابط ارتباط سوري بالقرب من السكان فحسب، بل وصل خلال الأيام الماضية إلى حد الخشية من الوقوف بجانب سيارات مشبوهة يعتقد أنها تتبع لشخصيات نافذة من حزب الله".  

"قد تستهدف طائرة مسيرة إسرائيلية تلك السيارات في أي لحظة"، على حد وصف الصحفي.

ويشير إلى أن وجود قادة إيرانيين أو من حزب الله داخل الشقق السكنية في العاصمة غالبا ما يكون في إطار عملية تأجير يقودها وسطاء.  

وهؤلاء الوسطاء سوريون وبعد إبرام عقد التأجير باسمهم يتجهون لاحقا إلى تسليم الشقق لـ"الغرباء".  

ويتابع سامح: "توجد مكاتب عقارية في دمشق تسير أمور الأشخاص الغرباء وبنفس الوقت هناك مكاتب عقارية لا تعرف من استأجر المنزل في وقت لاحق!".  

كما يشير إلى أن "عقود تأجير المنازل والشقق في سوريا لا تتم مع شخص أجنبي إلا بموافقة أمنية".

من يتحمل المسؤولية؟  

يرى بروس فاين، المساعد السابق لنائب وزير العدل الأميركي والخبير القانوني أن إسرائيل من المحتمل أنها "قد ارتكبت جرائم حرب من خلال ضربات تعرض حياة المدنيين للخطر، وتسبب دمارا أيضا على نطاق واسع".

ومن جانبه يشير رئيس مركز الشرق الأوسط والقانون الدولي في كلية سكاليا للقانون بجامعة جورج ماسون، يوجين كونتوروفيتش إلى أن "استهداف الأفراد العسكريين مسموح به بطبيعة الحال بموجب القانون الدولي".

ويقول لموقع "الحرة" إن "الخسائر المدنية التي تحدث نتيجة لضربة قانونية على أهداف عسكرية لا تجعل الضربة غير قانونية ـ فلم تخض أي حرب دون وقوع خسائر مدنية".

كما يعتبر أنه "من الواضح تماما أن مثل هذه الضربات قانونية، خاصة بالنظر إلى أهمية الأهداف"، وبالنظر إلى أن كل من إيران وحزب الله في حالة حرب مع إسرائيل.

وفي مقابل الضربات والطرف المنفذ لها يحظر القانون الدولي بشكل واضح في النزاعات الدولية وغير الدولية استخدام المدنيين كدروع بشرية، كما يوضح الحقوقي السوري، محمد العبد الله.

المصطلح المذكور يعني "التموضع المتعمد لأهداف عسكرية بين مدنيين أو بين أشخاص عاجزين عن القتال، لتحقيق هدف واضح هو منع الطرف الآخر من ضرب هذه الأهداف العسكرية".  

وبالتدقيق فيه لاستخلاص النتائج يثار تساؤل مفاده: "هل هناك نية واضحة من إسكان هؤلاء الأشخاص وإسكانهم في الشقق للحيلولة دون استهدافهم لردع الطرف الآخر بالمعركة وهي إسرائيل؟

ويستبعد الحقوقي السوري أن يكون هدف إقامة الأشخاص التابعين لإيران وحزب الله بين الأحياء السكنية لردع إسرائيل عن تنفيذ الضربات.  

ويرى أنه "يتم وضعهم في الأبنية السكنية لحماية هوياتهم"، رغم أن الاختراق الاستخباراتي يبدو وأنه يكشف كل هذه العملية.  

ويعتقد الباحث السوري في مركز "حرمون للدراسات المعاصرة"، نوار شعبان أن "الهدف من إقامة قادة وعناصر حزب الله وإيران في مناطق مدنية وخاصة في المزة هو التخفي".

ويضاف إلى ذلك هدف آخر يذهب باتجاه محاولة "الانخراط في بيئة غير مكشوفة كما الحال في منطقة السيدة زينب بدمشق مثلا".

ويوضح شعبان أن "الضربات الإسرائيلية الحاصلة تركز على استهداف هدف معين وليس إنهاء التواجد الإيراني والخاص بحزب الله في المنطقة، وهو الأمر الذي يعيه الطرفان".  

ويشير إلى أن "عملية تأجير الشقق السكنية أو إقامة القادة والعناصر فيها يتم إما عبر سماسرة ووسطاء أو من خلال دفع مبالغ مالية طائلة تزيد عن تلك التي يدفعها المقيمون العاديون بغرض السكن".

ماذا يقول القانون الدولي الإنساني العرفي؟

وتضم المزة بدمشق سفارات عدة دول.

وغالبية الأهداف التي تضربها إسرائيل في هذا الحي لا تبعد كثيرا عن مطار المزة العسكري وفرع التحقيق الخاصة بالمخابرات الجوية والقصر الجمهوري الذي يقيم فيه رئيس النظام السوري، بشار الأسد.  

وبعد اندلاع الحرب في غزة بأشهر كانت إسرائيل استهدفت مبنى القنصلية الإيرانية الواقع في منطقة المزة أوتوستراد، مما أسفر عن مقتل قادة كبار أبرزهم محمد رضا زاهدي ومدنيين كانوا بالقرب من البناء المستهدف.  

وإلى جانب المعايير المذكورة سابقا التي يحددها القانون الدولي يحظر القانون الدولي الإنساني العرفي بشكل مباشر استخدام المدنيين كدروع بشرية سواء كان النزاع المسلح دوليا أو غير دولي، وتوجد مسؤولية جنائية في هذا الموضوع، وفق حديث الحقوقي العبد الله.

ويشرح من جانب آخر أن "الانتهاك لمنع استخدام المدنيين كدروع بشرية لا يخول ويسمح للطرف الآخر أيضا باستهداف الأهداف العسكرية وإلحاق ضرر بالمدنيين عن علم".

"حزب الله ارتكب جريمة قانونية بتموضعه وبناء مقر أمني تحت مباني سكنية لكن الأمر لا يبيح لإسرائيل تحويل المباني لتراب". وفي هذه الحالة يكون الطرفان قد ارتكبا انتهاكا، بحسب الحقوقي.