بين صورتين متناقضتين هيمن "حزب البعث" في سوريا على مشهد المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري خلال الأيام الأخيرة، وبينما كانت رموزه تسقط في السويداء وينثر المتظاهرون "التقارير" الموجودة في مراكزه، أشرف بشار الأسد على "انتخابات" داخله تمخض عنها قيادة مركزية جديدة، مع تعيينه أمينا عاما من جديد.
وخلال الإعلان عن أسماء القيادة الجديدة وأعضائها، قبل ثلاثة أيام، ألقى بشار الأسد خطابا طويلا زادت مدته عن الساعة، واعتبر فيه أن الحركة الجديدة التي شهدها "البعث" تمثل "تحولا حقيقا ومفصلا تاريخيا".
رئيس النظام السوري بخطابه عاد إلى الوراء وقال إن حزبه "واجه حلف بغداد وعصابات الإخوان المسلمين" في البلاد، وفي أعقاب مروره على محطة "الثامن من آذار (مارس) والحركة التصحيحة" أكد على المهمة الجديدة لـ"البعث" في "الحروب العقائدية" وعلى "المرحلة الإيديولوجية".
ولم ينسَ ما شهدته سوريا على مدى الأعوام الثلاثة عشر الماضية، وخصص جزءا من خطابه لمهاجمة معارضيه، وبينهم المقيمين في الولايات المتحدة الأميركية، الذين يدفعون باتجاه اعتماد قوانين، كـ"محاربة التطبيع" معه و"مكافحة الكبتاغون".
كما انتقد من وصفهم بـ"الثيران" (الثوار) لعدم إطلاقهم صاروخ على إسرائيل نصرة غزة. وهو لم يفعل ذلك منذ بداية الحرب، مع أنه أحد ركائز ما يسمى بـ"محور المقاومة"، ويخضع لسيطرته الخط المحاذي للجولان.
"محطات حملت ذات السلوك"
وجاء الإعلان عن نتائج "القيادة الجديدة المركزية للبعث" بعد ثلاثة أشهر تخللها الكثير من الترويج لما قد يشهده الحزب على صعيد بنيته الداخلية، أو حتى على الدور الذي سيضطلع فيه على مستوى الفرد والمجتمع، كما أشار رئيس النظام لأكثر من مرة.
ورغم أن التغيير يبدو اعتياديا بالنظر إلى محطات مشابهة حصلت سابقا، فإن خبراء وباحثين تحدثوا لموقع "الحرة" يقولون إن السلوك الذي اتبعه الأسد في الوقت الحالي يختلف من زاوية التوقيت، وتقف وراءه أهداف متباينة.
وكانت آخر المحطات في عام 2018، عندما تغيرت تسمية "القيادة القطرية" إلى "القيادة المركزية". كما ألغي قبل 6 سنوات منصب الأمين القطري المساعد، ليبقى فقط منصب الأمين العام والأمين العام المساعد.
وفي 2013 وعندما كانت الاحتجاجات السلمية المناهضة لنظام الأسد في ذروتها، أجرى "البعث" بقيادة الأسد الابن تغييرا شاملا على قيادته.
وتحدث حينها رئيس النظام السوري عن "أخطاء متراكمة"، وعاد ليرددها من جديد في "الانتخابات"، التي حصلت قبل أيام.
ماذا يريد الأسد؟
يوضح الباحث المتخصص في العلاقات العسكرية المدنية بمركز "عمران للدراسات الاستراتيجية"، محسن المصطفى، أن "حزب البعث مجرد واجهة حكم سياسية"، وأن "بقاءه ضرورة ملحة للنظام السوري".
ورغم أن النظام أجرى "انتخابات"، فإن رئيسه بشار الأسد عين 45 عضوا بنفسه، وذلك بعد توسيع اللجنة المركزية من 80 إلى 125 شخصا.
ويعتقد المصطفى أن الحركة الأخيرة التي اتبعها النظام على صعيد البنية الداخلية لـ"البعث" وحتى على صورته الإعلامية مرتبطة بمسعى من جانبه "لإبقاء وجود حياة سياسية".
ومن جانب آخر، يحاول الأسد من وراء ذلك "تقليل نظرة الديكتاتورية" الموسومة به، حسب الباحث السوري في حديثه لموقع "الحرة".
ولا تلوح في أفق سوريا، بعد 13 عاما من الحرب، أي بادرة للخروج من الركود السياسي والعسكري والمعيشي الحاصل، وعلى العكس تبدو البلاد داخليا ممزقة بين 4 مناطق نفوذ.
وفي مناطق سيطرة النظام نفسه كانت الكارثة الاقتصادية المزمنة ودوافع أخرى قد دفعت الشارع في السويداء ذات الغالبية الدرزية للانتفاض، قبل تسعة أشهر.
وما يزال المئات من المتظاهرين هناك يخرجون إلى الساحات ويطالبون بإسقاط الأسد وتطبيق القرارات الأممية الخاصة بالحل السياسي.
واتجهوا لأكثر من مرة إلى إغلاق الشعب الحزبية وتمزيق الشعارات المرفوعة على واجهتها وداخل مكاتبها، وحرق وتمزيق صور الأسدين.
ويرى الناشط السياسي السوري، الدكتور ميشيل صطوف، أن "الأسد مسرحي ويعمل بين الفترة والأخرى على إشغال الساحة"، سواء في داخل البلاد أو خارجها.
ويقول لموقع "الحرة" إنه يسعى من خلال حركاته الأخيرة المرتبطة بـ"البعث" للهروب من الكثير من الأسئلة.
تتعلق الأسئلة بموقفه من الوضع في غزة والوضع الاقتصادي المتدهور وطبيعة علاقته مع حلفائه، وخاصة الإيرانيين الذين استهدفوا داخل سوريا لأكثر من مرة.
ومن جانب آخر وبينما يصف صطوف ما حصل من جانب النظام السوري ورئيسه الأسد كـ"النفخة في البالون"، يشير إلى أنه يصب في إطار "الإيحاء للبعثيين بوجود وضع جديد على صعيد البعث والبلد".
وقد يكون ما حصل أيضا مرتبطا برسائل "موجهة للعرب" على أن هناك عهدا سياسيا جديدا في البلاد مع وجود انفتاح، حسب الناشط السياسي.
"جملة استحقاقات"
ورغم أن إلغاء المادة الثامنة من دستور 2012 والتي تنص على أنه "الحزب القائد للمجتمع والدولة "، فإن نسبة تمثيل "البعث" الحاكم في مجلس الشعب ازادت بشكل مطّرد على مدار الأدوار التشريعية السابقة منذ عام 2003.
وجاء ذلك على حساب تمثيل الأحزاب الأخرى وقائمة المستقلين، إذ بلغت نسبة تمثيل حزب البعث 66.4 بالمئة أي نسبة ثلثي أعضاء مجلس الشعب، وفق دراسة أعدها الباحث المصطفى في عام 2020.
وكان خطاب الأسد قد صب في ذات السياق، قبل أيام. إذ أكد على دور حزبه في السلطة والبلاد، واعتبر أن "سياسات الحكومة يجب أن تنبثق من رؤية البعث، من دون أن يلغي أحدهما الآخر، لأن هناك حديثا من وقت لآخر حول تراجع دور الحزب".
كما أضاف أن "تراجع دور الحزب يعني إضعافه، وما يجري ليس تراجعا وإنما إعادة تموضع".
ويعتقد الكاتب والناشط السياسي، حسن النيفي، أن حفاوة الأسد بانتخابات اللجنة المركزية هي محاولة منه لإبقاء الضوء مسلطا من الناحية الإعلامية على الأقل على "عملية إصلاحية يزعم أنه يقوم بها داخل مؤسسة حزب البعث".
وكان إجراؤه الأخير باستبدال اسم القيادة القطرية بالقيادة المركزية في عام 2018، "رسالة طمأنة للمحيط العربي بأن حزب البعث لم يعد يتجاوز تخوم الجغرافيا السورية"، وفق النيفي.
الكاتب والناشط السياسي، يرى أن هناك جملة استحقاقات تواجه الأسد في الوقت الحالي مقابل موجة التطبيع العربي.
ويعتقد في حديثه لموقع "الحرة" أن "مجمل ما يقوم به من إصلاحات مزعومة ما هي إلا تلبية لاستحقاقات خارجية يريد أن يوحي للأطراف الخارجية وفي مقدمتها دول الخليج بأنه ماضي في عملية إصلاحية داخلية".
ومن شأن ما سبق أن يسهم في عملية تعويم نظامه أو إعادة إنتاجه على المستوى العربي".
ويوضح النيفي أيضا أن "نظام الأسد على الدوام هو أكثر استجابة وطواعية للضغوط الخارجية من استجابته لمطالب وحاجات الشعب السوري".
لكن الناشط السياسي ميشيل صطوف يرى أن "النظام لا يُصلَح ولا يُصلِح ولا يَصلُح".
ويقول إنه "لا يمكن التعويل على ما طرحه مؤخرا كتصرف جدي يمكن البناء عليه بحسابات ذات مضمون وطني لحل مشاكل سوريا".
كما يضيف أنه ومنذ يوم تأسيس السلطة في سبعينيات القرن الماضي سادت فلسفة "الزعيم الأوحد" وتسخير الآخر سواء المجتمع أو الأحزاب والفرد، وهو ما ينطبق على عصر الأسد الأب والابن، حسب صطوف.