وسائل إعلام مقربة من النظام السوري نشرت صور التدريبات على سلاح "غاربيا"
وسائل إعلام مقربة من النظام السوري نشرت صور التدريبات على سلاح "غاربيا" | Source: SM

رغم أن التدريبات التي تجريها روسيا لضباط وعناصر جيش النظام السوري ليس جديدة على المسرح الميداني لسوريا، إلا أنها أخذت خلال الأشهر الثلاثة الماضية شكلا جديدا يقوم على تعليمهم آلية "اصطياد" الطائرات المسيّرة واستخدام بقية الأسلحة اللازمة لـ"الحرب الإلكترونية".

سلاح "غاربيا" كان أبرز تلك الأسلحة، بحسب صور ومقاطع فيديو نشرها صحفيون سوريون وشبكات إخبارية بكثرة عبر مواقع التواصل، ودائما ما كان يظهر فيها مجموعة من الضباط الروس وبمحيطهم آخرون من جيش النظام. وبيد الطرفين "بندقية سوداء" لا تشبه مثيلاتها الكلاسيكية.

ويقول خبراء دفاع وباحثون سوريون لموقع "الحرة" إن التدريبات الروسية بشكلها الجديد والحالي تندرج دوافعها ضمن "مسارين".

وبينما يتعلق الأول بتحول التكتيكات العسكرية في محيط المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة في شمال سوريا، يرتبط الثاني بما فرضته الحرب الروسية في أوكرانيا، مع أنها ساحة بعيدة.

وتعلن وزارة الدفاع الروسية منذ سنوات وباستمرار عن تدريبات ومناورات مشتركة مع جيش النظام السوري، وكان آخرها قبل أسبوع في القاعدة التي أسستها موسكو بمدينة طرطوس الساحلية.

وسبق وأن كشفت عن تدريبات خاصة لفرق من جيش الأسد على القفز بالمظلات، وتحدثت في عدة أوقات أيضا عن "مشاريع عسكرية تكتيكية" حضر إحداها شقيق رئيس النظام السوري ماهر الأسد.

وفي حين لم تكشف رسميا عن تدريباتها على "اصطياد" الطائرات المسيرة وأدوات "الحرب الإلكترونية" الأخرى أكدت مصادر تابعة للنظام السوري ذلك وما تزال تنشر عنها وتربطها مع الشكل الجديد للاستهدافات التي باتت تتبعها في شمال البلاد، والقائمة على استخدام "المسيّرات الانتحارية".

"بين سوريا وأوكرانيا"

ومنذ بداية العام الحالي ازدادت التهديدات العسكرية التي كانت تتعرض لها مناطق فصائل المعارضة في شمال سوريا واحدة.

وبعدما كانت تلك المناطق تشهد قصفا يوميا بالقذائف والصواريخ والغارات الجوية وجد مدنيون وعسكريون أنفسهم منذ بداية شهر يناير الماضي أمام خطر "مسيّرات انتحارية" تأتي من بعيد وتطلقها قوات الأسد بشكل مكثف ومفاجئ.

الاستهدافات بـ"المسيرات" أسفرت عن مقتل عدد من المدنيين بحسب ما وثق "الدفاع المدني السوري" في سلسلة بيانات، وقال في وقت سابق إنها "قوّضت سبل عيش السكان، ومنعتهم من الوصول إلى أراضيهم الزراعية واستثمارها".

وما يزال الوضع المذكور قائما حتى الآن، حيث تواصل قوات الأسد قصفها مناطق الشمال السوري وبالتحديد أطراف محافظة إدلب بالطائرات المذخّرة بدون طيار.

ورغم أن فصائل المعارضة تتبع ذات المسار، إلا أن النوع الذي تستخدمه "تصنيع محلي" ولا ينافس من ناحية التوجيه نحو الهدف والضرب بدقة، كما يشير الخبراء والمراقبون.

أما فيما يتعلق بسلاح "غاربيا" فيوضح محلل الدفاع في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في بريطانيا، فابيان هينز أنه عبارة عن "بندقية تشويش".

ويقول لموقع "الحرة" إن التدريبات التي يجريها الروس عليه تذهب باتجاه تلقين العناصر والضباط السوريين آلية التشويش عبره، لاستهداف إشارة الطائرات الصغيرة.

ومنذ بداية حرب روسيا في أوكرانيا روجت وسائل إعلام روسية للسلاح المذكور، ونشرت عدة صور في أثناء استخدامه في ساحة العمليات هناك.

ويشير تقرير لوكالة "نوفوستي" إلى أن "غاربيا" يسيطر على الطائرة المسيرة.

وتذكر الوكالة أيضا أن البندقية السوداء تفقد اتصال "المسيّرة" بوحدة التحكم الرئيسية الأساسية (مطلقها)، كما تستطيع تجميدها في مكانها أو نقلها إلى "نقطة بداية".

"لعبة قط وفأر"

وفقا لمحلل الدفاع هينز فإن التدربيات الروسية لقوات النظام السوري على "غاربيا" غالبا ما تتركز على عملية "حظر الاتصال اللاسلكي بين المشغل والطائرة بدون طيار".

وما يمكنهم فعله أحيانا هو حظر إشارة GPS.

ويتابع هينز: "كمثال: إذا كان لديك طائرة بدون طيار يتم توجيهها بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أو تعتمد عليه فيمكن لبعض هذه الأسلحة (مثل غاربيا) حجب الإشارة".

وروسيا أحد الحلفاء الرئيسيين لرئيس النظام السوري، بشار الأسد. وساعد تدخلها مع إيران في تحويل الدفة لصالح الأسد في الصراع المستمر منذ 13 عاما في البلاد.

وعلى مدى السنوات الماضية أبرمت موسكو عدة اتفاقيات بعد سلسلة عمليات عسكرية، وثبتت بموجبها الجبهات على الأرض.

ومع ذلك يعتقد مراقبون أنها ورغم ذلك، أي تثبيت الصراع، إلا أنها تخشى "الخطر القادم من السماء"، وعلى أساس ذلك تكّثف تدريباتها على اعتراض "المسيّرات" وآلية إسقاطها.

وغالبا ما تنطلق مسيّرات قوات الأسد في شمال سوريا باتجاه مناطق سيطرة فصائل المعارضة من خطوط التماس على مسافة لا تتجاوز الـ 3 كيلو مترا، وأحيانا تكون الهجمات بأكثر من طائرة أو طائرتين بنفس التوقيت.

وكان الزج بها من جانب جيش النظام أخذ صورة مكثفة بعدما استهدفت طائرة مسيّرة الكلية الحربية بحمص وسط البلاد، مما أسفر عن مقتل عشرات الطلاب الضباط.

وما تزال ملابسات حادثة الكلية الحربية غامضة حتى الآن، وبينما لم يحدد النظام السوري وروسيا جهة بعينها تقف وراء الهجوم الكبير ألمحت وسائل إعلامهم إلى مسؤولية إحدى التشكيلات المسلحة العاملة في محافظة إدلب.

ويوضح الباحث هينز أن المدى الخاص بسلاح "غاربيا" الروسي قصير جدا، ويمكن وضعه كنقطة "دفاع".

وكذلك لا يمكن للبندقية الدفاع عن مساحات كبيرة، إذ يقتصر عملها ضمن مساحات صغيرة فقط.

وعندما نتحدث عن الطائرات بدون طيار والإجراءات المضادة لها، فهي "لعبة قط وفأر" على حد تعبير هينز.

ويشرح حديثه بالقول: "في بعض الأحيان قد يكون لديك إجراء ضد طائرة بدون طيار.. لكنه قد يعمل لبضعة أسابيع فقط ثم يقوم الجانب الآخر بإجراء تحسينات تتطلب أدوات أخرى".

"روسيا تستشعر الخطر"

وبعد وقف العمليات العسكرية في سوريا بموجب الاتفاقيات في درعا والغوطة وحمص وقبلها "أستانة"، بدأت روسيا بتدريب الجيش السوري "لأنها تريده قويا وقادرا على حماية الدولة بعيدا عن الميليشيات الخاصة"، بحسب حديث محمود الفندي.

ومن ناحية أخرى يقول المحلل السوري المقيم في موسكو لموقع "الحرة" إن التدريبات الخاصة على اعتراض "الطائرات المسيرة" لها معنى آخر.

الفندي يعتبر أن "روسيا لديها معلومات أن أوكرانيا سلمت فصائل عسكرية في شمال غرب سوريا طائرات مسيّرة انتحارية"، وكانت إحدى المسيرات استهدفت الكلية الحربية بحمص، على حد قوله.

ويضيف: "ولذلك من المهم حماية الجيش السوري وتدريبه"، وأنه بالإضافة إلى البندقية "غاربيا" نشرت روسيا قواعد دفاعات إلكترونية في المنطقة.

ويوضح الباحث السوري في مركز "جسور للدراسات"، وائل علوان أنه من الملاحظ أن روسيا تفاعلت بشكل كبير جدا مع الشكل الجديد للحروب في العالم، التي تعتمد على التطور الرقمي والأساليب الجديدة للقتال عن بعد وأهمها "المسيّرات".

ويرى علوان في حديثه لـ"الحرة" أن موسكو تخشى بالفعل على مصالحها من "المخاطر القادمة من السماء".

وتستشعر أيضا أن "الحرب في أوكرانيا قد تطول، وربما تفتح جبهات أخرى أو تتوسع أخرى".

ولذا ووفقا لحديث الباحث السوري فإن "روسيا بحاجة لإعداد مقاتلين ومجموعات قادرة على التفاعل مع الشكل الجديد والمتسارع لأدوات الحرب والأسلحة المتطورة وخاصة المسيرات".

وعلاوة على أنها تستفيد من وجودها في سوريا تحظى تحركاتها الحالية بعامل مهم يرتبط بـ"التنسيق مع إيران"، وهي من الدول الفاعلة بملف التصنيع الحربي المسيّر.

"سوريا ليست أوكرانيا"

وبعد العمليات العسكرية الأخيرة التي حصلت في محيط إدلب السورية، عام 2020، لم يدخل "الجيش السوري" بأي معارك كبيرة كما تلك التي قادها مع روسيا أولا.

وفي الوقت الحالي لا توجد مؤشرات إلى أي تغيّر قد يطرأ على الجبهات الفاصلة بين أطراف الصراع، مع أن الهجمات بالمسيرات متواصلة على أكثر من جبهة حتى الآن.

ولا يعرف ما إذا كان الروس هم الذين يقودون مجريات استخدام هذا التكتيك الجديد بالفعل على الأرض، وما إذا كان الإيرانيون على الخط أيضا.

ويعتبر محلل الدفاع هينز أن "سوريا ليست مثل أوكرانيا"، قاصدا المواجهة الحاصلة بـ"الطائرات المسيّرة الانتحارية".

ولذلك "لا يوجد نفس القدر من الجهد لإنتاج طائرات بدون طيار وتطوير التقنيات كما هو الحال في أوكرانيا".

ومن المحتمل أن تظل الأسلحة المضادة للطائرات بدون طيار وبينها "غاربيا" فعالة جدا ضد الطائرات الصغيرة بدون طيار مثل المروحيات الرباعية المتوفرة تجاريا، وفق حديث هينز.

مخيم للنازحين في سوريا. أرشيف
مخيم للنازحين في سوريا (أرشيف)

في زوايا الذاكرة المحروقة من اللجوء، تقف حورية محمد، شابة سورية تبلغ من العمر 22 عامًا، شاهدة على حياة كاملة قضت نصفها تقريبًا داخل مخيم الزعتري في الأردن. 

ومع سقوط نظام بشار الأسد، كان النازحون السوريون يأملون أن تبدأ مرحلة جديدة من السلام وإعادة الإعمار، لكن الواقع أثبت أن نهاية الحرب لا تعني نهاية المعاناة، إذ أن ملايين المهجّرين لا يستطيعون العودة، لا لأسباب أمنية فقط، بل لأن بيوتهم دمرت، وقراهم خربت، والمرافق الأساسية معدومة.

وحين وصلت إلى  الزعتري شمالي الأردن، كانت لا تزال طفلة، بالكاد تفهم معنى النزوح، لكن السنوات الطويلة داخل أسوار الخيام والكرفانات جعلتها تنضج قبل أوانها، وتحمل همومًا أكبر من عمرها.

"في البداية، لم يكن المخيم مهيئًا للحياة"، تروي حورية، بنبرة تعبّر عن مزيج من الألم والتأقلم. "ما كان في كهرباء ولا ماء، الحمامات والمطابخ مشتركة، وكان الوضع صعب جدًا، خصوصًا للأطفال والنساء.. سكنّا في خيام تحت الشمس والمطر، وكل شيء كان ينقصنا".

"مدينة نزوح"

تحوّلت الخيمة إلى منزل، والمخيم إلى مدينة، بل إلى ما يشبه الوطن البديل، رغم أنه لا يشبه الوطن أبدًا. ومع مرور الوقت، تحسنت بعض الخدمات، وتمّ استبدال الخيام بالكرفانات، وتوفرت الكهرباء والمياه تدريجيًا، لكن الذاكرة بقيت مثقلة بالبدايات القاسية. وتقول حورية: "الزعتري صار خامس أكبر مدينة بالأردن، بس الناس هون ما نسيوا بيوتهم، ما نسيوا حياتهم قبل الحرب".

ورغم سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024، لم يكن ذلك كافيًا لإقناع الناس بالعودة. البعض جرب العودة وندم، والبعض الآخر ما زال ينتظر أن تتحسن الأوضاع. تؤكد حورية: "الناس اللي رجعت على سوريا كلها ندمت. الوضع المعيشي هناك صادم، وما حدا عنده بيت يرجع عليه. كل شي مهدوم، وكل حدا ناطر يتحسن الوضع ليقرر يرجع".

لكن الغربة ليست وحدها العائق، فحتى الأمل أحيانًا يصبح رفاهية. في أحد الأمثلة المؤلمة، تروي حورية عن رجل ينحدر من بلدة إنخل بمحافظة درعا، قرر مغادرة الزعتري عبر البحر لعلاج ابنه المصاب بسرطان الدم، بعدما أصبحت الرعاية الصحية المجانية نادرة في المخيم. 

ولم يصل ذلك الرجل إلى أوروبا، بل غرق في البحر قبالة سواحل ليبيا، تاركًا خلفه زوجة وأطفالًا ينتظرون عودته.

"هذا مثال على معاناة اللاجئين والنازحين "، تقول حورية، قبل أن تصمت لحظة، وكأنها تحاول منع دموعها من الانهمار. في حياتها، كما حياة مئات الآلاف من السوريين، تحوّل الانتظار إلى أسلوب حياة، والغربة إلى هوية مؤقتة لا أحد يعرف متى تنتهي.

من حصار الجوع إلى التيه في المخيمات

وفي يوم عادي من عام 2013، كان رياض محمد السوفاني (58 عاما) يجلس مع عائلته في جنوب العاصمة دمشق، لا يدرك أن حياته ستتحول إلى كابوس طويل سيظل يعيشه لسنوات... قصف بالهاون، غارات جوية، قنص، وحصار خانق لحي التضامن حتى أصبح الخروج من المنزل بحثًا عن الطعام مهمة انتحارية.

"لم يكن لدينا سوى الماء والبهارات، وكنا نأكل أوراق الفجل التي لا تقترب منها حتى الحيوانات"، يقول رياض وهو يسترجع واحدة من أقسى لحظات حياته.

كانت الأوضاع في جنوب دمشق مأساوية إلى حد يفوق الوصف، لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فبينما كان رياض يحاول البقاء على قيد الحياة، كان الموت يحصد أحبّ الناس إليه.

"قتلت والدتي بقصف جيش النظام، ثم قتل ابني محمد، وعمره 23 عامًا، وبعدها فقدت ابني الآخر صلاح الدين، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، بسبب نقص الدواء"، يضيف رياض، بينما تتقطع كلماته بحزن لا يوصف.

لم يكن القتل هو السلاح الوحيد الذي استخدمه النظام، بل كان الحصار والتجويع أكثر قسوة من القصف، خاصة عندما بدأ "الناس يموتون أمام أعينهم بسبب انعدام الطعام".

في النهاية، وبعد سنوات من الصمود تحت الحصار قرر النظام فتح معبر لخروج بعض العائلات من المنطقة، لكن الرحلة كانت محفوفة بالمخاطر، حيث تعرض الشباب للاعتقال، وكان  ابن شقيق رياض من بين المعتقلين.

"عندما خرجت عائلتي من جنوب دمشق، بقيت أنا وحدي في الحصار، ثم جاء اتفاق التهجير إلى الشمال السوري عام 2018، وهو أصعب ما مررت به"، يقول رياض بصوت خافت، وكأن الذكرى ما زالت تنهش روحه.

كانت مغادرة المنزل أقسى من الموت نفسه، أن تترك المكان الذي ولدت فيه، وتذهب إلى مصير مجهول، حيث لا شيء مؤكد سوى أنك ستكون"لاجئًا في وطنك".

"معاناة لا تنتهي"

وصل رياض إلى الشمال السوري بعد رحلة تهجير طويلة، ليدرك أن الحياة هناك لم تكن أقل قسوة من الحصار.

"تخيل أن يكون الحمام والمياه وكل شيء مشتركًا مع مئات الناس، تخيل أن تعيش في خيمة تحت رحمة الأمطار الشتوية والحر الشديد في الصيف، محاطًا بالحشرات والزواحف، وأن تعتمد على مساعدات لا تأتي إلا بين مد وجزر"، يروي رياض.

في السنوات التي تلت النزوح، حاول رياض البحث عن عمل، عن حياة كريمة، لكنه اصطدم بواقع اقتصادي قاسٍ، حيث لا وظائف، ولا فرص، ولا مستقبل واضح.

"تأقلمنا مع الوضع رغم صعوبته، انتظرنا يومًا تتحسن فيه الأمور، لكن كل شيء ظل كما هو"، يقول رياض، وكأنه يحاول إقناع نفسه بأن الصبر وحده كافٍ.

فرحة ممزوجة بالصدمة

وفي 8 ديسمبر 2024، سقط نظام الأسد بعد 14 عامًا من الحرب والدمار، وسرعان ما انتشرت الأخبار في المخيمات، لتتحول الخيام البائسة إلى ساحات فرح.

"نزل الناس إلى الشوارع، تبادلوا التهاني، الجميع كان يحلم بالعودة إلى قراهم، إلى منازلهم التي تركوها منذ سنوات"، يصف رياض اللحظة التي اعتقد فيها أن الألم قد انتهى أخيرًا.

لكن عندما بدأ النازحون في العودة إلى بلداتهم، كانت المفاجأة الصادمة في انتظارهم.. "كثيرون لم يجدوا بيوتهم، وكثيرون لم يجدوا حتى ما يثبت أنهم كانوا يعيشون هناك يومًا ما"، يقول رياض بأسى.

فقد البعض كل شيء، ولم يتمكن آخرون من العودة بسبب غياب وسائل النقل أو المال اللازم للانتقال، ليجدوا أنفسهم مجبرين على البقاء في المخيمات، على أمل أن يأتي اليوم الذي تتحقق فيه العودة حقًا.

"نحن لا نطلب الكثير، فقط أن نعود إلى بيوتنا، إلى الأرض التي ولدنا فيها، لكن يبدو أن الوطن الذي حلمنا به لا يزال بعيدًا"، يختتم رياض شهادته، بنبرة تحمل خليطًا من الأمل والخذلان. 

"حلم الموت الدافئ"

وفي إدلب، يعيش أحمد الحموي،(67 عاما) الذي اضطر للفرار من ريف محافظة حماة عام 2014 بعد تصاعد القصف والاشتباكات في منطقته، حيث وجد نفسه في مدينة غريبة عنه، لكنها كانت الخيار الوحيد له ولعائلته للبقاء على قيد الحياة.

"لم يكن لدينا وقت لجمع أي شيء، خرجنا من المنزل ونحن بالكاد نحمل أطفالنا"، يقول أحمد، الذي كان يعمل مدرسًا للغة العربية قبل أن تسرقه الحرب من فصوله وطلابه.

يعيش أحمد اليوم في بيت صغير في إدلب، بعيدًا عن مسقط رأسه، لكنه لا يزال يشعر بأنه "غريب داخل وطنه"، حيث فقد معظم أصدقائه، فيما لا يزال بعض أفراد عائلته مفقودين.

ويحلم الحموي بالعودة إلى مسقط رأسه، مضيفا: "أريد أن أموت في بيتي الذي بات أنقاضا بعدما كانت جدرانه تشهد على طفولتي وشبابي وكهولتي، لكن حتى الموت لم يعد بهذه السهولة"، يضيف أحمد بصوت مبحوح.

محمد خير.. "لا أصدق ما حدث"

في إحدى المخيمات القريبة من مدينة إعزاز شمال سوريا، يجلس محمد خير حمود (54 عامًا)، محاولًا إشعال موقد صغير ليحضر بعض الشاي، لكن الرياح الباردة تصعب عليه المهمة. 

محمد، الذي كان يقطن في حي العروبة بالقرب من مخيم اليرموك، جنوب دمشق، لم يكن يخطر بباله يومًا أنه سيعيش داخل خيمة، محاصرًا بين البرد والذكريات.

في عام 2018، اضطر محمد لمغادرة جنوب دمشق إلى الشمال السوري بعد سنوات مريرة من الحصار والقصف والجوع.

"عندما غادرت منزلي، كنت أحمل مفتاحه معي، كنت أعتقد أنني سأعود خلال أسابيع أو أشهر، لكن السنوات مرت، واليوم لم يعد هناك منزل لأعود إليه"، يقول محمد بحزن.

يحمل محمد صورًا قديمة لبيته، لأشقائه الذين تفرقوا في دول مختلفة بحثًا عن الأمان. لم يعد هناك أي رابط بينه وبين قريته سوى تلك الذكريات التي يؤلمها الزمن، ويزيدها البعد وجعًا.

"الوطن لم يعد الوطن الذي عرفناه، والبيوت لم تعد البيوت التي سكناها، كل شيء تغير، لكن القلب يرفض التصديق"، يضيف محمد، بينما يراقب طفلته الصغيرة التي لم تعرف سوى الخيام منزلا لها.