لاجئون سوريون في طريق العودة من لبنان
بعد 13 عاما من الحرب ما تزال الأمم المتحدة تؤكد على أن سوريا غير آمنة لعودة اللاجئين (أرشيف)

بعدما وضعت الدول العربية ملف "العودة الآمنة والطوعية للاجئين السوريين" إلى بلدهم أولوية قصوى على سكة إعادة العلاقات مع دمشق يبدو من تصريحات النظام السوري أنه غير مستعد حتى الآن لـ"تنفيذ أي آلية من دون مقابل"، وكما هو الحال بالنسبة لقضية "تهريب المخدرات" تشوب مواقفه "نبرة ابتزاز"، حسب مراقبين.

ووفقا للبيان الختامي الذي وزع في أعقاب اجتماع "عمّان التشاوري"، في شهر مايو الماضي، اتفق المجتمعون على أن "العودة الطوعية والآمنة للاجئين (السوريين) إلى بلدهم هي أولوية قصوى، ويجب اتخاذ الخطوات اللازمة للبدء في تنفيذها فورا".

وحضّوا، حسب البيان، على تعزيز التعاون بين سوريا والدول المضيفة للاجئين بالتنسيق مع الأمم المتحدة "لتنظيم عمليات عودة طوعية وآمنة للاجئين وإنهاء معاناتهم، وفق إجراءات محددة وإطار زمني واضح".

لكن وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية لم تظهر في الأفق أي "إجراءات محددة"، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"الإطار الزمني الواضح لعودة اللاجئين الطوعية". وعلى العكس أشار مسؤولون في النظام إلى أن أي عملية من هذا القبيل يجب أن ترتبط بـ"إعادة الإعمار".

وفي يونيو الماضي وفي أثناء اجتماعه مع وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، في دمشق تطرق رئيس النظام السوري، بشار الأسد لـ"حشد الجهود لدعم مشاريع التعافي المبكر المرتبطة بعودة اللاجئين السوريين ومتطلباتها، وإبقاء ملف اللاجئين في إطاره الإنساني والأخلاقي".

وأكد خلال اجتماعه أن "العودة السليمة للاجئين السوريين هي الهدف الأسمى لدى الدولة السورية، لكنه مرتبط بتوفير متطلبات إعمار البنى المتضررة في القرى والمدن التي سيعودون إليها، وتأهيل المرافق الخدمية بمختلف أشكالها، إضافة إلى ضرورة تنفيذ مشاريع التعافي المبكر الضرورية لعودتهم".

وقبل ذلك دعا وزير خارجيته، فيصل المقداد في اجتماع وزراء الخارجية العرب في جدة السعودية إلى "دور عربي في إعادة الإعمار كشرط لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم". 

وكررت معاونة وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية للشؤون الدولية، رانيا أحمد ما سبق بقولها، منتصف مايو، إن "عودة المهجّرين إلى مدنهم ومنازلهم يأتي عبر التشجيع على إقامة المشاريع الاقتصادية في مختلف القطاعات".

"معادلة حل وإعمار"

ووفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أُجبر أكثر من 14 مليون سوري على الفرار من ديارهم منذ 2011. ولا يزال هناك نحو 6.8 مليون نازح سوري في الداخل حيث يعيش 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر.

وبعد 13 عاما من الحرب ما تزال الأمم المتحدة تؤكد على أن "سوريا غير آمنة لعودة اللاجئين"، وأيضا "لجنة التحقيق الدولية المستقلة"، التي أشارت في تقرير لها مؤخرا إلى أن "غياب عنصر الآمان" ينسحب على كل جغرافيا البلاد.

ولطالما أعلن الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه أنهم لن يمولوا إعادة الإعمار في سوريا ما لم يروا انتقالا سياسيا "جاريا بحزم"، وهو الموقف الذي عكسته الولايات المتحدة الأميركية مرارا على لسان مسؤوليها، في وقت أكدت على استمرارها في فرض العقوبات حتى التوصل إلى "حل سياسي"، بموجب القرار الأممي 2254.

ولم ينفذ النظام السوري قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي تم تبنيه في ديسمبر 2015 كخريطة طريق للسلام في سوريا.  

ويدعو القرار إلى عملية سياسية بقيادة سورية، تبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالية، تليها صياغة دستور جديد وتنتهي بانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة.

وتقول الأمم المتحدة إن تكلفة إعادة إعمار البنية التحتية في سوريا تصل إلى 400 مليار دولار. وهذا الرقم يشمل حجم الدمار فقط، ولا يشمل الخسائر البشرية، والمقصود بها الأشخاص الذين قتلوا خلال المعارك، والأشخاص الذين نزحوا وهجّروا من منازلهم.

وأشار إلى هذه الإحصائية الأسد، في مارس 2023، بقوله إن التقديرات للحرب تفوق 400 مليار دولار، مضيفا أنه "رقم تقريبي وقد يكون أكبر، حيث أن بعض المناطق لا تزال خارج سيطرة الدولة السورية"، حسب تعبيره.

ماذا يريد الأسد؟

ومنذ تحول ميزان القوى لصالح الأسد خلال السنوات القليلة الماضية، أعاد النظام السوري بناء أجزاء صغيرة من البلاد بمساعدة حلفائه. وشمل هذا المسار قسما من سوق يعود تاريخه إلى قرون في مدينة حلب الشمالية وبعض المساجد التاريخية في حلب ومدينة حمص. 

ومع ذلك، لا تزال مدن وبلدات وقرى بأكملها في حالة خراب، بينما تسبب الصراع في أضرار دائمة لأنظمة الكهرباء والنقل والصحة في البلاد.

وكان من المتوقع ضمن أوساط النظام السوري أن ينعكس فتح الأبواب العربية أمام دمشق على الواقع المعيشي في البلاد، لكن هذا التوقع لم تشهده أرض الواقع، في وقت لم يطرأ أي تغيّر جذري على "الأولويات العربية القصوى"، على رأسها "تهريب المخدرات" و"عودة اللاجئين".

ويرى الحقوقي السوري محمد العبد الله، وهو مدير "مركز العدالة والمساءلة" في واشنطن، أن "عودة اللاجئين مهمة بالنسبة للنظام لسبب أساسي، يكمن بأنه يربط هذا المسار بإعادة الإعمار".

ويقول العبد الله لموقع "الحرة": "النظام يرحّب ويضغط من أجل عودة اللاجئين وفي ذات الوقت يصدّر لاجئين ليزيد الضغط على الغرب، ولكي تصل الدول هناك إلى مرحلة تشي بوجود ضغط اجتماعي واقتصادي في البنتى التحتية لأوروبا، مع صعود اليمين وأصوات معاداة الهجرة".

ولذلك وعندما تصل الدول الغربية إلى هذه القناعة "ستبدأ بإعادة اللاجئين ولو بصورة قسرية، وتتجه بعد ذلك إلى إعطاء الأموال للأسد من أجل إعادة الإعمار، ولكي يعيش من يعود بحياة كريمة".

ورغم أن الأسد يرغب بـ"السيناريو" المذكور، فإن "المجتمع الدولي والدول الغربية ليسوا أغبياء"، بحسب تعبير الحقوقي السوري، و"يعرفون أنه لا يمكن أن يعود أي لاجئ دون حل لسياسي حقيقي يضمن سلامة الأرواح".

"الهدف من إعادة الإعمار هو الأموال وليس عودة اللاجئين أو الخوف عليهم".

ويتابع العبد الله أن "النظام السوري يبتز المجتمع الدولي وجواره بموضوع اللاجئين ويحاول ربط إعادة الإعمار بعودتهم"، وهو ما أكد عليه الأسد في لقاءه الأخير مع المسؤول الأممي في دمشق غريفيث.

"يبتز بملفين"

وبعد مرور ثلاثة أشهر على الانفتاح العربي الكبير على دمشق لا يعرف بالتحديد ما إذا كانت العواصم قد التمست أي بادرة إيجابية على صعيد "الأولويات" التي أكد عليها في بيان اجتماع "عمان التشاوري" وقبله في جدة.

وسبق وأن قال محللون لوكالة "أسوشيتد برس" إن الأسد يأمل من خلال القيام بمجرد تحركات محدودة ضد تجارة المخدرات أن يفوز بتمويل عربي لإعادة إعمار البلاد، والعودة إلى الصف العربي، بل وممارسة بعض الضغط من أجل إلغاء العقوبات الغربية.  ويعكس حديث المحللين ما قاله المقداد في الرابع عشر من يونيو الماضي، بينما كان قد صرّح قبل ذلك بأن علاقة سوريا مع الدول العربية لا تسير بمقاربة "خطوة مقابل خطوة" بل على أرضية اتخاذ خطوات جماعية للحل السوري.

وتوضح الكاتبة والناشطة السياسية السورية، عاليا منصور أن "النظام كان واضحا منذ البداية بأنه سيستغل ملفين يهمان العرب لابتزازهم، الأول هو الكبتاغون والثاني اللاجئين".

وتقول منصور لموقع "الحرة": "الكبتاغون يشكّل أولوية للأردن ودول الخليج واللاجئين للأردن ولبنان. هذان الملفان يستغلهما الأسد من أجل المال ومحاولة رفع العقوبات عنه، ولكن بالنهاية لا هو سيوقف تجارة الكبتاغون ولا سيسمح بعودة اللاجئين".

"تجارة الكبتاغون تدر المليارات ليس على النظام فحسب بل على إيران وميليشياتها، كما أنها سلاح أثبت فعاليته بحرب إيران على المجتمعات العربية".

أما موضوح اللاجئين فتضيف منصور أن "إعادة الاعمار تطلب حلا سياسيا وفق القرار 2254 لا يبدو قريبا، ويتطلب رفع العقوبات، وهذا لن يحصل وإن حاول البعض".

ويرى إياد حميد، وهو باحث كبير في برنامج التطوير القانوني السوري ومقره لندن أن "ملف اللاجئين بالنسبة لبشار الأسد مجرد وسيلة لتحصيل مكاسب من المجتمع الدولي". 

وفي سياق التقارب الأخير مع دول الخليج، تحولت رواية النظام إلى أن عودة اللاجئين تستوجب إعادة الاعمار. 

ويأمل النظام، بحسب ما يقول حميد لموقع "الحرة": "أن يتجاوز الشروط التي وضعها المجتمع الدولي لضخ أموال إعادة الإعمار، بما فيها الانخراط في العملية السياسية وفقا لـ 2254 والاستحقاقات الاخرى في الملفين الحقوقي والإنساني".

"النظام لم يلتزم بأي وعود"

وفي عام 2022 حذرت الأمم المتحدة من أن جزءا ضئيلا فقط من اللاجئين الذين هم بحاجة إلى إعادة التوطين في بلد ثالث يتاح لهم ذلك، مشيرة إلى أن الاحتياجات على هذا الصعيد "سترتفع بشكل حاد في 2023".

وأعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنها تتوقع أن يحتاج أكثر من مليوني لاجئ إلى إعادة التوطين في 2023.

وبحسب المفوضية "يمثل اللاجئون السوريون أكبر نسبة من الأشخاص الذين لديهم احتياجات لإعادة التوطين على مستوى العالم، وذلك للعام السابع على التوالي، نظرا لأن الأزمة السورية لا تزال تعتبر أضخم حالة من حالات اللجوء في العالم".

وبينما يقول الحقوقي السوري العبد الله إن "عودة السوريين من دول الجوار وتحت إطار الضغط والظروف الإنسانية السيئة قد تحصل" يستبعد أن تنعكس هذه الحالة على أولئك المقيمين في دول أوروبا.

ومع ذلك يشير الحقوقي إلى أن "النظام ينظر للاجئين على أنهم مدخل للموارد المالية، وبالتالي لن يسهّل العودة حتى يحصل على الأموال".

"النظام لم يلتزم بأي نظام ولا يريد سماع قرار 2254"، ويرى الحقوقي أن "عودته إلى الجامعة العربية باتت شكلية وإعلامية وبروتوكولية، ولن يحصل النظام من خلالها على الأموال أو إعادة الإعمار".

ولم تغيّر عودة النظام إلى الجامعة وعودة علاقات بعض الدول معه بالواقع السوري شيئا، وفق ما تقول الناشطة السياسية منصور. 

على العكس توضح أن "الوضع الاقتصادي يزداد سوءا، وحالات الهجرة أو الهروب من مناطقه تزداد يوميا حتى بتنا نسمع عن مراكب تقل مهاجرين غير شرعيين من مناطق سيطرة الأسد".

وترى منصور أن "النظام يريد مجتمعا متجانسا كما وصفه الأسد. يريد سوريا لمن (يدافع عنها) أي للميليشيات التي شاركته بقتل السوريين، أما اللاجئين في دول الجوار فهو لا يريدهم ولن يسمح بعودتهم".

لكن "وإن اضطر في لحظة ما إلى السماح لبضع مئات بالعودة، إلا أن ذلك لا يعني أبدا أنه سيسمح بعودة ملايين السوريين"، حسب ذات المتحدثة.

من جانب آخر يعتقد الباحث القانوني السوري إياد حميد أن "نظام الأسد قد لا يرغب فعلا بعودة اللاجئين إلى سوريا"، إذ "يستغل حاجة اللاجئين للأوراق الرسمية وجوازات السفر وغيرها لفرض رسوم باهظة تشكل أحد مصادر دخله الرئيسية".

ويضاف إلى ذلك أن "التحويلات المالية التي يرسلها السوريون في المهجر تدر الملايين من القطع الاجنبي لصالح النظام"، عدا عن "أنها تساعد إلى حد ما في تخفيف وطء الأزمة الاقتصادية على المجتمع السوري الذي خذلته سياسات حكومة النظام، وبالتالي ترفع بعض العبء عنه"، وفق الباحث القانوني.

وتؤكد الناشطة منصور أن "ملف اللاجئين والنازحين بالنسبة للنظام ملف يبتز من خلاله الأمم المتحدة بموضوع المساعدات، والدول العربية من أجل استغلال نفوذها في الغرب بما يتعلق بالعقوبات".

وفي يونيو الماضي كانت وكالة "بلومبيرغ" نقلت عن مصادر مطلعة قولها إن السعودية والإمارات تضغطان على حلفائهما في أوروبا لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة السورية وتخفيف العقوبات.

وأضافت المصادر أن "المسؤولين السعوديين والإماراتيين مارسوا ضغوطا على نظرائهم في الاتحاد الأوروبي وعلى مستويات مختلفة لعدة أشهر"، وأنهم "أشاروا إلى أن التحركات الدبلوماسية لإنهاء الصراع المستمر في سوريا منذ 12 عاما لم تعد مجدية ما لم يتم تخفيف العقوبات للمساعدة في إنعاش الاقتصاد السوري المنهار".  وأكد المسؤولون أيضا أن "التعافي الاقتصادي قد يجذب ملايين اللاجئين السوريين إلى وطنهم، مما يخفف الضغط على الدول المجاورة التي تستضيفهم مثل لبنان والأردن".

في المقابل استبعدت دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية بما في ذلك فرنسا وألمانيا إعادة العلاقات مع سوريا، قائلة إنها لن تكافئ نظاما متهما بقتل شعبه.  وقال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في تصريحات له خلال مؤتمر للمانحين في سوريا عقد في بروكسل مؤخرا إن "الظروف غير مواتية ليغيّر الاتحاد الأوروبي سياسته بشأن سوريا" في ظل غياب "إصلاحات سياسية حقيقية" في البلد.  وأوضح أن الاتحاد الأوروبي سيُبقي على عقوباته على نظام الأسد ولن يدعم عودة السوريين إلى بلدهم ما لم تكن عودة "طوعية" وآمنة وخاضعة لمراقبة مجموعات دولية.

الإدارة الذاتية الكردية تسيطر على مناطق واسعة في شمال وشرق سوريا
الإدارة الذاتية الكردية تسيطر على مناطق واسعة في شمال وشرق سوريا

رغم أن البيان الأخير الذي أصدرته "الإدارة الذاتية" في شمال وشرق سوريا بشأن "انتخابات البلديات" حَمل شكلا جديدا على صعيد عملية التنظيم والتحضيرات، إلا أنه قوبل، للمرة الثانية، بمعارضة عبّرت عنها الولايات المتحدة.

فما السر وراء تمسك "الإدارة" الكردية بهذه الانتخابات؟ وما الذي تريده من وراء ذلك؟ لاسيما في ظل وجود معارضة أميركية، وموقف تركي يستند على التلويح بالعصا العسكرية في حال تمت ترجمة هذه الخطوة على الأرض؟

وكانت "الإدارة" قد أجلت تنظيم الانتخابات لمرتين في مايو ويونيو الماضيين وللمرة الثالثة في شهر أغسطس. وجاءت الخطوة الأخيرة بعد بيان نشرته الخارجية الأميركية أكدت فيه أن "شروط الانتخابات الحرة والنزيهة في شمال وشرق سوريا غير متوفرة".

وعادت الخارجية الأميركية لتشدد على موقفها، الأسبوع الماضي، مشيرة إلى أنها "لا تدعم الإعلان الأخير الصادر عن الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا، الذي دعا اللجنة العليا للانتخابات لبدء الاستعدادات للانتخابات البلدية".

وأضافت أن الولايات المتحدة أعربت باستمرار عن ضرورة أن تتمتع أي انتخابات في سوريا بالحرية والنزاهة والشفافية والشمولية، بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254"، وأنه "لا يتم حاليا استيفاء الشروط اللازمة لإجراء انتخابات مماثلة في سوريا، بما في ذلك في شمال البلاد وشرقها".

وتسيطر "الإدارة الذاتية" على مناطق واسعة في شمال وشرق سوريا، وتعتبر "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ذراعها العسكري، وقبل الكشف عن الاستعدادات المتعلقة بتنظيم "الانتخابات" في مايو الماضي كانت أصدرت "قانون التقسيمات الإدارية".

وبموجب ذلك القانون قسّمت المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى 7 "مقاطعات" هي الرقة ودير الزور والجزيرة ومنبج وعفرين والطبقة والفرات"، وأوضحت حينها أن "الانتخابات" التي تنوي تنظيمها ستستهدف وتكون بناء على الشكل المذكور.

ماذا حصل مؤخرا؟

وفقا لقرار حمل رقم 7، أصدرته "الإدارة الذاتية" في الخامس من سبتمبر الحالي، فوضت الأخيرة "الهيئة العليا للانتخابات" التابعة لها بدء العمل على إجراء "انتخابات البلديات". وبينما لم تحدد موعدا ثابتا تركت الباب مفتوحا أمام عملية التنظيم.

وقالت في بيان ورد فيه نص القرار إن "الانتخابات ستجري في وقت تراه الهيئة العليا مناسبا، وبحسب وضع كل "مقاطعة" على حدة، وهو ما دفع الخارجية الأميركية للتأكيد على موقفها، الأسبوع الماضي.

وتواصل موقع "الحرة" مع سنيم محمد ممثلة "مجلس سوريا الديمقراطية" (مسد) في واشنطن للحصول على تعليقات بشأن أسباب تمسك "الإدارة الذاتية" بـ"انتخابات البلديات، لكنها رفضت التعليق على ذلك.

ومن جانبه أوضح القيادي السابق في "مسد"، رياض درار أنه "لا أحد يعرف السر وراء الموقف الأميركي والإصرار الحالي على عدم إجراء الانتخابات".

ويقول درار لموقع "الحرة" إن "المندوبين الأميركيين في مناطق شمال وشرق سوريا كانوا دائما يصرون على أن تجري انتخابات من أجل حوكمة سليمة في المناطق، ولتسليم البلديات للمؤهلين والأشخاص القادرين على إدارة مؤسسة بشكل جيد".

ولكنه يضيف: "وعندما بدأت الفكرة لاحظنا الموقف الأميركي الذي يقول إنه ليس من الوقت المناسب إجرائها.. وعلى أساس ذلك تم تأجيل الانتخابات مؤخرا".

وفي الوقت الحالي يتم مراجعة "التوجيهات الأميركية" و"التهديدات التركية"، "لأننا لا نريد أن ندخل في مواجهة لا مع أنقرة ولا مع الحليف الأميركي"، وفق حديث القيادي السابق في "مجلس سوريا الديمقراطية".

وكانت تركيا رفعت سقف تهديداتها ضد "الإدارة الذاتية" وهيكلها العسكري "قسد" خلال الأشهر الماضية، وارتبطت تلك الحالة على نحو كبير بالإعلان الأول الذي انتشر بخصوص التحضيرات والاستعداد لتنظيم "الانتخابات".

ويشير درار إلى أن الخطوة الأخيرة التي وقعت قبل أسبوع (تغيير شكل عملية التنظيم وترك القرار لكل مقاطعة على حدة) جاءت بموجب "اقتراح من اللجنة المشرفة، وبأن تكون هناك إجراءات انتخابية في المقاطعات ودون مواعيد محددة".

وبمعنى آخر أن "كل بلدية أو منطقة تحدد الظرف المناسب وتقيم انتخاباتها دون أي إعلان عام"، وفق القيادي السابق في "مسد"، وهو الممثل السياسي لـ"قوات سوريا الديمقراطية".

"سببان وعملية تدوير"

ولا يعرف حتى الآن ما إذا كانت كل منطقة تخضع لـ"الإدارة الذاتية" ستمضي باتجاه تنظيم "الانتخابات" بشكل فردي، بحسب ما أشار القرار الأخير الذي حمل الرقم 7، والصادر في 5 سبتمبر الحالي.

ويعتقد درار أنه "سيتم مرة أخرى تدوير هذا الأمر بحيث لا يشكل ذلك عرقلة لإدارة المنطقة ولا يزعج الحلفاء".

كما يضيف: "نحن نقدر الظرف وموقف الحليف الأميركي، وربما هناك ظروف تجعله يصدر مثل هذا البيان لرؤية مستقبلية بشأن ما يجري في سوريا ككل".

ويرى الباحث في مركز "عمران للدراسات الاستراتيجية"، سامر الأحمد، أنه يوجد سببان وراء تمسك "الإدارة الذاتية" بعملية تنظيم "الانتخابات"، الأول هو "كسب الشرعية والهروب من الاستحقاقات المحلية".

ويرتبط الثاني بمحاولة "الإدارة" الكردية "إظهار نفسها أنها لا تتعرض لضغوط دولية".

وكانت "الإدارة الذاتية" تعرضت خلال العامين الماضيين "لاستحقاقين مهمين"، وفق قول الأحمد لموقع "الحرة"، تركا "أثرا على مصداقيتها الدولية وفعلها السياسي".

الاستحقاق الأول هو "الحوار الكردي-الكردي وفشله بسبب إصرار الإدارة على عدم تقديم أي تنازل أو حتى عقد جلساته"، والثاني موضوع محافظة دير الزور، والمشكلة التي اندلعت مع أبناء المنطقة ومع العشائر، دون أن تتم معالجتها حتى الآن.

ويضيف الأحمد: "بعد عام من أحداث دير الزور لم تتحقق مطالب الناس، وبينما بقي الوضع الأمني على حاله لم تتمكن الإدارة الذاتية حتى الآن من السيطرة على تطورات الأحداث".

ويعتبر الباحث أن "خطوة الانتخابات هدفها الهروب من الاستحقاقات، وتحاول من خلال الإدارة الذاتية القفز إلى الأمام لكسب الشرعية"، بعدما كانت تستمدها في السابق من المعركة ضد تنظيم "الإرهاب" وتنظيم داعش.

"قضية الاعتراف السياسي منفصلة"

ومن جانبه يوافق الباحث السياسي الكردي، إبراهيم كابان على أن الفكرة المتعلقة بأن سبب التمسك بـ"الانتخابات" من قبل "الإدارة الذاتية" مرتبط بمحاولة "البحث عن الشرعية والدعم الدولي، وخاصة من التحالف الغربي".

ويضيف إلى ذلك أن "الإدارة تحاول أيضا إظهار قوتها على المستوى الإداري"، وهي "إحدى المسالك الاستراتيجية لتقوية نفسها".

ويعتبر كابان في حديثه لموقع "الحرة" أن الخطوة الأخيرة بخصوص إجراء الانتخابات "جاءت مخففة الحدّة"، وأن "يمكن الآن لكل مقاطعة أن تمضي بعملية التنظيم وفقا لظروفها المناسبة".

ولا يرى أن الموقف الأميركي يخص "الإدارة الذاتية" على نحو محدد، بل سبق أن شمل "انتخابات مجلس الشعب" التي أجراها النظام السوري، قبل شهرين، وفق حديثه.

وهذه ليست أول انتخابات للإدارة الذاتية خلال السنوات الماضية، لكنها الأولى التي كان ينبغي أن تشمل جميع مناطق سيطرتها.

وفي عام 2015، اقتصرت انتخابات المجالس البلدية على "مقاطعة الجزيرة" كما تصفها "الإدارة" الكردية، أي الحسكة. وفي عام 2017، على ثلاث "مقاطعات" فقط.

وتحظى "الإدارة الذاتية" بدعم من الولايات المتحدة.

وكان هذا الدعم قد انعكس خلال السنوات الماضية من طبيعة العلاقة بين التحالف الدولي و"قسد" والحملات العسكرية المشتركة التي أطلقت ضد تنظيم داعش.

ومع ذلك يشير الباحث الكردي كابان إلى أن قضية "الاعتراف العسكري" منفصلة عن قضية "الاعتراف السياسي".

ويوضح حديثه بأنه "لا يعتقد أن الولايات المتحدة أو قوى أخرى في سوريا قادرة على الاعتراف بالأجسام التي تدعمها بشكل فردي، لأن الحل يجب أن يكون عاما وليس محددا في منطقة".

ويعتقد كابان في المقابل أن "الوجود الأميركي في سوريا ليس من أجل دعم مشروع جانبي"، وأن "واشنطن تنظر إلى جميع القضايا كقضية واحدة".

"استعادة شرعية"

ولا تزال الولايات المتحدة تؤكد أن الحل السياسي في سوريا يجب أن يكون بموجب القرار الأممي 2254، وهو ما ينطبق على المناطق التي تديرها "الإدارة" الكردية في شمال وشرق سوريا.

ويشمل القرار الأممي 2254، الذي تقدمت به الولايات المتحدة، قبل سبع سنوات، 16 مادة.

وتنص الرابعة منه على دعم عملية سياسية بقيادة سورية، تيسرها الأمم المتحدة، وتقيم في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر حكما ذا مصداقية يشمل الجميع، و"لا يقوم على الطائفية".

كما تحدد هذه الفقرة جدولا زمنيا وعملية لصياغة دستور جديد، فيما يعرب مجلس الأمن عن دعمه لانتخابات حرة ونزيهة تجرى عملا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرا تحت إشراف الأمم المتحدة.

ويعتقد الباحث الأميركي في شؤون الشرق الأوسط، راين بوهل أن "الأكراد في الوقت الحالي يتطلعون إلى استعادة بعض الشرعية في شرق سوريا، خاصة بعد تلك الاشتباكات التي شهدناها في وقت سابق من هذا العام بين قوات سوريا الديمقراطية والقبائل المحلية".

وكانت المواجهات اندلعت في محافظة دير الزور، ولا تزال تداعياتها قائمة حتى الآن على الأرض وبين أبناء العشائر العربية في تلك المنطقة.

ومن وجهة النظر الأميركية يشير بوهل لموقع "الحرة" إلى أن "الولايات المتحدة ترى أن الانتخابات قد تؤدي إلى تفاقم هذه العلاقات الداخلية".

ويضيف أن "آخر ما تريده واشنطن أن يتحول شمال شرق سوريا إلى صراعات متقطعة بين الجماعات التي تدعم الولايات المتحدة ظاهريا".

ويعتقد الباحث السوري الأحمد أن البيان الثاني للخارجية الأميركية "لافت" وينبه إلى أنه "لا يجب العمل بأي شيء يتجاوز الصلاحيات".

ويعتبر أن "واشنطن تعرف أن إجراء الانتخابات ترسيخ لسلطات الأمر الواقع، وفي حال تم تطبيقها في شرق سوريا قد تتبع قوى أخرى ذات المسار".

ومن ناحية أخرى، يقول إن "واشنطن لا تريد أن تضيف توترا إلى التوترات الأخرى المتعلقة بحرب غزة والمتعلقة بإيران"، في إشارة منه إلى طبيعة العلاقة مع أنقرة، وهي التي ترى "الإدارة الذاتية" جسما مرتبطا بـ"حزب العمال الكردستاني". وتنفي الأخيرة ذلك.

"موقف أميركي مثير للاهتمام"

ومن المرجح أن الأميركيين لا يرون في "الانتخابات" بشرق سوريا وسيلة مواتية في هذا الوقت لتعزيز مصالحهم في سوريا أو على نطاق أوسع، كما يرى ألكسندر لانغلويس الباحث الأميركي والكاتب في مجلة "ذا ناشيونال إنترست".

وفي النقطة الأخيرة يشير لانغلويس إلى أن "تركيا تشكل أهمية بالغة. فواشنطن تحتاج إلى أنقرة في صفها قدر الإمكان في ضوء الاضطرابات العالمية في أوكرانيا والشرق الأوسط (غزة) اليوم".

وقد تعتقد واشنطن أن أي انتخابات في شمال شرق سوريا من شأنها أن تؤدي إلى رد فعل عنيف من جانب تركيا، وقد تدفع أنقرة ودمشق إلى التقارب بشأن الملف السوري.

ويتابع الباحث الأميركي في حديثه لموقع "الحرة": "ونظرا لعدم الاستقرار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، فمن المحتمل أنهما لا تريدان أن تضاف إليهما قضية أخرى الآن. وهذا يتماشى مع دعم واشنطن العام لتجميد الصراع في السنوات الأخيرة".

أما بخصوص الأسباب التي تدفع "الإدارة الذاتية" للتمسك بـ"الانتخابات" يشير الباحث إلى أنه "يبدو واضحا أن الأكراد يدفعون باتجاه إجرائها لزيادة شرعيتهم، وبالتالي زيادة أي قوة تفاوضية مستقبلية مع دمشق".

ومن المرجح أيضا أنهم "يعتقدون أن بإمكانهم السير في مسارين: أحدهما إجراء محادثات في نهاية المطاف مع الأسد، والآخر زيادة الحكم الذاتي من أجل الانفصال في نهاية المطاف".

ولا يعتقد لانغلويس أن العديد من الناس لديهم أوهام بشأن الفرضية الأخيرة (الانفصال)، ولذلك فإن المسار الأول هو الأكثر ترجيحا حتى الآن.

ويرى أن الموقف الأميركي "مثير للاهتمام الآن"، متحدثا عن تحول جذري منذ ما يقرب من عامين، ويتمثل بتحول الدعم الأميركي في شمال وشرق سوريا "من التركيز على الانتخابات إلى موضوعات أخرى تتعلق بالحكم وبناء السلام".