لم تعد القواعد الخاصة بـ"معركة سعر صرف الليرة" كما يصفها رئيس النظام السوري على حالها بموجب القرارت التي أصدرها المصرف المركزي التابع له، وبعدما كان تداول "الأخضر" والقيمة المحددة له في "السوق السوداء" جرما بحسب قوانين سابقة انقلبت الآية الرسمية وبشكل ضمني، يوم الخميس، إثر "انعطافة" أطلقت تساؤلات عن الأهداف والدوافع.
تمثلت هذه "الانعطافة" برفع "المركزي السوري" سعر صرف دولار الحوالات والصرافة إلى 6650 ليرة سورية، مجاريا بذلك سعر الصرف في السوق السوداء، وهو ما اعتبره محللون اقتصاديون على أنه "اعتراف وانقلاب رسمي"، وخطوة تتناقض مع ما كان سائدا خلال السنوات الماضية، سواء بطريقة التعاطي الخاصة بتدهور العملة أو قياسا بحيثيات القانون رقم 3، الذي يجرّم التعامل بغير الليرة السورية.
وتشير رواية حكومة النظام السوري إلى أن القرار الذي يحمل رقم 144 له عدة أهداف جوهرها "دعم المواطن من خلال سعر صرف عادل، وزيادة المعروض من القطع الأجنبي، ودعم الصناعة والعملية الإنتاجية"، كما قال مدير العمليات المصرفية في المركزي السوري، فؤاد علي.
كذلك يسعى البنك المركزي من وراء القرار "للحد من السوق السوداء للصرافة وجذب الحوالات منها ومن الدول المجاورة إلى القنوات الرسمية والقانونية عبر تشجيع المواطن للذهاب والتعامل مع السوق الرسمية من خلال إعطائه سعرا مجزيا"، بحسب حديث ذات المسؤول لصحيفة "تشرين" الحكومية".
لكن في المقابل يشير باحثون ومحللون اقتصاديون في حديثهم لموقع "الحرة" إلى أسباب داخلية وخارجية تكمن وراء مجاراة مصرف النظام لسعر صرف السوق السوداء، وبينما تتعلق الأولى بـ"لمسات" تضمن تدفق القطع الأجنبي، تذهب الثانية لما شهده البلدان الجاران العراق ولبنان، مؤخرا.
ماذا يقول الاقتصاديون؟
وجاء قرار المركزي بخصوص خفض قيمة الليرة أمام دولار الحوالات بعد قرارين، برفع سقف السحب النقدي اليومي من الحسابات المصرفية إلى 15 مليون ليرة سورية، وسقف المبالغ المسموح نقلها بين المحافظات السورية (برفقة مسافر).
كما جاء أيضا في أعقاب تعميم لـ"وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك"، قضى بتسعير المواد الاستهلاكية في الأسواق، وفق فواتير تداولية تحرر من المنتجين وتجار الجملة والمستوردين، في وقت كانت فيه الليرة السورية تدخل بمسار تدهور تدريجي، بينما باتت أسعار السلع في الأسواق "تحلّق عاليا".
ورغم أن هذا التدهور في قيمة العملة ليس بجديد، بل يعود إلى سنوات مضت من عمر الحرب في البلاد، إلا أن المسار المتسارع الذي سجّله مؤخرا أطلق تساؤلات، عن الأسباب التي تقف وراء ما يحصل، و"الحدود" التي قد يستقر عليها سعر الصرف، وما إذا كانت ستكون واضحة، على المدى المنظور.
ولطالما تحدث رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بلغة الاقتصاد، معتبرا أن ما وصفها بـ"معركة سعر الصرف النفسية تقاد من الخارج"، وأن حكومته حققت فيها "إنجازات غير مسبوقة"، لكن الأرقام التي أعلن عنها خلال السنوات الماضية قادت إلى غير ذلك، وصولا إلى الانعطافة التي اتبعها مصرفه المركزي، الخميس.
يرى المحلل الاقتصادي المختص بالشؤون المصرفية، الدكتور فراس شعبو أن خطوة المركزي بمجاراة سعر الصرف في السوق السوداء "متأخرة جدا"، لكن حكومة النظام لم تقدم عليها "إلا لحرجها من عدم توافر القطع الأجنبي".
ويقول شعبو لموقع "الحرة": "هو اعتراف رسمي من قبل النظام والمصرف المركزي بأن الدولار هو بسعر السوق السوداء وليس كما كان سابقا، وبالتالي هذا يعني أن الأسعار في طور اتجاه أكبر للارتفاع".
ولا يستبعد المحلل الاقتصادي هدفا يتعلق بمحاولة النظام السوري "إعادة الحوالات الخارجية إلى الأروقة الرسمية، حتى يستفيد منها وبشكل أكبر من التجار والصناعيين".
ويضيف: "منذ 5 سنوات استشعر النظام أهمية هذه التحويلات التي تتجاوز في بعض الأحيان 125 مليون دولار شهريا. هو رقم كبير وليس بقليل في ظل عجز حكومته عن تأمين القطع الأجنبي لتأمين الاحتياجات الأساسية للمواطن، سواء من محروقات وغذاء".
من جانبه يوضح الكاتب المتخصص بالشأن الاقتصادي السوري، إياد الجعفري أن القرار الخاص بإصدار نشرة "حوالات وصرافة" تحدد الدولار بسعر قريب –إلى حد ما- من سعر السوق السوداء، هدفه "جذب القطع الأجنبي الخاص بالحوالات ليمر عبر القنوات الرسمية المرخصة".
وما سبق "يسمح للمركزي بأن يستفيد من هذا القطع في تمويل المستوردين، بعد أن أصبح المُتسرب من الدولار من السوق العراقية واللبنانية، مهددا بالمزيد من الانحسار".
ومع ذلك يقول الجعفري لموقع "الحرة" إن "دولار الحوالات الذي أصبح بـ6650 بعد أن كان بـ 4500 ليرة ما يزال بعيدا عن سعر السوق السوداء الذي تجاوز الـ 6900 ليرة".
ويضيف الكاتب السوري أن هذا الفرق "يجعل إجراء المركزي ذو أثر محدود، لكنه قد يجعل شريحة أكبر من الناس تتلقى حوالاتها عبر القنوات المرخصة، تجنبا للمخاطر الأمنية في السوق السوداء"، فيما "ستبقى الغالبية من الناس، تتلقى حوالاتها عبر القنوات غير الرسمية، لأنها أقرب أكثر للسعر الواقعي في السوق، رغم وجود بعض المخاطر الأمنية جراء ذلك".
"عين على الكبار"
في غضون ذلك وقبل أيام كان "المركزي السوري" قد أصدر قرارا علّق فيه قرارا سابقا كان يلزم المُصدّر بإعادة 50 بالمئة من القطع الأجنبي الناجم عن تصديره، ليبيعه للمركزي بالسعر الرسمي.
ويوضح الكاتب الجعفري أن "هذا التعليق يفيد المصدرين والمستوردين لأنه يسمح لهم بالاستفادة من كامل القطع الأجنبي بدلا من خسارة نصفه لصالح المركزي، بسعر أقل بكثير من السعر الواقعي".
ويضيف أن "هدف المركزي من ذلك، التخفيف من القيود السابقة التي كان يفرضها على نشاط المصدرين والمستوردين، والذي أدى إلى تراجع النشاط التجاري بصورة كبيرة، وإلى شح في توفر السلع الأساسية في الأسواق".
ورغم التغيّر الذي طرأ على نشرة الحوالات والصرافة، إلا أن الدكتور في الاقتصاد، كرم شعار يراه "طفيفا"، موضحا بالقول: "في السابق كان 4500 لكن لم يسلم أحد بهذا السعر، وحتى المكاتب الرسمية".
ويبدو للباحث في حديثه لموقع "الحرة" أن التغير في سعر دولار الحوالات لا ينعكس على الحوالات الفردية، بينما يثير جانب مهم بخصوص الحوالات التجارية والخاصة بالصناعيين، مضيفا: "التغيير سيدفع التجار والصناعيين اتجاه العمل مع المصارف مجددا والابتعاد عن شركات الحوالة"، أي المستوردين والمصدرين.
بدوره يوضح المحلل الاقتصادي، فراس شعبو أن تحويلات الشركات والصناعيين والتجار "أرقامها كبيرة"، وهو ما يطمع له النظام السوري بأن تكون عبر مؤسساته ومصارفه الحكومية، "كي يستفيد منها".
ويقول: "النظام يحاول جعل العمليات التجارية والاستثمارية والتصنيع تمر من مصارفه. وهذا أمر يتيح له عملية ضبط القطع الأجنبي وتحركات الأموال".
"لمسات وغايات أخرى"
وفي عددها الخميس عنونت صحيفة "تشرين" الرسمية بعبارة "القرار الصائب"، في إشارة منها إلى خفض قيمة الليرة أمام دولار الحوالات، بينما أشارت صحيفة "البعث" إلى "مقاربة أكثر واقعية"، وبينما تحدثت عن "تفاؤل بترميم الخزينة" لم تستبعد "المخاوف من الارتدادات".
واعتبرت وزيرة الاقتصاد السابقة، لمياء عاصي أن "الانعكاسات الإيجابية للقرار الأخير تتركز بشكل كبير في جو الارتياح، والانفتاح النسبي الذي بات يشعر به المنتجون والصناعيون، حيث يعالج انخفاض مستوى المبالغ الدولارية لدى المركزي لصالح السوق السوداء ومكاتب الصرافة".
وأضافت أن قيمة الحوالات الخارجية تقدّر بحوالي ستة ملايين دولار يوميا، وهو مبلغ كبير نسبيا، معتبرة أن إعادة الثقة بالنظام المصرفي يعد شرطا أساسيا لبناء اقتصاد قوي.
بدوره رأى الخبير في الشؤون المصرفية عامر شهدا أن القرار "يمكن أن يدفع باتجاه تحقيق موارد جيدة بالقطع الأجنبي، وتاليا الخروج من موضوع المنصة التي تسببت برفع الأسعار بنسبة 25 بالمئة".
ويشير الاستشاري الاقتصادي، يونس الكريم في حديثه لموقع "الحرة" إلى غايات أخرى تقف وراء "الانعطافة الحاصلة"، أولها نية حكومة النظام السوري في "تحرير الأسعار، وتخفيف العبء على الموازنة ودعم العملة".
كما أرادت حكومة النظام السوري "تقليص الفجوة بين السوق السوداء والرئيسية، والاتجاه إلى إلغاء النشرات المصرفية الكثيرة وجعلها اثنتين".
ويقول الكريم إن "السعر الجديد لدولار الحوالات سيؤسس لتدهور جديد لقيمة الليرة في السوق السوداء، فيما سيؤدي إلى ارتفاع في أسعار السلع أيضا ويخلق نوع من التكامل بين بيع الحوالات الخارجية والشركات المصدرة".
وترتبط السياسة الاقتصادية الجديدة، بحسب الاستشاري الاقتصادي بزوجة رأس النظام السوري، أسماء الأسد، والتي تعتمد على نظرية "تحرير الأسعار المراقب وهو خطوة نحو تحريره بالكامل"، فيما تشرف على "المكتب الاقتصادي في القصر الجمهوري".
ويشير الدكتور في الاقتصاد، كرم شعار إلى أن "لمسات أسماء الأسد واضحة، من خلال التحركات العديدة التي نشهدها". ويقول إن "هذه التحركات في غالبها تسعى لتحرير الأسعار وتيسير تعاملات التجار والصناعيين".
ويضيف شعار: "تحديد دولار الحوالات بسعر يجاري السوق السوداء سيساعد المركزي على الحصول على قطع أجنبي أكثر لكن بشكل محدود، لأن المشاكل الموجودة في الاقتصاد هي مشاكل هيكلية ولا ترتبط فقط بسعر صرف المصارف".
ويتابع الباحث: "دور أسماء الأسد مؤخرا في إدارة الاقتصاد والتخطيط له في تصاعد، وأفكارها مرتبطة بفترة عملها في القطاع المالي ببريطانيا. فلسفتها تتعلق بإزالة العوائق للنشاط الاقتصادي، وتبيسط الإجراءات".
وأصبح الاقتصاد السوري، الذي أصابه الشلل منذ أكثر من عقد، معتمدا على الدولار بشكل متزايد إذ يحاول السكان حماية أنفسهم من انخفاض قيمة العملة والتضخم.
وأدى تدهور قيمة الليرة خلال الفترات الماضية إلى ارتفاع أسعار السلع، وفاقم المصاعب بينما يواجه السوريون صعوبة في شراء الطعام والكهرباء وأساسيات أخرى، لاسيما في ظل انعدام المحروقات وتضعضع الدعم المخصص لها، والذي تناقص بالتدريج خلال العامين الماضيين.
ويُستخدم سعر الصرف الرسمي (4522 ليرة للدولار) في التعاملات الرسمية وفي المبادلات المحدودة نسبيا التي تنفذها حكومة النظام السوري، بينما تحسب جميع الأعمال الأخرى بـ"دولار السوق السوداء".
ونادرا ما تكشف حكومة النظام السوري الأسباب الحقيقية للأزمات الاقتصادية الحاصلة في البلاد ومن بينها أزمة العملة، فيما تحمّل كثيرا وباستمرار الدول الغربية والولايات المتحدة مسؤولية ما يحصل، وأن الأمر مرتبط بالعقوبات.
لكن خبراء الاقتصاد يرون القصة بواقع مختلف، يتعلق بشكل أساسي ببنية النظام السوري، والسياسات التي يسير من خلالها لإدارة البلاد سياسيا واقتصاديا، فضلا عن مفاصل الاقتصاد السوري التي لم يبق منها أي شيء على حاله.