ليلةٌ ثانية من كارثة الزلزال المدمّر تحلّ على مناطق شمال وغرب سوريا، ومع استمرار فرق البحث والإنقاذ بعمليات انتشال الضحايا وإخلاء الجرحى تواجه الكثير من العائلات حالة من التيه الكامل المشبّع بالألم والفراق والعجر.
وفي حين ما زال كثيرٌ من أفرادها يبيتون في العراء وداخل السيارات على أطراف الطرقات، سلك آخرون طريق نزوحٍ جديد يحمل "مفارقة لم تكن في الحسبان"، إذ قصدوا أقربائهم ومعارفهم القاطنين في المخيمات.
على مدى السنوات الماضية من الحرب كان للمخيمات العشوائية والنظامية في شمال غربي البلاد صورة واحدة لم تخرج منها إلا مشاهد الأسى والحال المنهك، لكن ومع حلول الكارثة التي لم تُبقٍ أي شيء على حاله فوق الأرض باتت هذه الرقع القماشية ملاذا آمنا لمن بات عاجزا عن تأمين منزل بعد انهيار مسكنه، أو الخائف من العودة إلى الجدران التي باتت متصدعة، بعدما كانت تأويه.
أحمد السليمان، أحد السكان السوريين في شمال غرب البلاد كان قد نال نصيبه من الزلزال المدمّر، فجر الاثنين، إذ انهار المنزل الذي كان يسكن فيه في مدينة حارم بريف إدلب الشمالي بالكامل، وبينما قضى ليلته الأولى داخل سيارته الخاصة، ومثل كثيرين توجه، عصر الثلاثاء، إلى أحد معارفه في مخيمات دير حسان الواقعة على الحدود، لأن "الكارثة لا نهاية لها".
ورغم أن الخيمة التي قصدها لا تتسع إلا لعائلة واحدة بالكاد، إلا أن السليمان لجأ لهذا الخيار "مضطرا"، ويقول لموقع "الحرة" في وقت لا تزال أصوات آليات الحفر في أذانه بحسب تعبيره: "خرجنا بثيابنا. منزلي لم يبق منه حجر على حجر. معي ثلاثة أطفال بينهم رضيع، وعشنا ليلة من الويل يوم الاثنين".
وكما هو الحال بالنسبة لأحمد، المهجّر من ريف حمص الشمالي ووصل إلى محافظة إدلب، في منتصف العام 2018 قصد الشاب مصطفى مع أبيه وأمه وأخواته الإناث الاثنتين مخيما في منطقة الدانا، لقضاء الليلة الثانية من الكارثة، بعدما تصدّع منزله في مدينة سرمدا القريبة من الحدود.
ومنذ 5 سنوات كان الشاب قد وصل إلى إدلب أيضا، مهجّرا من الغوطة الشرقية بريف العاصمة دمشق، ويوضح لموقع "الحرة" أنه وعقب تصدّع المنزل نقل زوجته وابنيه الاثنين إلى مدينة إدلب، لأحياء لم تتعرض للكثير من الأضرار، بينما اتجه مع القسم الآخر من عائلته للمبيت في الخيام، مضيفا: "للمرة الأولى تكون الخيمة أرحم من المنزل في مناطقنا. نجلس فوق بعضنا البعض. لا خيار سوى ذلك".
وتشير آخر إحصائيات فريق "الدفاع المدني السوري" إلى أن عدد ضحايا الزلزال في شمال غرب سوريا ارتفع إلى أكثر من 1020 حالة وفاة وأكثر من 2400 مصاب والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير، بسبب وجود مئات العوائل تحت الأنقاض فرقنا تواصل عمليات البحث والإنقاذ.
وجاء في الإحصائية الحديثة أيضا أن عدد الأبنية المنهارة بشكل كلي ارتفع لأكثر من 360، والأبنية المنهارة بشكل جزئي لأكثر من ألف، وتصدعت آلاف الابنية الأخرى.
ولا تجرؤ الكثير من العائلات حتى الآن على العودة إلى المنازل المنهارة بشكل جزئي أو المتصدعة، والتي تقدر أعدادها بالآلاف، ويشير مدير "الدفاع المدني السوري"، رائد الصالح، إلى أن "مئات الآلاف من السكان الآن في منطقة مفتوحة وفي درجات منخفضة، وبحاجة إلى كل أنواع المساعدات الإنسانية".
ويضيف الصالح: "رغم الفاجعة والوضع الكارثي واستمرار جهود الإنقاذ منذ أكثر من 40 ساعة ووجود آلاف الضحايا والعالقين تحت الأنقاض لم يكن هناك أي تواصل من الأمم المتحدة لتقييم الوضع ومعرفة احتياجاتنا كفرق إنقاذ"، داعيا مؤسسات الأمم المتحدة "لأن تكون حيادية".
"استجابة على مراحل ولكن"
وقالت المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ماديفي سون سوون، صباح الثلاثاء، إن تدفق المساعدات المهمة التي تنقلها المنظمة من تركيا إلى شمال غرب سوريا قد توقف مؤقتا، بسبب الأضرار التي لحقت بالطرق ومشكلات لوجستية أخرى مرتبطة بالزلزال العنيف الذي ضرب البلدين، فجر الاثنين.
وكانت تقديرات الأمم المتحدة -قبل الزلزال بساعات قليلة- تشير إلى أن أكثر من 4 ملايين شخص في شمال غرب سوريا يعتمدون على المساعدات القادمة عبر الحدود، وأغلبهم نازحون بسبب الحرب ويعيشون في مخيمات.
وقال مسؤول كبير عن المساعدات في الأمم المتحدة لوكالة "رويترز" إن هذه الاحتياجات زادت، موضحا أن المنظمة كانت ترسل مئات من الشاحنات إلى سوريا عبر تركيا كل شهر محملة بمواد غذائية وطبية ومساعدات أخرى مهمة.
بدورها أضافت المتحدثة: "بعض الطرق معطل وبعضها لا يمكن الوصول إليه، هناك مشكلات لوجستية تحتاج إلى حل. ليست لدينا صورة واضحة عن موعد استئنافها".
ويتخوف عمال إغاثة وناشطون من التداعيات التي قد تنتج عن الكارثة المتواصلة على مناطق شمال غربي سوريا، ولاسيما مع عدم وصول أي مساعدات يطالبون بها حتى الآن، وخاصة تلك المتعلقة بمعدات الحفر والآليات الثقيلة لرفع الأنقاض.
وفي حين تعمل فرق البحث والإنقاذ في الوقت الحالي على أولى مراحل مواجهة الكارثة، بإخلاء الجرحى وانتشال الضحايا، إلا أن المراحل الأخرى التي من المفترض أن تليها لا توجد أي مؤشرات على إمكانية المضي فيها، في وقت يحذر مسؤولون في منظمات إنسانية من ما هو متوقع، مع تقادم الوقت.
ويوضح سارية عقاد مدير، قسم الشراكات في منظمة "عطاء الإنسانية"، أن الاستجابة الحالية الحاصلة في شمال غربي سوريا تتم "على مراحل"، أولها إنقاذ الناس من تحت الأنقاض، ومع ذلك "تحتاج هذه الخطوة وقتا طويلا لأسباب كثيرة، بسبب عدم توفر الكميات اللازمة من معدات الحفر وبسبب سوء أحوال الطقس".
ويضيف عقاد لموقع "الحرة": "المرحلة الثانية هي البحث عن مأوى بديل للخارجين من تحن الأنقاض، لكن لدينا مشكلة كبيرة فيها أيضا بسبب ظروف الشتاء وغياب المأوى البديل والفور".
وتتعلق المرحلة الثالثة من الاستجابة بالأبنية المتصدعة والمنهارة بشكل جزئي، إذ يشير المسؤول في المنظمة الإنسانية متسائلا: "هل ما تبقى من أبنية قائمة صالحة للسكن في المستقبل؟ هل يجب إفراغها على الفور؟. الأمر لا يوضح إلا هندسيا، وفي الوقت الحالي لا توجد هذه الرفاهية. ربما سيكون هناك تقييمات فيما بعد".
وقبل عام 2011 كانت نسبة الرقابة في مناطق الأرياف بمحافظتي إدلب وحلب قليلة، في مقابل الفساد الكبير. "أي شخص كان بمقدروه بناء الطوابق".
وخلال السنوات الماضية من الحرب لم يختلف الحال كثيرا من الناحية الهندسية، بينما لم يكن شمال غرب سوريا "معتادا على الزلازل".
ويقول عقاد: "أغلب الأبنية بعد الكارثة الحاصلة وضعها سيء، لكن لا نعرف مدى القدرة على إخلائها جميعا. إذا لم تؤمن الناس المأوى ستخاطر وتعود إليها، رغم التصدعات".
"لا خيارات"
ويقطن في شمال غرب سوريا الملايين من السكان المدنيين، ومنهم مليونان يقيمون في مخيمات عشوائية ونظامية، تمتد من أقصى الغرب وصولا إلى ريف حلب الشمالي، حيث تسيطر فصائل المعارضة.
وفي الوقت الذي كانت فيه الأنشطة الإنسانية والإغاثية تتركز قبل الزلزال على جهود نقل ممن هم في الخيام إلى منازل مسبقة الصنع، جاءت الكارثة لتقلب كل شيء، ليتحول أصحاب المنازل والمساكن الإسمنتية إلى مشردين.
يقول المدير التنفيذي لوحدة دعم الاستقرار في شمال سوريا، منذر سلال: "هناك الكثير من المباني في تركيا تخضع لقواعد بنائية محددة وضوابط ومع ذلك انهارت خلال الهزات الارتدادية وليس من جراء الزلازل".
ويضيف سلال لموقع "الحرة": "في الداخل السوري جزء كبير من المنازل إما معمّر على أساس مخيمات أو شبيه بالمخيمات أو مبنيا بشكل بدائي، وغير خاضع لضوابط زلازل".
"الأمر سيؤثر في المستقبل بشكل كبير. إذا ما أعيد تأسيس المباني التي تضعضعت ستكون هناك كارثة كبيرة".
وتتركز نسبة الأبنية المنهارة في شمال غربي سوريا في محافظة إدلب، وفي منطقة جنديرس إحدى نواحي منطقة عفرين ريف حلب، وما تزال جهود البحث والإنقاذ مستمرة حتى الآن.
ويوضح سلال: "بشكل مبدأي يتحدث الدفاع المدني عن 600 منزل مدمر بالكامل و1700 بشكل جزئي. الأبنية المتصدعة لم تعد صالحة للسكن، ولا خيارات أمام الناس".
وحتى هذه اللحظة لم يصل إلى مناطق شمال غربي سوريا أي دعم حقيقي بمعدات تساهم في رفع الأنقاض وسحب العالقين، حسب ما يوضح، منير مصطفى، نائب مدير "الدفاع المدني" للشؤون الإنسانية.
ويقول مصطفى لموقع "الحرة": "هناك محاولات لتأمين بعض الأغذية والمساكن وتحويل بعض الأموال، لكن للأسف هناك مواد غير موجودة في الداخل السوري مثل تركستات ولودرات ومعدات بحث وإنقاذ. هذه المعدات تحتاج لأن تشحنها الدول".
وكانت منظمة الصحة العالمية أعلنت، الثلاثاء، أن عدد المتضرّرين بالزلزال المدمّر، الذي أودى بحياة الآلاف في تركيا وسوريا، قد يصل إلى 23 مليونا.
وأوضحت المسؤولة في منظمة الصحة العالمية، اديلهايد مارشانغ، أمام اللجنة التنفيذية للوكالة التابعة للأمم المتحدة "تُظهر خريطة الأحداث أن عدد الذين يحتمل أن يكونوا تأثروا (بالزلزال) يبلغ 23 مليونا، بينهم نحو 5 ملايين في وضع ضعف".
وأضافت: "تدرك منظمة الصحة العالمية قدرة تركيا القوية على الاستجابة، وتعتبر أن الاحتياجات الرئيسية التي لم تُلبَّ قد تكون في سوريا على المدى القريب والمتوسط".
وتابعت مارشانغ "إن إيصال المساعدات عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا من المرجح أن يواجه صعوبات بسبب الأضرار التي سببها الزلزال. وهذا بحد ذاته يمثل أزمة كبيرة بالفعل".