يفتشون بين الأنقاض في جنديرس السورية
يفتشون بين الأنقاض في جنديرس السورية

ليلةٌ ثانية من كارثة الزلزال المدمّر تحلّ على مناطق شمال وغرب سوريا، ومع استمرار فرق البحث والإنقاذ بعمليات انتشال الضحايا وإخلاء الجرحى تواجه الكثير من العائلات حالة من التيه الكامل المشبّع بالألم والفراق والعجر.

وفي حين ما زال كثيرٌ من أفرادها يبيتون في العراء وداخل السيارات على أطراف الطرقات، سلك آخرون طريق نزوحٍ جديد يحمل "مفارقة لم تكن في الحسبان"، إذ قصدوا أقربائهم ومعارفهم القاطنين في المخيمات.

على مدى السنوات الماضية من الحرب كان للمخيمات العشوائية والنظامية في شمال غربي البلاد صورة واحدة لم تخرج منها إلا مشاهد الأسى والحال المنهك، لكن ومع حلول الكارثة التي لم تُبقٍ أي شيء على حاله فوق الأرض باتت هذه الرقع القماشية ملاذا آمنا لمن بات عاجزا عن تأمين منزل بعد انهيار مسكنه، أو الخائف من العودة إلى الجدران التي باتت متصدعة، بعدما كانت تأويه.

أحمد السليمان، أحد السكان السوريين في شمال غرب البلاد كان قد نال نصيبه من الزلزال المدمّر، فجر الاثنين، إذ انهار المنزل الذي كان يسكن فيه في مدينة حارم بريف إدلب الشمالي بالكامل، وبينما قضى ليلته الأولى داخل سيارته الخاصة، ومثل كثيرين توجه، عصر الثلاثاء، إلى أحد معارفه في مخيمات دير حسان الواقعة على الحدود، لأن "الكارثة لا نهاية لها".

ورغم أن الخيمة التي قصدها لا تتسع إلا لعائلة واحدة بالكاد، إلا أن السليمان لجأ لهذا الخيار "مضطرا"، ويقول لموقع "الحرة" في وقت لا تزال أصوات آليات الحفر في أذانه بحسب تعبيره: "خرجنا بثيابنا. منزلي لم يبق منه حجر على حجر. معي ثلاثة أطفال بينهم رضيع، وعشنا ليلة من الويل يوم الاثنين".

وكما هو الحال بالنسبة لأحمد، المهجّر من ريف حمص الشمالي ووصل إلى محافظة إدلب، في منتصف العام 2018 قصد الشاب مصطفى مع أبيه وأمه وأخواته الإناث الاثنتين مخيما في منطقة الدانا، لقضاء الليلة الثانية من الكارثة، بعدما تصدّع منزله في مدينة سرمدا القريبة من الحدود.

ومنذ 5 سنوات كان الشاب قد وصل إلى إدلب أيضا، مهجّرا من الغوطة الشرقية بريف العاصمة دمشق، ويوضح لموقع "الحرة" أنه وعقب تصدّع المنزل نقل زوجته وابنيه الاثنين إلى مدينة إدلب، لأحياء لم تتعرض للكثير من الأضرار، بينما اتجه مع القسم الآخر من عائلته للمبيت في الخيام، مضيفا: "للمرة الأولى تكون الخيمة أرحم من المنزل في مناطقنا. نجلس فوق بعضنا البعض. لا خيار سوى ذلك".

وتشير آخر إحصائيات فريق "الدفاع المدني السوري" إلى أن عدد ضحايا الزلزال في شمال غرب سوريا ارتفع إلى أكثر من 1020 حالة وفاة وأكثر من 2400 مصاب والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير، بسبب وجود مئات العوائل تحت الأنقاض فرقنا تواصل عمليات البحث والإنقاذ.

وجاء في الإحصائية الحديثة أيضا أن عدد الأبنية المنهارة بشكل كلي ارتفع لأكثر من 360، والأبنية المنهارة بشكل جزئي لأكثر من ألف، وتصدعت آلاف الابنية الأخرى.

ولا تجرؤ الكثير من العائلات حتى الآن على العودة إلى المنازل المنهارة بشكل جزئي أو المتصدعة، والتي تقدر أعدادها بالآلاف، ويشير مدير "الدفاع المدني السوري"، رائد الصالح، إلى أن "مئات الآلاف من السكان الآن في منطقة مفتوحة وفي درجات منخفضة، وبحاجة إلى كل أنواع المساعدات الإنسانية".

ويضيف الصالح: "رغم الفاجعة والوضع الكارثي واستمرار جهود الإنقاذ منذ أكثر من 40 ساعة ووجود آلاف الضحايا والعالقين تحت الأنقاض لم يكن هناك أي تواصل من الأمم المتحدة لتقييم الوضع ومعرفة احتياجاتنا كفرق إنقاذ"، داعيا مؤسسات الأمم المتحدة "لأن تكون حيادية".

"استجابة على مراحل ولكن"

وقالت المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ماديفي سون سوون، صباح الثلاثاء، إن تدفق المساعدات المهمة التي تنقلها المنظمة من تركيا إلى شمال غرب سوريا قد توقف مؤقتا، بسبب الأضرار التي لحقت بالطرق ومشكلات لوجستية أخرى مرتبطة بالزلزال العنيف الذي ضرب البلدين، فجر الاثنين.

وكانت تقديرات الأمم المتحدة -قبل الزلزال بساعات قليلة- تشير إلى أن أكثر من 4 ملايين شخص في شمال غرب سوريا يعتمدون على المساعدات القادمة عبر الحدود، وأغلبهم نازحون بسبب الحرب ويعيشون في مخيمات.

وقال مسؤول كبير عن المساعدات في الأمم المتحدة لوكالة "رويترز" إن هذه الاحتياجات زادت، موضحا أن المنظمة كانت ترسل مئات من الشاحنات إلى سوريا عبر تركيا كل شهر محملة بمواد غذائية وطبية ومساعدات أخرى مهمة.

بدورها أضافت المتحدثة: "بعض الطرق معطل وبعضها لا يمكن الوصول إليه، هناك مشكلات لوجستية تحتاج إلى حل. ليست لدينا صورة واضحة عن موعد استئنافها".

ويتخوف عمال إغاثة وناشطون من التداعيات التي قد تنتج عن الكارثة المتواصلة على مناطق شمال غربي سوريا، ولاسيما مع عدم وصول أي مساعدات يطالبون بها حتى الآن، وخاصة تلك المتعلقة بمعدات الحفر والآليات الثقيلة لرفع الأنقاض. 

وفي حين تعمل فرق البحث والإنقاذ في الوقت الحالي على أولى مراحل مواجهة الكارثة، بإخلاء الجرحى وانتشال الضحايا، إلا أن المراحل الأخرى التي من المفترض أن تليها لا توجد أي مؤشرات على إمكانية المضي فيها، في وقت يحذر مسؤولون في منظمات إنسانية من ما هو متوقع، مع تقادم الوقت.

ويوضح سارية عقاد مدير، قسم الشراكات في منظمة "عطاء الإنسانية"، أن الاستجابة الحالية الحاصلة في شمال غربي سوريا تتم "على مراحل"، أولها إنقاذ الناس من تحت الأنقاض، ومع ذلك "تحتاج هذه الخطوة وقتا طويلا لأسباب كثيرة، بسبب عدم توفر الكميات اللازمة من معدات الحفر وبسبب سوء أحوال الطقس".

ويضيف عقاد لموقع "الحرة": "المرحلة الثانية هي البحث عن مأوى بديل للخارجين من تحن الأنقاض، لكن لدينا مشكلة كبيرة فيها أيضا بسبب ظروف الشتاء وغياب المأوى البديل والفور".

وتتعلق المرحلة الثالثة من الاستجابة بالأبنية المتصدعة والمنهارة بشكل جزئي، إذ يشير المسؤول في المنظمة الإنسانية متسائلا: "هل ما تبقى من أبنية قائمة صالحة للسكن في المستقبل؟ هل يجب إفراغها على الفور؟. الأمر لا يوضح إلا هندسيا، وفي الوقت الحالي لا توجد هذه الرفاهية. ربما سيكون هناك تقييمات فيما بعد".

وقبل عام 2011 كانت نسبة الرقابة في مناطق الأرياف بمحافظتي إدلب وحلب قليلة، في مقابل الفساد الكبير. "أي شخص كان بمقدروه بناء الطوابق".

وخلال السنوات الماضية من الحرب لم يختلف الحال كثيرا من الناحية الهندسية، بينما لم يكن شمال غرب سوريا "معتادا على الزلازل".

ويقول عقاد: "أغلب الأبنية بعد الكارثة الحاصلة وضعها سيء، لكن لا نعرف مدى القدرة على إخلائها جميعا. إذا لم تؤمن الناس المأوى ستخاطر وتعود إليها، رغم التصدعات".

"لا خيارات"

ويقطن في شمال غرب سوريا الملايين من السكان المدنيين، ومنهم مليونان يقيمون في مخيمات عشوائية ونظامية، تمتد من أقصى الغرب وصولا إلى ريف حلب الشمالي، حيث تسيطر فصائل المعارضة.

وفي الوقت الذي كانت فيه الأنشطة الإنسانية والإغاثية تتركز قبل الزلزال على جهود نقل ممن هم في الخيام إلى منازل مسبقة الصنع، جاءت الكارثة لتقلب كل شيء، ليتحول أصحاب المنازل والمساكن الإسمنتية إلى مشردين.

يقول المدير التنفيذي لوحدة دعم الاستقرار في شمال سوريا، منذر سلال: "هناك الكثير من المباني في تركيا تخضع لقواعد بنائية محددة وضوابط ومع ذلك انهارت خلال الهزات الارتدادية وليس من جراء الزلازل".

ويضيف سلال لموقع "الحرة": "في الداخل السوري جزء كبير من المنازل إما معمّر على أساس مخيمات أو شبيه بالمخيمات أو مبنيا بشكل بدائي، وغير خاضع لضوابط زلازل".

"الأمر سيؤثر في المستقبل بشكل كبير. إذا ما أعيد تأسيس المباني التي تضعضعت ستكون هناك كارثة كبيرة".

وتتركز نسبة الأبنية المنهارة في شمال غربي سوريا في محافظة إدلب، وفي منطقة جنديرس إحدى نواحي منطقة عفرين ريف حلب، وما تزال جهود البحث والإنقاذ مستمرة حتى الآن.

ويوضح سلال: "بشكل مبدأي يتحدث الدفاع المدني عن 600 منزل مدمر بالكامل و1700 بشكل جزئي. الأبنية المتصدعة لم تعد صالحة للسكن، ولا خيارات أمام الناس".

وحتى هذه اللحظة لم يصل إلى مناطق شمال غربي سوريا أي دعم حقيقي بمعدات تساهم في رفع الأنقاض وسحب العالقين، حسب ما يوضح، منير مصطفى، نائب مدير "الدفاع المدني" للشؤون الإنسانية.

ويقول مصطفى لموقع "الحرة": "هناك محاولات لتأمين بعض الأغذية والمساكن وتحويل بعض الأموال، لكن للأسف هناك مواد غير موجودة في الداخل السوري مثل تركستات ولودرات ومعدات بحث وإنقاذ. هذه المعدات تحتاج لأن تشحنها الدول".

وكانت منظمة الصحة العالمية أعلنت، الثلاثاء، أن عدد المتضرّرين بالزلزال المدمّر، الذي أودى بحياة الآلاف في تركيا وسوريا، قد يصل إلى 23 مليونا.

وأوضحت المسؤولة في منظمة الصحة العالمية، اديلهايد مارشانغ، أمام اللجنة التنفيذية للوكالة التابعة للأمم المتحدة "تُظهر خريطة الأحداث أن عدد الذين يحتمل أن يكونوا تأثروا (بالزلزال) يبلغ 23 مليونا، بينهم نحو 5 ملايين في وضع ضعف".

وأضافت: "تدرك منظمة الصحة العالمية قدرة تركيا القوية على الاستجابة، وتعتبر أن الاحتياجات الرئيسية التي لم تُلبَّ قد تكون في سوريا على المدى القريب والمتوسط".

وتابعت مارشانغ "إن إيصال المساعدات عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا من المرجح أن يواجه صعوبات بسبب الأضرار التي سببها الزلزال. وهذا بحد ذاته يمثل أزمة كبيرة بالفعل".

مئات الآلاف نزحوا في لبنان بسبب القصف الإسرائيلي
مئات الآلاف نزحوا في لبنان بسبب القصف الإسرائيلي

قبل اجتيازه الحدود اللبنانية-السورية الأسبوع الماضي انتاب الشاب السوري عبدو "لهفة حنين" كسرت جزءا من المعاناة التي عاشها مع شقيقته وعائلتها لعدة أيام، لكن هذه المشاعر سرعان ما تبددت عندما وضع أول خطوة داخل أرض الوطن.

تلك الخطوة الأولى كلفته 20 دولار أميركي، ودفعها بالتدريج لأربعة عناصر من النظام السوري كانوا اصطفوا بعد البوابة الجمركية بأمتار وبدأوا "تحصيل حلوان الإعفاء من عملية التختيم بشكل مؤقت"، حسب قول عبدو لموقع "الحرة".

والشاب من إحدى القرى التابعة لمحافظة إدلب السورية، وكان يقيم في الضاحية الجنوبية بلبنان منذ 12 عاما.

وبعد بدء حملة القصف الإسرائيلية انتقل إلى صيدا كغيره من الآلاف، ومن هناك حجزت له عائلته مقعدا في إحدى الشركات العاملة على خط بيروت-شمال سوريا، من أجل الفرار من لبنان مع أخته وزوجها وعائلتها المكونة من 3 أطفال.

يضيف عبدو أن الحالة التي شهدها بعد اجتياز الحدود وفي أثناء استقباله من "العساكر" لم تكن إلا نقطة في بحر ممارسات "ابتزاز واستغلال"، ولم تقتصر على الطريق المار من مناطق سيطرة النظام فحسب، بل شملت أيضا مناطق النفوذ الأخرى في البلاد، وبدرجات أقسى.

"أبو محمد" وهو سوري يبلغ من العمر 50 عاما عاش ذات التجربة الخاصة بالشاب عبدو.

ولخصها بعدة كلمات قائلا لموقع "الحرة": "جئنا من لبنان إلى شمال سوريا.. الطريق كان تشليح بتشليح"، في إشارة منه إلى الإتاوات التي فرضت عليهم للعبور من منطقة باتجاه أخرى.

كما أشار إلى "أصناف مختلفة من الذل" التي عاشوها، وخاصة على المعابر الداخلية الواصلة بين مناطق النفوذ المتناحرة، حيث انتظروا على أحدها لخمسة أيام.

"إلى وطن بعدة دويلات"

ووفقا لـ"وحدة إدارة مخاطر الكوارث" التابعة للحكومة اللبنانية عَبر أكثر من 400 ألف شخص من لبنان إلى سوريا، غالبيتهم سوريون، في غضون أسبوعين، أي منذ أن كثفت إسرائيل غاراتها على مناطق مختلفة في لبنان.

وأوضحت الوحدة في تقرير لها، الاثنين، أنه منذ تاريخ 23 سبتمبر لغاية الخامس من أكتوبر سجّل الأمن العام عبور أكثر من 300 ألف سوري.

يختار هؤلاء بعد اجتيازهم الحدود وجهات متفرقة، وبينما يفضل البعض منهم البقاء في مناطق سيطرة النظام يقرر آخرون الذهاب إلى قراهم وبلداتهم الأصلية في شمال وشرق سوريا وشمال وغربي البلاد، وهو ما تؤكده إعلانات رسمية.

ومع ذلك، لا تبدو عملية الانتقال من منطقة نفوذ إلى أخرى في سوريا بالأمر السهل بناء على الحدود المرسومة بين كل من مناطق النظام والأكراد في شمال شرقي البلاد وفصائل المعارضة، حيث تسيطر في ريف محافظة حلب وإدلب.

وتؤكد تفاصيل الرحلة التي تحدث عنها عبدو لموقع "الحرة" ما سبق، موضحا أن عملية انتقاله من بلدة جديدة يابوس المقابلة لمعبر المصنع الحدودي مع لبنان إلى معبر "التايهة" الداخلي في ريف حلب كلفته 325 دولارا أميركا.

دفع عبدو المبلغ للشركة التي استقل حافلاتها مع عائلة شقيقته، وأشار إلى أنه ضمن مروره على الحواجز العسكرية دون تفتيش أو مساءلات أمنية، أو كما بات يعرف محليا منذ سنوات بـ"الترفيق".

واضطر بعد سفر استمر لثمانية ساعات لدفع 100 دولار إضافية لحاجز "الفرقة الرابعة"، قبل أن يتجاوز الحدود الداخلية (معبر التايهة) باتجاه المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في ريف حلب.

ويقول "المرصد السوري لحقوق الإنسان" إن حواجز قوات النظام السوري واصلت خلال الأيام الماضية تضييق الخناق وابتزاز السوريين العائدين من لبنان ماليا، حيث تفرض رسوما تصل إلى 200 ألف ليرة سورية على كل حافلة تقلهم.

وتفرض أيضا نفس المبلغ عن كل شخص مطلوب للخدمة العسكرية، وهو الأمر الذي أكده عبدو.

كما يتعرض كل من يرفض الدفع للاعتقال، وفق ما أكده مواطن من مدينة الرقة أجبر على دفع مبلغ قدره 3 ملايين ليرة سورية لعناصر حاجز "الفرقة الرابعة" للعودة إلى منطقته، بحسب المرصد.

ويضيف "أبو محمد" أن رحلة الانتقال من منطقة جديدة يابوس إلى ريف حلب الشمالي حيث تسيطر "قسد" لم تخل من دفع الرشاوى لضباط النظام السوري المتواجدين على الحواجز الأمنية.

ويتابع عبدو من جانبه بالقول إن "جيش النظام السوري لا يتحدث مع أحد. يقول الضباط لمعاون سائق الحافلة: اعطيني مصاري وامشي".

"كانت الرشاوى علنية إلى درجة الوقاحة"، على حد تعبير الشاب.

وأردف بالقول: "دفعنا الكثير ووزعنا دولارات على طول الطريق المار من دمشق وحمص إلى ريف حلب قبل اجتياز معبر التايهة (الذي يفصل مناطق النظام مع قسد)".

"فري زون الزكوري"

ولا تعتبر المعابر الداخلية التي تفصل بين أطراف النفوذ في سوريا جديدة على مشهد البلاد الممزقة، وكانت قد ارتسمت معالمها بعدما استقرت العمليات العسكرية على الأرض.

على مدى السنوات الماضية كان الكثير من السوريين المتوزعين في مناطق النفوذ المتناحرة اضطروا لقطع مسافات طويلة ودفع إتاوات على الطرقات والمعابر الداخلية، لقاء وصولهم إلى وجهتهم أو طلبا للعلاج.

وبحسب إحصائية حصل عليها موقع "الحرة" من منظمة "الدفاع المدني السوري" بلغ عدد السوريين القادمين من لبنان إلى مناطق شمال سوريا الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة 1700 شخص.

ووصل غالبيتهم إلى شمالي البلاد "بحالة وهن وتعب وإرهاق وضغوط نفسية، بسبب مشقة السفر والنزوح"، وفقا لـ"الدفاع المدني".

وفي وقت سابق من هذا الأسبوع أعلنت "الحكومة السورية المؤقتة" المعارضة إغلاق المعبر الذي يمر منه السوريون القادمين من لبنان، والمعروف باسم "عون الدادات" نسبة للقرية الموجودة هناك.

يفصل هذا المعبر مناطق "الحكومة المؤقتة" عن المناطق الخاضعة لـ"قسد".

وعند "استراحة الزكوري"، وهي أشبه بمنطقة "حرة" تفصل بين الطرفين تعرض المئات من السوريين الفارين لعمليات ابتزاز وذل واستغلال، بحسب رواية الشاب عبدو لـ"الحرة" وأحمد الذي وصل إلى إدلب قبل خمسة أيام، قادما من لبنان.

يوضح عبدو أنه احتجز لخمسة أيام مع أكثر من 400 شخص في أرض مخصصة للمواشي قرب "الاستراحة" المذكورة.

وقال إنهم تعرضوا هناك لابتزاز وضرب واعتداءات نفذها مسلحون يتبعون لميليشيا يقودها شخص من أبناء قرية عون الدادات، يدعى هزاع الزكوري.

الشخص ذاته يمتلك شركة حافلات (شركة العوني) تنقل مسافرين بين مناطق النفوذ المختلفة، ويحظى بنفوذ كبير في المنطقة الفاصلة بين "الحكومة المؤقتة" و"قسد" والممثلة بقرية عون الدادات.

ولم يتمكن موقع "الحرة" من كشف ارتباطاته وخفايا النفوذ الذي يتلقاه في المنطقة.

بدوره أكد مدير "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، رامي عبد الرحمن الانتهاكات والابتزاز الذي يمارسه الزكوري والمسلحين التابعين له على السوريين القاصدين الانتقال من مناطق "قسد" باتجاه مناطق سيطرة فصائل المعارضة.

ورجح عبد الرحمن أن ارتباطاته تنسحب على مختلف أطراف النفوذ في سوريا (النظام السوري، المعارضة، قسد)، في وقت أشار ناشط إعلامي (فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية) من مدينة منبج لموقع "الحرة" إلى أن الزكوري يعتبر بمثابة "صلة وصل" بين أطراف النفوذ.

"استغلال ونوم في العراء"

ظّل الشاب عبدو مع مئات الفارين من لبنان لخمسة أيام في العراء، وكان يحيط بهم من كل جانب مسلحين يتبعون لهزاع الزكوري، صاحب النفوذ والسطوة في قرية عون الدادات الفاصلة بين مناطق "قسد" وفصائل المعارضة.

ورغم أنه تمكن من العبور بعد ذلك وكذلك الأمر بالنسبة لبقية أفراد رحلته لم ينس حتى الآن ما عاشوه في الأرض المخصصة للمواشي.

ويقول: "منعوا علينا الاتصال بالهاتف أو حتى استخدامه، واضطررنا لتصريف فئات من الدولار إلى الليرة التركية وبسعر أرخص مما هو متداول".

ويضيف أن "مسلحي الزكوري" كانوا يمنعونهم من الاختلاط ببقية الركاب.

كما أوضح أنه رأى حالات نساء تعرضن للضرب بخراطيم بلاستيكية، لأنهن خالفن التوجيهات، وانتقلن من مكان لآخر دون علم المسلحين.

وذكر مشهد آخرا حصل في أثناء الليل، إذ "أقدم الزكوري على معاينة المسافرين الفارين النائمين في ساحة المواشي وهو على ظهر فرس، الأمر الذي عرض البعض منهم لمخاطر الدعس".

وقال الشاب السوري أحمد لموقع "الحرة" إن "الزكوري ومسلحيه يديرون عمليات عبور المسافرين من مناطق قسد إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة وبالعكس، منذ سنوات".

وأضاف أن إدارة عمليات العبور لا تقتصر على معبر "عون الدادات" الداخلي الرسمي، بل تشمل أيضا حركات تهريب البشر التي تتم بين المنطقتين.

"اعتقالات وتمييز"

وما تزال حركات عبور السوريين مستمرة من لبنان باتجاه سوريا، ويشمل ذلك أيضا الوافدين من اللبنانيين.

ولا تعرف حتى الآن ظروف الكثيرين منهم، نظرا للعدد الكبير الذي دخل من لبنان، بحسب مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فضل عبد الغني.

لكن عبد الغني وفيما يتعلق بالمناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري قال لموقع "الحرة" إنهم وثقوا خلال الأيام الماضية اعتقال أجهزة الأخير لتسعة شبان سوريين كانوا عادوا من لبنان هربا من حملة القصف الإسرائيلية.

ومعظم المعتقلين من محافظة ريف دمشق، وأضافت الحقوقي السوري أن عملية اعتقالهم جاءت "على خلفية التجنيد الإلزامي والاحتياطي".

ويوضح عبد الغني أن عمليات الاعتقال من جانب النظام لا تتم بموجب مذكرة قضائية، ويقول إن ما يجري "يتم بشكل تعسفي وبقرار تصدره الأجهزة الأمنية".

علاوة على ذلك، يشير الحقوقي السوري إلى حالة "تمييز" في التعاطي التي أبداها النظام السوري خلال الأيام الماضية، حيث أعلن عن تسهيلات وامتيازات تخص الوافدين اللبنانيين، دون أن ينطبق ذلك على أبناء البلد الأصليين.

وفي الأسبوع الأول من الحملة الإسرائيلية على لبنان عانى الكثير من السوريين الفارين إلى بلدهم من إجراء تصريف 100 دولار مقابل الليرة السورية قبل الدخول إلى الحدود.

وبعد حملة انتقاد تخللها جدل واسع ألغى النظام السوري قرار التصريف.

ويقول عبد الغني: "النظام يميّز مواطني البلد عنصريا. حتى أسوأ الديكتاتوريات لا تفعل ذلك. الدول تميز مواطنيها عن غيرهم وليس بالعكس!".

ويؤكد من جانب آخر أنه حتى الآن "لا توجد أي ضمانات أمنية بشأن سلامة الفارين باتجاه سوريا".